كم من كلمة تقال و تمر مرور السحاب و كم من عبارة تلفظ و تنتهي بانتهاء خروجها من فم صاحبها، و كم من جملة قيلت منذ أمد بعيد و لكن صداها لم ينته رغم تعاقب السنون لأنها لعبت دورا كبيرا في أحداث التاريخ و غيرت مجراه و تركت بصمات في سجله... " هذا الرجل ينبغي أن يموت " هي الجملة التي قالها الزعيم الهادي شاكر و قصد بها اتخاذ القرار الحاسم للتخلص من الشيخ أحمد بلقروي... هذه الجملة اتخذها الأستاذ التوفيق عبد المولى عنوانا لكتابه الذي صدر باللغة الفرنسية في حجم كبير بلغ عدد صفحاته 428 ص عن دار محمد علي الحامي للطباعة و النشر. و قد كان لجمهور المثقفين باختلاف مهنهم و تباين مشاربهم السياسية و الثقافية لقاء بالمؤلف في إطار نشاط الجمعية الفلسفية و جمعية الدراسات الأدبية بصفاقس و دار محمد علي للنشر في حفل تقديم و توقيع الكتاب " هذا الرجل ينبغي أن يموت " الصادر عن سلسلة سيرة و حكايات و ذلك بالمركب الثقافي محمد الجموسي. و قد افتتح الحفل الأخ نجيب عبد المولى المتفقد العام في مادة الفلسفة بكلمة جاء فيها: " إن كتاب " لا بد لهذا الرجل أن يقتل " كتاب جاء إهداؤه إلى روح الشهيد الهادي شاكر و إلى كوكبة من المناضلين الذين قاوموا في الخفاء و الذين قضوا تحت التعذيب و في المعارك حبا لهذا الوطن و إلى الذين ساعدوا الأستاذ التوفيق و أمدوه بالمعلومات و الحكايات في اللقاءات التي عقدها معهم. و قد استمر بحثه عن الأحداث بين العائلات الصفاقسية حوالي 5 سنوات. ما خطه الأستاذ التوفيق عبد المولى في هذا المؤلف هي قصة جيل مقاوم، قصة وكنن قصة وطن، قصة جهة بأجنتها و طوابيها و مدينتها العتيقة و لعاداتها و تقاليدها. لقد انغمس الأستاذ التوفيق عبد المولى في قصته بأحداثها التاريخية و العائلية و الشخصية إلى درجة لم نعد نميز فيها بين الكاتب و الكتاب. لقد انصهر مع ما يكتب بحيث أصبح إصدار الكتاب هو الشغل الشاغل للمؤلف في حين خضع أستاذنا في الأيام الأخيرة إلى عملية جراحية و لحظة إعداده للجراحة كانت مخاوف العملية و مخاطرها تملي عليه توصيات و احتياطات فإذا به يوصي زوجته بالعمل على نشر الكتاب إذا أصابه مكروه لا سمح الله. صحيح أنه يحب أبناءه و يفكر فيهم و في مستقبلهم و لكن في اللحظة الحاسمة كان الحاضر بقوة هو قصة القضاء على الخونة، قصة المقاومة، قصة المناضلين الذين أصبحت تربط بينهم و بين الكاتب علاقات إنسانية، علاقات وجدانية، علاقات وجود فيها الكثير من الحب و معنى الحياة. هكذا كان الإبداع إضفاء للمعنى على الحياة و هكذا نفهم مسار بين التوفيق المتنقل من الفرد إلى الوطن إلى القيم غلى الإنسان. الأستاذ التوفيق كان وفيا لما استمع إليه فنقله على الورق و أضفى عليه من روحه و بصمته و إبداعه الفني فإذا به يصبح جزء من هذا العمل يسعد و يتأثر بما ينعكس من هذا العمل على الناس الذين تهمهم مسيرة المقاومة ضد المحتل. لقد حول الأستاذ التوفيق مكتبه إلى ورشة للكتابة و الطباعة و التسفير و كان يخرج بعد كل مراجعة نسخة و يسفرها. لقد عاش تجربة عراقيل النشر و مخاوف الناشرين و مخاوف ردود الفعل من قصة هي في الحقيقة قصة بلد و قصة وطن و قصة مواطنين. و حين عرضت على الأستاذ التوفيق إمكانية طبع الكتاب