يومها ماتت الجبّانة... ولا أحد يعلم كيف حدث الأمر.. ذلك أنّها لم تستقبل ميّتا... بل دهرا من الحياة يقف عنوة بشموخ الموسيقى... إحدى أهمّ الفنون قاتلة الموت، ألم يقل درويش للموت في جداريته: »قتلتك الفنون جميعها« ذلك هو فيصل القروي الذي ودّعنا في غفلة عنّا ومنّا ومضى... واجهني الأصدقاء ببهتة انحباس الدّمع... وبحيرة المكان الذي بقي بيننا... كلّ المسافات مرتبكة في عيون شاردة فتحي العبّاسي، حفّه، سعادة الامبراطور... والقائمة تغيم بالأسماء إلتقيته يوما مع أبي الفتوح في النّادي، كان ثريا بالجمال والأناقة ومترفا باللّطافة والهدوء، وأحبّني فجأة وقبل على غير عادة منه أن أكون له جليسا مع خلّصه من الأصدقاء، كان يحبّ الشعر... ولكن قلبه غامر بالساكسو، معبوده الذي يلتصق به حدّ الوله، كان يقيم له الطقوس، فيغتسل له قبل ان يبدأ معه رحلته في العزف أو التدرّب، هكذا يفعل، حتى أن الساكسو لم يخنْه وأصبح ذا روح وعناد: في إحدى الحفلات وهذه ليست خرافة، بل حقيقة حدّ الخرافة، سقطت من الساكسو إحدى القطع وأمام الجمهور ارتبك فيصل القروي وواصل العزف ولم يتوقف صاحبنا وحين انتهت الحفلة، التقط العازف القطعة وتأبط صاحبه ودخل وراء السّتار، أعاد له القطعة المكسّرة وحاول العزف ولكن الساكسو أبى: كان فيصل يقول في بهجة غريبة: »لقد كلّني قال لي لم أخنك على الركح أمام الجمهور، ولكنّنا الآن وراء الستار وحيدين، لقد تعطّبت«. هكذا كانت درجة الحبّ بين العازف وآلته، هو الذي عزف به في بلاد الساكسو، أمريكا، وهو الذي جاب به الدنيا من الصين إلى كلّ أصقاع العالم، بدأت رحلته معه مع الڤرفي وبشير الدريسي، ومرّ على مهرجانات قرطاج من المسرح إلى الموسيقى حتّى انه في إحدى المرّات الفاشلة لمهرجان قرطاج السينمائي اعتبر النقّاد أن أحسن عرض هو لعازف الساكسو الجميل الذي انقذهم في الاختتام كان يحتفظ لأمينة بمهابة وإحترام وحب كبير حتى انه حين يتحدّث عنها مع الاصدقاء يقول »مدام أمينه« وكانت العبارة توحي لنا بجلال العلاقة بينه وبين المرأة التي أعادته إلى الموسيقى والحياة أهداني في 3 جوان 2005 قرصا لأمينه من تلحينه »زوركند« وكان قرصا مليئا بالتراث بما فيه التراث الجزائري »يالرايح« ومن يومها عرفت أنّ الرجل لا يلحّن إلا النصوص الجميلة الراقية فحتى عروضه الخاصّة كانت بعناوين: ليت هند، شهرزاد، كلارا ولعل أهمّ لحن بالنسبة للشعراء وأهل القلم هو تلحينه نشيد المغرب العربي لمفدي زكرياء لك يا صديقي الخلود... وهل الموت إلا رحلة في البقاء... ليس للذّاهبين جمعا إليه... بل الذاهبين إليه فرادَه... وانت الفريد... أسّست دهرا من العمر لا ينتهي...