رغم ادراكه حرج اللحظة وعمق التراجعات الايديولوجية والسياسية التي تحتاج عالم اليوم، فإن محمد الكحلاوي يصرّ على رفع التحدي ساخرا من كل المتساقطين على طريق النضال الأممي من أجل مجتمع العدالة والحرية. كتاب من الحجم المتوسط (208 صفحة)، على غلافه صورة جموع حاشدة رصّت صفوفها وتعالت هممها وهي ترفع شارة النصر ايمانا منها بقدرها الاجتماعي في صراعها مع كل رموز الاستغلال والقهر والاستيلاب ولعلّ روح الكاتب التي ما زالت تتأجّج نزوعا ثوريا رغم الهزائم المرّة والموجعة التي عرفها اليسار في العالم أبت الا ان تمدّ اليدّ عالية فوق رؤوس الحشد بعلامة نصر حمراء قوية علامة على إصراره على المضي قدما والوقوف سدّا منيعا وصوتا مدوّيا. »دفاعا عن الاشتراكية العلمية« الكتاب هو عبارة عن مجموعة من المقالات صدرت بجريدة الشعب لسان الاتحاد العام التونسي للشغل تباعا مع مطلع الألفية، رام من خلالها الكحلاوي التصدي لحملات التشويه الممنهج التي تعرض لها »الفكر الاشتراكي العلمي« والتي ردّها في توطئة الكتاب الى علاّت ثلاثة هي: ❊ جهل الاغلبية من »الناس« لمواقف الفكر الاشتراكي. ❊ سيطرة الفكر التغريبي المؤدي الى الانبتات والتقليد. ❊ سيطرة الفكر الخرافي اللاهوتي المؤدي الى الاتكاء على القوى الغيبيّة. ان جملة هذه المقالات التي مثلت متن الكتاب تعد بمثابة الدفوعات الفكرية لإبراز »وبيان موقف الفكر الاشتراكي العلمي من عدة قضايا... والاجابة عن بعض المسائل المحلية والقومية والأممية...«. ردّا على الاحتفالية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية عموما مع نهاية القرن المنقضي وعلى بيان النعي الفكري الذي تلاه أكبر منظري »العولمة الرأسمالية الامبريالية« »فوكوياما« الذي بشّر في كتابه »نهاية التاريخ والانسان الأخير« بانتصار الليبرالية النهائي ممثلة في أعلى مراحلها توحشا، وسعيها الى أمركة العالم وفتح الأوطان أمام الراسميل العابر للقارات بالإقناع أو الاغراء أو التهديد أو بالقهر العسكري ان تطلب الأمر. يدفع الكحلاوي بكل ما أوتي من قوّة الحجّة ليدلّل منذ البداية وبلا ترضيات يستوجبها الترف الأكاديمي بأن »حتمية الازمات الاقتصادية للعلاقات الرأسمالية، اصبحت في هذه الأيام واقعا ماديا نسف كل تلك الدعاوي والأكاذيب البرجوازية...«. مستشهدا في ذلك بالازمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية الاخيرة التي رأى فيها الاستاذ الكحلاوي اثباتا لا يقبل الدحض لصحة الفكر الاشتراكي ولبطلان الفكري الديني والبرجوازي. ولا يتأخر الكحلاوي مزهوا بالتصدع الذي ضرب الاقتصاد الرأسمالي في اكثر مفاصله حساسية »رأس المالي المالي« (البورصات والبنوك) من اعلان الفكر الاشتراكي نظرية الطبقة العاملة إيديولوجية الكادحين وسلاحهم، وكأنه يستبق الحدث التراجيدي الرأسمالي والانكسار الاخير الذي قد يكون رأى بعض نذره في الأزمات الرأسمالية الدوريّة وتراجع الهيمنة الامريكية الاقتصادية والعسكرية على العالم أمام تمدّد التنين الصيني وتنامي قوى التحرر الوطني والقومي سواء في الوطن العربي ممثلة في المقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية اضافة الى تنامي الحركات الاحتجاجية العمالية ضد الاستغلال الفاحش الذي تتعرض له. هذا اضافة الى حالة النهوض المتنامي لليسار في امريكا اللاتينية وبروز قيادات شبابية رافضة للصلف الامريكي مثل »هوغو شافير« رئيس فينزويلا، قلنا وكأننّا بالكحلاوي يستبق هذا الحدث ليذكّر البشرية المعذبة والمستغلة والمقموعة بنظرية خلاصها والتي لن يتردد الكحلاوي في اعتبارها دون منازع »الاشتراكية العلمية«. يفتتح الكحلاوي كتابه بسؤال في الماهية »ماهية الاشتراكية؟« ولعل هذا المدخل متسقا مع اعلانه في الطوطئة »جهل الناس لمواقف الفكر الاشتراكي العلمي« فالأولى أن يبدأ مقاربته بتحديد المفاهيم التي سيتأسس عليها الفهم العلمي والوعي النوعي للجماهير الكادحة وينطلق منها النصّ الدفاعي، ولعل السياق السجالي للكتاب دفع بالاستاذ الى انتهاج استراتيجية التعريف بالخلاف فعمد في الفصول (المقالات) المتتالية للكتاب الى وضع الاشتراكية ازاء عدّة مفاهيم لإبراز موقفها منها باعتبارها نظرية في المعرفة ومنهجا في تفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي على التوالي: الرأسمالية، الاستعمار، المسألة الوطنية، القومية، التراث، التقدم العلمي، الأمية، الميز العنصري، المسائل الاجتماعية، العمل النقابي، النضالات العمالية في العالم: غرة ماي نموذجا...، تنظيمات الطبقة العاملة الأممية ونضالاتها 1 / 2، اللغة (وهنا يتوقف الاستاذ الكحلاوي مطوّلا ليقدم لنا تأصيلا لأهمية اللغة مقدما قراءة لوضعها الحالي والمستقبلي)، الحرب، الديمقراطية، الحريات السياسية، الارهاب، البطالة، العدالة الاجتماعية، الدولة (الدولة الطبقة وأدوات الحكم / دولة المجتمع اللاطبقي)، البرجوازية الصغيرة 1/2، فوضى الانتاج الرأسمالي، المزاحمة في الانتاج الرأسمالي، وفي الاخير المرأة والاشتراكية. وبذلك يكون الاستاذ محمد الكحلاوي قد أتى في كتابه على كل القضايا القديمة والمعاصرة والمستجدّة وبيّن بأسلوب حجاجي تعليمي ينمّ عن انغماس الكاتب في الشأن العام وعن انشغاله بالهمّ الكوني قدرة الاشتراكية العلمية على الاجابة على كل الاشكاليات، مهما كانت تعقيداتها وتشعباتها، ولعل في هذا التأكيد من طرف الكاتب على راهنية الفكر الاشتراكي خير دفاع عن ضرورة إحلاله المكانة المعرفية والعلمية التي يستحقها بوصفه وكما أكد اكثر من مرة الحقيقة الموضوعية ضدّ الوهم الليبيرالي والديني. مساهمة متميزة ولا شكّ تلك التي قدّمها لنا الاستاذ الكحلاوي في كتابه، ومهما كان نصيبها من الاقناع بجدوى استعادة المفاهيم الاشتراكية العلمية كأدوات قادرة على تحليل الازمات التي تردّى فيها العالم المعاصر، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والبيئية والنفسية، فإنه لا شك يحسب له جرأته وشجاعته وأصالة تفكيره والتزامه التي لم تهزّها رياح »البروسترويكا« الكونية التي خلخلت الثوابت ونسّفت القيم.