في دار محمد علي قبل دون تردد و كان هاجسه من وراء كل ذلك أن يبلغ قصة المدينة إلى أهل المدينة. و ما كان لنا أن نستمتع جميعا بهذا الحدث لولا جهود الأستاذ النوري عبيد الذي قبل طبع هذا المؤلف و توزيعه و قبل المجازفة إيمانا بقيمة الجهد و إضاءة لجوانب خفية من التاريخ. ثم أحيلت الكلمة للأستاذ الجامعي حافظ قويعة الذي جاءت مداخلته تحت عنوان: كتاب جديد عن الحركة الوطنيّة بصفاقس: الوفاء للحرية ''هذا الرّجل ينبغي أن يُقتل أو اشتغال المقاومة في صفاقس'' Cet homme doit mourirرواية تاريخية ألفها توفيق عبد المولى وهو ليس عضوا في اتحاد الكتّاب ولا مدرجا في قائمة الرّوائيين التّونسيين أو العرب ويقيني أنك لو سألت أبرز المشغولين بالشأن الأدبي عنه ما أجابك بشيء يستحق الذّكر. نحن إذن إزاء كتاب خرج به صاحبه على النّاس فجأة، كتاب مباغت حقيقة لا لأن مؤلّفة مجهول الهويّة في الساحة الأدبيّة فحسب بل لأنّ الكتاب ذاته جمع المجد من أطرافه فن الرواية وصناعة التّاريخ والوفاء للوطن، أعني الوفاء لذاكرة ثلّة من الشرفاء الذين عملوا بصمت وضحّوا بالنفس والنفيس لا رغبة في زينة الحياة الدّنيا إنما إيمانا بقيم سامية، قيم عربيّة إسلاميّة وإنسانيّة عالميّة، أخيرًا وليس آخرا هو كتاب مباغت لأنه ينطوي على مفارقة طريفة : مفارقة الكشف عن الذات بلغة الآخر خصمها وعدوها الذي كان يدّعى باسم الحماية شطبها وطردها من التاريخ، مفارقة فضح الآخر بلغته ومرجعياته أدبا وفلسفة وفكرا بصفة عامة. و لئن كان منطق فلسفة المقاومة الجذرية يقتضي الكتابة بلغة الأم لا بلغة الآخر حتى وإن كان المقصود تعريته وفضحه فإن منطق التجربة التاريخية برهن أكثر من مرّة أنه ليس آلم للخصم وأفعل فيه من ضربه بسلاحه ولا شك أن أزمة العرب اليوم تكمن أساسا في افتقارهم لسلاح الآخر، لست أعني علمه وتقنيته فحسب إنمّا لغته وميتوسه واللّغة كما بيّن أهل الاختصاص ذلك حاضنة للاثنين معًا سيما إذا ارتقت إلى مستوى من الإبداع الرفيع كهذا الذي أتحفنا به توفيق بن الصّادق عبد المولى الذي يقدّم نفسه بكلّ حياء في فاتحة المقدّمة قائلا :" لست سوى مدير مؤسسة صناعيّة" معتذرًا بذلك للمؤرخين في دخوله عليهم دون استئذان أو بالأحرى دون كفاءة رسميّة ونحن من جهتنا لا نملك إلاّ أن نقول للكاتب نِعم الصّناعيّ أنت ونعم الدخول دون استئذان على المؤرخين وعلى الأدباء خاصّة فليت بيننا عشر من الصناعيين مثلك يتقنون على هذه الشّاكلة صناعة التّاريخ وصناعة الرّواية، ناهيك إن كانت العبارة فولتارية المغنى عربيّة المعنى. هذا إذن كتاب الصّناعتين يعود إلينا مرّة أخرى مع فارق أساسي هو أنّ كاتب النسخة الأولى أعني أبا الهلال العسكري كان لحظة الكتابة يسبح في بحره وبين أهل صناعته ولم يكن فيما نَعلم يتقن لغة الأعاجم ولا تكلم أو كتب بها أمّا صاحبنا اليوم فهو هاوٍ للصناعيين لا محترف لهما ويشاكس الروم ويهزمهم في عقر دارهم وكأنّ لسان حاله يقول لفرنسا اليوم، فرنسا الأنوار وحقوق الإنسان فرنسا الحرية والأخوة والعدالة آن لك آن تعتذري رسميا عمّا ارتكبت من جرائم في حق أبناء هذا الوطن وما ذلك عليك بعزيز أنت التي تطالبين بإلحاح تركيا اليوم بالاعتذار للأرمن. على