زينب البنت الفرنسيّة ذات الأصول العربيّة لم تلتحق بمدرستها، ولم تلتق أترابها، أيّام 2،3 و4 مارس، لكنّ مقعدها لم يكن شاغرا وإنّما كان حضورها بالغياب وقد صنعت الحدث وكتبت صفحة أخرى من تاريخ المغتربين في المهاجر.. لم تتخلّف زينب عن الدرس لتقصير منها أو لتهاون أتته ولا لتوعك مفاجئ- لا قدّر اللّه - حال دونها ومتعة الدرس. وإنّما لسبب لا أتصوّر أنّ ذهنها البريء فكّر فيه يوما، وهي الفرنسيّة العربيّة التي شبّت وترعرعت وكبرت في عاصمة الأنوار فرنسا التي قرأنا عنها أكثر ممّا قرأنا عن تاريخنا قديمه وحديثه، فرنسا التي آلمتنا غطرستها ولكنّها أيضا ألهمتنا وشدّت عقلنا ووجداننا إلى ثورتها المدنيّة الحقوقيّة التي هزّت أساسات العالم القديم من جذورها وصيّرته جزء من الماضي الذي مضى وولّى، فرنسا التي جاء عليها زمن صارت فيه شعاراتها التنوير والعدالة والمساواة وحريّة التعبير وحقوق الإنسان، تكيّف لا بحسب المبادئ الإنسانيّة والكونيّة الذي لا تجزأ، وإنّما بحسب المصالح وموازين القوى العالميّة في عصر تشيّأت فيه القيم وغدت عملة تبادليّة مثلها مثل السلع تخضع لقانون العرض والطلب في بورصة الانهيارات الأخلاقيّة .. السبب الذي منع زينب من لذّة الاستمتاع بالدرس التي لا تضاهيها لذّة، قرار رأت إدارة مدرسة »كلود برنار« اتخاذه في حقّها لا لشيء إلاّ لأن فكرة ما خامرت عقلها الطفوليّ »الكبير« بأن تردّ مضطرّة على الدعاية المجانيّة التي قام بها أستاذها في مادة التاريخ للكيان الصهيوني متسلّحا بشتّى الحجج التي تبرّر اغتصاب الصهاينة أرض فلسطين، في خروج سافر عن أخلاقيات ورسالة التعليم التي تقوم على التحلّي بالموضوعيّة والحياديّة والنزاهة العلميّة أثناء إلقاء الدرس وعدم إستغلاله لسلطاته الأدبيّة والمعرفيّة والعلميّة لتسريب آرائه ومعتقداته للتلاميذ وخاصة في بعض القضايا الخلافيّة القضيّة الفلسطينيّة التي تقبل أكثر من تأويل ورأي (بحسب المنظور الفرنسي)، وهو ما يتنافى مع روح الرسالة التعليميّة إضافة إلى مخالفته للقانون الفرنسي ذاته الذي يؤكد على ضرورة تحلّي المربي بالموضوعيّة العلميّة والحياد والنزاهة.. وأمام حملة الدعاية والدسّ المغرض وليّ عنق التاريخ التي قام بها الأستاذ تفتّق عقل الطفلة التي لم تتجاوز ربيعها الخامس عشر عن فكرة تمثّلت في ارتدائها قميصا كتب عليه »فلسطين حرّة« (palestine libre). وهو ما رأى فيه أستاذها تحدّ لسلطته وخروج عن الدرس الذي اختار أن يكون انعكاسا لما يراه هو الحقيقة الوحيدة لمشكلة فلسطين، لذا بادر إلى ممارسة سلطته ووضع زينب بين خيارين: إمّا أن تحجب الحقيقة من على قميصها بأن تخفي العبارة التي كتبتها عليه وعدم إبرازها، وإمّا أن تغادر الفصل، فما كان من الفتاة إلاّ أن انتصرت لقضيّتها وهويّتها ولآلاف الشهداء والضحايا الذين سقطوا حبّا في الحقيقة ودفاعا عن فلسطين، وأن تدافع عن أطفال غزّة والمشردين اللاجئين في مخيمات البؤس والمهانة العربيّة، ضدّ التزييف الصهيوني.. فقرّرت البنت اليافعة البريئة بكلّ شجاعة مغادرة الفصل شاهرة الحقيقة والحلم على قميصها »فلسطين حرّة«. ولعل هذه الحقيقة قد أزعجت أستاذها الذي رفع تقريرا إلى إدارة المدرسة متهما الفتاة بالتطاول ومغادرة الدرس، ولم تتأخّر (الإدارة) في استدعاء الفتاة وإحالتها على مجلس التأديب الذي أدانها وقرّر رفتها بثلاثة أيّام، رغم حملات التضامن التي قامت بها عديد المنظمات الحقوقيّة والمدنيّة والجمعيات التربويّة الفرنسيّة والعربيّة للتصدّي لهذا القرار التعسّفي في حقّ التلميذة زينب، وحتّى المراسلات