هناك من لا يقدر يوميا على حصر عائداته المالية رغم أنّه لا يعمل ولا يتعب. وهناك في الطرف المقابل من لا يعلم، إن كان اللّه سيسوق له قوتًا يملأ بطون أبنائه الخاوية. وبين هذه الشريحة الاجتماعية وتلك، يقف السواد الأعظم من الشعب على معاني العمل وأبعاده بعد مكابدة فكرية أو بدنية تصل أحيانا حدود الإرهاق. هنا، قد يقول القارئ إنّ هذا الأمر طبيعي ولا يقتصر على بلد دون آخر، غير أنّ صاحب العقل قد يصاب بوجع الحيف ومرارة القهر.. خاصّة وأنّ صاحب العقل هذا هو بالضرورة من النخب التي تربّت على أهميّة العلم والمعرفة وجدوى الثقافة ونبل الإبداع. إنّ غالبية نخب اليوم بشهاداتها العليا وبوظائفها، لا تقدر ماديا على تسديد كلفة الحياة اليومية، فتذهب قسرا إلى التداين البنكي أو العائلي أو المعاملاتي بشكل عام. وكأنّ الرهان على التعليم بات يولّد جراحات واسعة النطاق في نفوس ما نُسمّيه سياسيا أو اجتماعيا »الطبقة الوسطى«. فالتعليم كان على مدار العقود الماضية وسيلة للإرتقاء الاجتماعي والرفاه المادي والمكانة الاجتماعية المرموقة. لكنّه أصبح اليوم بمثابة البوّابة نحو البؤس الجماعي. حيث انقلبت القيم والمعايير، فأصبح المعلّم والأستاذ والصحفي والممرّض والموظّف أقلّ حظّا من المغنّي والراقصة ولاعب كرة »المضرب«!! فالنخب باتت متسوّلة ماديا وافتراضيا وإلكترونيا.. وإلاّ بماذا نفسّر بسط الأيادي بداية من الأسبوع الثاني لرأس الشهر؟ وبماذا نفسّر أيضا تداعي المكانة الرمزية والاجتماعية لرجال المعرفة والثقافة؟ ثمّ بماذا نفسّر بروز ظاهرة المخاطبة الهاتفية وانقطاعها في نفس اللحظة؟ هذا إذا لم يعتمد مخاطبك على ارسالية قصيرة يلتمس فيها مخاطبته!! »الجزّار« و»الخضّار« و»العطّار« وكلّ الأسماء الفاعلة المنتهية بحرف »الراء« لم تعد متحمّسة للتعامل مع »مشتقات« النخب على مختلف اختصاصاتها.. بائعو الملابس القديمة وتجّار الأسواق الأسبوعية وسائقو التاكسي واللّواج باتوا بدورهم لا يتعاملون مع محدودي الدخل. بائعو الملابس القديمة صاروا يضيعون على يافطات حوانيتهم »فريب رفيع«.. وتجّار الأسواق الأسبوعية طوّروا من خدماتهم فهم يعدون سلعهم بصورة مسبقة ويضعونها بعد ذلك داخل العربات الرفيعة... سواق التاكسي يكثّفون حركتهم أمام المطارات والنزل والملاهي ويهجرون المستشفيات العامة والأحياء الشعبية... أمام صعوبة وتيرة الحياة وتعقيدات الإنفاق العائلي، لم تعد النخب مؤمنة بقيم الحداثة والتقدّم والعدالة، بل أصبحت تدفن أحزانها إمّا في الخمارات أو في المساجد. والخمارة هنا لا تتخلّف عن المسجد إلاّ في قداسة المكان.. ولا تلتقي معه إلاّ في الهروب من جحيم الواقع... ومن هنا، نفهم لماذا يتراجع النتاج الفكري والإبداعي، ولماذا يقلّ الحراك الاجتماعي والسياسي. ومن هنا أيضا نفهم تنامي ظواهر السرقة والعنف والرشاوي والبغاء والمخدرات... وبالتالي نتأكّد يوما بعد يوم انّ الانسان بدأ يفقد انسانيته ليتحوّل تدريجيا إلى سلعة تتاجر ببقيّة السلع المادية معتمدًا الدهاء بدل الذكاء، والمكر بدل الفكر. وبالمحصّلة، بدأنا جميعا نقف على مناطق خطيرةو تقرّبنا من هاوية التفكّك الاجتماعي، حيث يتراجع التواصل في لغته المعبأة بالشحن العاطفيّة وبجماليّة اللفظ، تاركا المجال لا ساليب جديدة في الشكل هجينة في المضمون ما انفكّت دائرتها تتوسّع بين الأجيال الشابة ذكورًا وإناثًا داخل المعاهد وخارج أسوار الجامعات. ألم تكن المعاهد والجامعات خزانة الوطن لكلّ الطاقات السياسية والادارية والفكرية والنضالية؟! فلقد أصبحت هذه المؤسسات فضاء خصبًا للدروس الخصوصيّة وكاد ينحصر دورها في تعليم الناشئة كيفيات التعامل مع الحاسوب لا غير!! قد يبدو هذا التشخيص أسودًا لبعض الذين تعوّدوا على تجميل الواقع خدمة لأغراضهم الشخصية وتبريرًا لما تبقى من الضمائر الحيّة التي تنشد الأفضل من خلال استنطاق الواقع واستفزازه. لكن علينا أن نسألهم الأسئلة التالية: كم يصل أفضل راتب في الوظيفة العمومية لأسمى منصب ولأعلى شهادة؟ هل أنّ هذا الراتب قادر على أن يكفل دراسة ثلاثة أبناء بالجامعة من سكن ونقل وملبس؟ ماذا يمكن أن يتبقى من هذا الرّاتب الخاضع أبدًا إلى دين بنكي ومصاريف يوميّة جمة فيها معاليم البنزين والعلاج والأكل واللباس؟ ثمّ هل أنّ الجُيوب الخاوية يمكن أن تملأ البطون الجائعة وتغرس في النفوس اليافعة المبادئ والقيم الإنسانية السامية؟ مؤخرا أعلمني أحد أصدقائي ممّن ذهب للتدريس بالتعليم العالي بأبصارهم وأعمارهم، ان أبناءه قرّروا عدم مواصلة التعليم، لأنّهم رأوا في درجته العليا أسوأ درج في الحياة الكريمة!! فهل يكون الحلّ في تمكين النخب من الحق في »ازدواجية العمل« أم في اعادة القيم للعلم والنخب؟ إنّ أقسى الأمور على النخب أن تعجز من خلال جهدها على تلبية حاجياتها الأساسية لأنّها ليست كالأسد يأكل ممّا تصطاده اللبؤة. وان كان قديما قد قيل »تجوع الحرّة ولا تأكل من ثدييها«.. فإنّ اليوم يقال لا يمكن لجائعة أن توصف بالحرّة.