ضفاف النّص : تأمّل عنوان الكتاب ومقدمته واقرأ جيّدا خاتمته تدرك أنّك إزاء نصّ أصله ثابت في الأرض وفروعه في السماء فالعنوان بالبنط الغليظ قول رواه توفيق عبد المولى عن رواة عدول ثقات عن مناضل ابن هذه المدينة البارّ الشهيد الهادي شاكر وهو قرار حكم بالإعدام غير قابل للاستئناف ضد مواطن تونسي سامحه الله أساء لبني قومه وانحاز قولا وفعلا إلى الآخر، العدوّ المستعمر في لحظة كان الناس قد آمنوا فيها أكثر من أي وقت مضى بقرب الساعة ، ساعة النصر ساعة الفرج بعد الشدّة ساعة انكشاف الغمّة عن أبناء الأمّة، ساعة الاستقلال. نصّ الحكم هذا على قساوته لم يكن صادرا عن رغبة في الانتقام بقدر ما كان استباقا واعيا للقضاء على مؤامرة خطيرة للغاية كانت تهدف إلى اجتثاث المقاومة بقتل رموزها ودفن قاعدتها الشعبية. أما العنوان الآخر البديل أو المزاحم بأحرف أقل بروزا فهو بمثابة القاعدة الموضوعية الاجتماعية التي قام عليها العنوان الأوّل وكان لسان حال الكاتب في تأرجحه بين العنوانين يقول هذا القرار الذّي اتخذه المرحوم الهادي شاكر الإنسان الفرد ليس في حقيقة الأمر سوى قرار الجماعة. وبذلك يكون الشهيد ذاتا فوق جماعيّة Un sujet trans-individuel يعبّر عمله ألقولي عن مصلحة المجتمع وطموحاته المشروعة إلى الإنعتاق من ربق المستعمر المستبد حبيب الظّلام عدوّ الحياة. عنوان الكتاب إذن بجناحيّة يثبت النصّ في أرض الواقع التاريخي يرشّحه في الوقت نفسه إلى الارتفاع في اتجاه المطلق في اتجاه النور المشرق من شعله المقاومة ولعل ما يزيد النّص انغراسا في التاريخ. تاريخ الواقع المكتوب بدماء الشهداء لا بأحرف مزورّة. هو هذا التصدير الذّي اختاره توفيق عبد المولى رواية عن المفكر الكبير محمّد أركون "لا إنسانيّة دون وعي تاريخي متيقّط". نِعمَ التصدير هذا فهل داء أعضل نازل "بالأمّة العربيّة اليوم" من داء الأسطرة والتزييف الرّسمي للتّاريخ القريب والبعيد بصفة أخصّ حتى صرنا شيعًا تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى شيعة هنا وسنة وخوارج هناك، قاعدة تعمل جاهدة دونما وعي لتقعد بنا وتمنعنا عن الحركة وعولمة هناك تعصف رياحها الكاترينية بهويتنا تحت عناوين براقة من قبيل الحريّة وحقوق الإنسان : كلمات حق يراد بها باطل. "كذبوا علينا في التاريخ جاء التاريخ عطانا كف" لا فضّ فوك مارسال مرّة أخرى وأنت تذكرنا بدرس الماضي ولا نفدت كلماتك الكاتب توفيق عبد المولى وأنت تعبد الاعتبار لدرس التّاريخ. حسبي هذه الملاحظات على عتبات النصّ ولك أيّها القارئ أن تواصل إعمال النظر في الإهداء والمقدّمة فلن تجد غير كلمات ترشح وفاء على وفاء أمّا الخاتمة وهي إضافة إلى روح الوفاء تبقى رغم ما قد يستهجنه فيها زعماء الأدبيّة من نفس تعليمي. الدّرس الأكبر لنا وللأجيال القادمة. فضلا عن تلك البارقة الوجوديّة الجميلة التي عبر عدها الكاتب بكلمات غير قابلة للترجمة كلمات توحي بنهائيّة المنزلة البشرية La finitude de la condition humaine بقهرية الزمن قهرية الموت يشتغل يوميا على الفعل في الجسد. لا ثق السيد توفيق عبد المولى أنّك بهذه الإبداعية في الكتابة دخلت التاريخ من بابه الكبير وأدخلت معك شرفاء هذه المدينة وشهداء