أصدر محمد الكحلاوي المناضل النقابي والسياسي كتابَهُ الجديدَ: معركة 26 جانفي 1978، الاسباب والوقائع المخلفات والنتائج بعد جهد ميدانيّ وتوثيقيّ وبحثيّ مهمّ تجلّى بوضوح في عمله التأريخيّ موضوع مقالنا، وقد شدّني الكتاب لما فيه من مواطن جدّة وافادة واضافة على مستوى الموضوع المطروق والمقاربة المنهجيّة المعتمدة والوضوح في مستوى الرؤية والموقف من «المعركة» وأطرافها من هنا ستكون مُقاربتي لهذا العمل من خلال نقاط محدّدة: أتطرق فيها إلى ما أراهُ مواطن قوة واضافة اساسية فيه. 1 هذا هو العمل التأليفي الأوّل، في حجمه وجهده، الذي يتناول بشكل مفصّل هذا الحدث الجلل في تاريخنا المعاصر، واذ كُنّا لا نعدم أعمالاً أخرى في شكل مقالات او مداخلات او شهادات تطرقت إلى نفس الحدث فلماذا تأخّر التأريخ لهذه المحطّة المشرقة كلّ هذا الوقت؟ لماذا أمسك المؤرخون والكتاب عن تدوين تراثنا السياسي والنقابي الذي جسّم تضحيات اجيال كاملة من الوطنيين من مُختلف الاطياف والعائلات السياسية والفكريّة؟ يأتي هذا الكتاب إذًا ليسُدّ جُزءًا من هذا النقص الفادح في الكتابة التاريخيّة للفترة المعاصرة وللتاريخ القريب. 2 يتبنّى هذا العمل الرّؤية النقابيّة والموقف السياسي المعارض لمواقف السلطة القائمة زمن الاحداث فقد ابرز الكاتب موقف الاتحاد والعمال والتشكيلات النقابية المؤثرة كما تبنّى قضايا الفلاحين والطبقات الكادحة والمسحوقة والعاطلين في الارياف والاحياء الشعبية والقصديرية والطلبة في الجامعات في مواجهة التحالف الطبقي الحاكم. 3 خصّص الكاتب جزءًا مهمًّا للشهادات الشفوية لعدد من الفاعلين النقابيين الذين شهدوا الاحداث وساهموا فيها بشكل مباشر، وإنْ بمستويات مختلفة. لقد بقي أرشيف الصّدور مُهملاً وممتهنا لفترات طويلة من قبل التوجّه الأكاديمي والمقاربة الوضعية التي تعتبر الشهادة الشّفوية مدخلاً إلى الذاتية ومصدرًا لتشويه الحقيقة نتيجة لضعف الذّاكرة او الرغّبة في التشويه او التزييف. ورغم وجاهة بعض الانتقادات الموجّهة إلى مصداقية الشهادة الشفوية فإنّ الباحث المتحرّي يُمكن ان يستأنس بها في عمله ليُثير بعض الاشكاليات او الحقائق التي تسْكت عنها الوثائق الماديّة أو تهملها، ومما استوقفني في هذه الشهادات ما تميزت به من ثراء وتنوّع وشمول فقد شملت عددًا من القياديين النقابيين في مختلف التشكيلات النقابية مركزيًّا وجهويّا ومحليًّا، قيادة ومناضلين قاعديين الامر الذي يوفّر قدرًا كبيرًا من المصداقية في سرد الاحداث، وينسّبُ من الدّوافع الشخصية في تأويلها. 