العديدة - التي أرسلت إلى مرشد المعهد الذي تدرس فيه زينب على العنوان الإلكتروني: »[email protected] «مرفوقة بنسخة لإدارة المعهد »[email protected]«، كل هذه المراسلات لم تنجح في ثني الإدارة عن النيل من شجاعة وجرأة زينب وإصرارها رغم صغر سنّها على الوقوف في وجه بيداغوجيا التضليل الصهيوني التي لم توفّر وسيلة للتسرّب إلى عقول جيل المستقبل وتلويث وعيه وخلخلة قناعاته وتزييف تاريخه.. قد تكون زينب اليوم وبعد أن دفعت ثلاثة أيّام من مستقبلها الدراسي وبرغم المظلمة التي وقعت في حقّها، أكثر تحفّزا وانتباها ووعيا بتشعّب المعركة الحضاريّة التي تخوضها اللوبيات الصهيونيّة لتزييف التاريخ وعقلنة الأسطورة، متوسلة في ذلك بأساليب متنوعة ليس أقلّها التسرّب إلى المناهج التعليميّة والتركيز بالذات على علوم الأناسة (التاريخ خاصة، الجغرافيا، علم الاجتماع، الإنتروبولوجيا....الخ) التي صارت وللمفارقة مبتذلة ومحقّرة في معاهدنا وكلّياتنا.. لكنّ الأكيد أنّ قميصها وما كتب عليه سيضلّ شهادة فخار تعتزّ بها لأنّها ومن خلال ما كتبت عليه استطاعت أن تعرّي زيف الإدّعات الغربيّة بالانتصار للحقيقة الموضوعيّة، وأن تكشف لنا بأنّ الحقّ بغير قوّة وهم وبأنّ الوهم متى امتلك القوّة صار نافذا وحقيقة.. أمّا عن من ناحيتنا فإنّ تساؤلات كثيرة قد طرحتها علينا قضيّة زينب حول مدى قدرة البرامج التعليميّة في الجمهوريّة الفرنسيّة الديمقراطية والعلمانيّة على استيعاب حالة التعدّد الثقافي في مجتمعها الذي تتشكّل النسبة الهامة منه من نسيج ثقافي وديني واتني متنوّع، تشقّه صراعات كامنة تطفو للسطح أحيانا، والتي) الصراعات) وإن نجحت فسحة الديمقراطيّة الفرنسيّة في تلطيفها، فإنّ التناقضات التي تشقّ الإرادات السياسيّة لقوى الضغط المجتمعيّة التي تعكس خلفيات قوميّة ودينيّة وعرقيّة للعناصر الفاعلة في المجتمع الفرنسي، جعلت من الصعب الحديث عن الاندماج السلس والطوعي داخل هويّة فرنسيّة جامعة ترعى التعدّد وتحافظ على الوحدة. بل لعلّ الحديث عن الصهر الثقافي أقرب إلى الحقيقة وهو ما تؤكده سياسات فرنسا السركوزيّة.. إنّ بعض الهزّات وإن بدت بسيطة كفيلة بالقفز بالاختلافات التي تبدو تنوعا وثراء إلى ذرى الأزمة الحادة التي تكاد تطرح السؤال عن معقوليّة الحديث عن تعايش الثقافات.. ما وقع مع زينب يعدّ نموذجا لجملة التجاوزات التي يتعرّض لها المواطنون الفرنسيون أبناء الثقافات ذات الأصول »العالم ثالثيّة« وخاصة العربيّة العصيّة عن الصهر، خاصة مع التمفصل السياسي المتعلّق بالمشكل الفلسطينيّ ذاك الجرح الحضاري الذي يحمله أحرار الإنسانيّة عموما والعرب على وجه الخصوص، فإن كان مجرّد انتقاد إسرائيل العنصريّة والعدوانيّة يعدّ تشكيكا في »الهلوكوست اليهودي« ممّا يورث صاحبه ولو كان فرنسيا أبا عن جدّ تهمة معاداة الساميّة (كما وقع مع غارودي وعديد المثقفين الأحرار) وهي التهمة الكفيلة بنبذه وطرده من حظيرة الحداثويين ووسمه بالنازيّ والفاشيّ والعنصريّ والإرهابيّ، فإنّ زينب قد ثبّتت من خلال موقفها الرافض لإعادة كتابة تاريخ فلسطين في نسخة صهيونيّة معادلة جديدة في فرنسا تعتبر أنّ مجرّد التشكيك ولو من باب الافتراض في أحقيّة العرب والفلسطينيّين في أرض فلسطين التاريخيّة يعدّ تطاولا على الجالية العربيّة ومسّا بالثوابت القوميّة، ولعلّ هذه النقطة بالذات هي التي جعلتها وهي لم تتجاوز 15ربيعا تصرّ على الجهر بالحقيقة التاريخيّة التي وثّقتها على قميصها والتي وإن أخرجتها من حصّة في التأريخ فقد أدخلتها التاريخ من بابه الكبير.