هذا الوطن جميعا أينما كانوا. رجالا ونساء أغنياء وفقراء ثلة من حملة الأقلام وأخرى من حملة السيوف بل بعض من المتعاونين les collaborateurs كبر عندهم في آخر لحظة أن يزجوا بأبناء الوطن في فم الغول فأبوا بجرأة نادرة إلا المحافظة على سر الأسرار درءا لمجزرة كانت حتما قادمة. خاتمة قبل البداية : أراني قد أطلت ولمّا أدخل صلب الموضوع فماذا عساني أقول قبل أن أسكت احتراما للمقام الذي يقتضي إعطاء الكلمة لصاحبها ولكم لمحاورته... هل أحدثكم عن قدرات توفيق عبد المولى الإبداعية على إحياء الأسماء الموات انطلاقا من وقائع موثقة استحالت مشاهد حيّة.بل سنفونية أصوات متعددة: وقار وهيبة وكرم السادة الصادق عبد المولى وأحمد بن عياد وعمر العفاس وعبد الجليل الطرابلسي وغيرهم من علية القوم؟ عن روح الإيثار الاستثنائية لدى الشهيد الهادي شاكر وكل أفراد عائلته؟ عن انضباط وجنون المناضل محمد بن رمضان، شجاعته النادرة وجموحه جموح الفرس الأصيل؟ عن دهاء محمد كمّون وخفة روحه وهو يخطّط للإيقاع بالعدو من جنان السّبعي تاركا والده وأفراد أسرته في التسلل عن النوري الجموسي يحرّق بذكاء أعمدة الكهرباء ليقطع خيوط التواصل بين الأعداء ويطفئ النور من حولهم أنّى مشوا فيه؟ عن نضالية محمد بوليلة وأحمد شطورو وأحمد العيادي ومحمد القسنطيني والطاهر المظفر وأحمد شبشوب ومحمد الرّجباني وإبراهيم غربال ومجنون المدينة العاقل اللومي بائع القطط؟ وهل أحدثكم عن أجمل ما في الرواية نعم أجمل بأفعال التّفضيل ولا حرج في ذلك البتة أعني كوكبة النّساء المناضلات: نفيسة شاكر ومجيدة بوليلة والسيدة زغل وليليا الحجري وحليمة عطية والسيدة الفندري حرم علي وعبيشة قرمازي وسارة عبد المولى وشقيقة محمود كريشان ثلة من النسوة. تظاهر البعض منهنّ في الشارع وصمد البعض الآخر في البيت رغم الدّاء والأعداء... قائمة هؤلاء النسوة المناضلات لا تنتهي و كم كنت أود الوقوف عند نبل سامية وجميلة بنتي علي الرحباني أمّا حليمة بن رمضان أطال الله أنفاسها وغيرها من المناضلات الأحياء فصورة من الوفاء تحتاج حقا إلى تحية إجلال خاصّة. أخيرا وليس آخرا لا مناص من التّرحم على روح الحارس الأمين بلقاسم الذي استمات إلى آخر لحظة ولم يهتك الأسرار... لفتة أيضا لا بد منها إلى رحومة الرحيبي الذي أطال الله أنفاسه قاوم النفس الأمارة بالسوء وفضّل حماية بني قومه على نياشين المستعمر واضعا مصيره على كف عفريت. لا يمكن أن أختم قبل الإشارة إلى أنّ هذه الأسماء وهذه المشاهد الحيّة...هذا المتخيّل الواقعي لم يكن ليسكن مخيلتنا لولا تقنيات القص الرفيع عند توفيق عبد المولى وخفة روحه التي تعبق صفاقسية في كل صفحة: النكتة والاستطرادات المرحة والعبارات المحلية الصنع ، محلية هي لعمري جواز العبور الأوحد إلى العالمية، الأصالة المنفتحة على الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان. في العدد القادم نمد قراءنا الكرام بآراء بعض الأساتذة حول هذا المؤلف الذي شد الكثيرين أولا لما جمع فيه صاحبه باقتدار بين تسجيل و توثيق مرحلة هامة من تاريخ الحركة الوطنية بتونس و بالتحديد في بداية الخمسينات و ثانيا لما تميز به أسلوب الكاتب من قدرة على حبك فن الرواية.