4 اعتمد الكاتبُ الماديّة التاريخية منهجًا تحليليا نقديّا في معالجة الأحداث فكان وفيّا لمرجعيّته النظرية والمنهجية في علم الاجتماع الماركسي التي تُعطي للمادة وللعوامل الاقتصادية وللوجود الاجتماعي قيمة العامل المحدّد في نهاية التحليل، انّها نظريّة ماديّة جدلية لانها تعتبر أنّ كل ظاهرة يجبُ أن تُدرس في إطار ديناميّة تتعارض في صلبها القوى المتناقضة (المادة والحركة، العام والخاص، الحياة والموت، السلميّ والايجابي) لذا نجدُ الكاتب يؤكّد على طابع الصراع الطبقي بين طرفين هما: 1 الائتلاف الطبقي الحاكم الذي يتشكّل من السلطة والاعراف والبورجوازيّة الليبرالية وكبار ملاّكي الأراضي وكبار الموظفين والتجار وجهاز الحزب الحاكم ممثل «الكمبرادور». 2 العمّال وصغار الفلاحين وصغار الموظفين، وهنا أهمل المثقفين العضويين، او الانتيليجنسيا وان اشار الي الطلبة ودور الجامعة التونسية في هذا الصراع وقد اكّد محمد الكحلاوي ان العلاقة بين الطرفين قد قامت على قوانين الاقتصاد الرأسمالي المرتكز علي توفير فائض القيمة والأرباح من قوة عمل الكادحين، أو المنتجين المباشرين الامر الذي يُدخل الطبقات المشكلة للوجود الاجتماعي في علاقات صراع تناحريّة تُفهم في إطار الفكر الماركسي، من خلال القانونين الجدليين: قانون وحدة الاضداد وصراعها وقانون نفي النفي. لقد ادّت هذه العلاقات الاستغلاليّة الى تعمّق الفوارق الطبقية وإلى احتداد التنافضات الاجتماعية الأمر الذي دفع الى المواجهة الحتميّة بين طرفيْ العلاقة وممثليْها: الحزب ومن ورائه الدولة ممثليْن للطبقة المهيمنة والاتحاد ومن ورائه العمال وعموم الفئات المسحوقة. 5 يُعالج الكاتبُ القضايا المطروحة في عمله دون حياد كاذب او رغبة في التمويه عن الموقف، إننا نجده يُعلن انخراطه منذ المقدمة في ذات الصراع ضد السلطة منتصرا للعمال والفئات المسحوقة، إنّ لهذا الموقف النضالي المنحاز مبرّرات منهجيّة في النظريّة المادية التاريخية التي لا يمتلك التفسيرُ فيها والسردُ الباردُ المحايدُ أو التحليل أهميّة في ذاته اذا لم يندرج أو ينخرط في التوظيف خدمةً لقضايا العمال وترسيخًا للوعي الطبقي وكشفًا لمظاهر الاستغلال والاستعباد وهذا ما يفسّر قول لينين بان الماركسيّة تجمع بين العلميّة العميقة والثوريّة ذلك انّ الدياليكتيك، سلاحٌ نظريٌّ جبارٌ في يد البروليتاريا في نضالها من أجل تغيير العالم تغيرًا ثوريّا، وهو ما يجعل الماركسيّة فلسفة ثوريّة بل «منهجٌ ثوريّ قائم على قاعدة فكريّة تعبّرُ عن ايديولوجيا ثوريّة» كما يقول «حسين مروّة» في «النزعات الماديّة». انطلاقًا من كلّ ذلك جاء هذا العملُ طافحًا بالرّوح النضاليّة واللغة الجدالية السجالية عبّرت عن انحياز الكاتب في مستوى المعجم والخيار والرؤية ورغم ما يمكن ان يُثيره مثل هذا الانحياز من انتقادات منهجيّة لطبيعة الكتابة التاريخية ووظيفة المؤرخ وقيمة المفهوم العلميّ والمنهج الاكاديمي فإنّ الكاتب قد بذل جُهدًا بحثيّا كبيرا سيجعل من كتابه مرجعًا لا يُمكن الاستغناء عنه مستقبلاً عند مُعالجة قضايا 26 جانفي 1978 التي تمثلُ محطة مشرقة في تاريخنا الوطني في الفترة المعاصرة.