منوبة: احتراق حافلة نقل دون تسجيل أضرار بشرية    تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي في هذه الولاية..    عاجل/ مسؤول يؤكد تراجع أسعار الأضاحي ب200 و300 دينار..ما القصة..؟!    تونس تستقبل أكثر من 2.3 مليون سائح إلى غاية 20 أفريل 2025    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    في مظاهرة أمام منزله.. دروز إسرائيل يتهمون نتنياهو ب"الخيانة"    جندوبة: سكان منطقة التوايتية عبد الجبار يستغيثون    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    عاجل/ هذه البلدية تصدر بلاغ هام وتدعو المواطنين الى الحذر..    البرلمان : مقترح لتنقيح وإتمام فصلين من قانون آداء الخدمة الوطنية في إطار التعيينات الفردية    استقرار نسبة الفائدة في السوق النقدية عند 7.5 %..    عاجل/ قضية التسفير..تطورات جديدة…    عمدا إلى الإعتداء على شقيقين بآلة حادة ... جريمة شنيعة في أكودة    عاجل : ما تحيّنش مطلبك قبل 15 ماي؟ تنسى الحصول على مقسم فرديّ معدّ للسكن!    الرابطة المحترفة الاولى: صافرة مغربية لمباراة الملعب التونسي والاتحاد المنستيري    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    الإفريقي: الزمزمي يغيب واليفرني يعود لحراسة المرمى ضد النادي البنزرتي    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    إلى الأمهات الجدد... إليكِ أبرز أسباب بكاء الرضيع    ارتفاع تكلفة الترفيه للتونسيين بنسبة 30%    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    القضية الفلسطينية تتصدر مظاهرات عيد الشغل في باريس    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معكم إلى النجاح
نشر في الشعب يوم 05 - 06 - 2010

سيكون الملحق الذي بين أيديكم هو الأخير قبل دخولكم الإمتحان وهي مناسبة لنجدّد لكم أمنياتنا الصادقة بالنجاح والتفوّق. ما نعدكم به هو أنّ صحيفة »الشعب« ستظلّ مرافقًا لكم وأنتم تنشدون المزيد من النجاحات فلاشيء أثمن من أن نرى وطنًا مزهرًا كالربيع.
اسمحوا لي باسمكم وباسم أساتذتكم اللذين أثّثوا هذا الملحق بأعمال تطلّبت من الجهد الكثير، أن أشكر كلّ العاملين بجريدة »الشعب« على صبرهم وتشجيعهم اللاّمحدود لنا وقديمًآ قيل إنّ الشيء من مأتاه لا يستغرب.
إلى اللّقاء
سنان العزّابي
الغير: من استحالة المعرفة إلى ضرورة الإعتراف
سنان العزّابي
ليس الإقرار بوجود الآخرين كافيًا لبيان أنّ »التوحدية« (Le solipsisme) كعقيدة تتبنّى فكرة أنّ الأنا يكفي ذاته بذاته هي عقيدة متهافتة، إذ يتطلّب الأمر بيان لماذا وكيف يكون اللقاء بالغير ضرورة لايمكن تجاوزها بالنسبة للأنا وهو ينشد استكمال وجوده وموضعته.
إنّ حضور الغير يتعدّى في تقديرنا مسألة التعاون لتدبير المعاش والمواجهة المشتركة للطبيعة إلى مسألة الحاجة التي تسكن كلّ انسان إلى إعطاء معنى لوجوده أو لتوليد الإحساس بهذا الوجود إذ أنّنا نعلم أنّ ما نسمّيه تواصلا مع الآخرين إنّما هو استجابة لما تفرضه الحاجة إلى المعنى من حضور لأحكام الآخرين وتقييماتهم، إثباتًا أو نفيًا.
إنّ الغير بهذا المعنى هو شبيه لي من جهة أنّ مشروع استكمال الوجود المادّي والمعنوي هو نفسه بالنسبة لي وله، فالإنسان وفق تحديد »سبينورا« »كوناتيس« (Conatus) أي جهد للحفاظ على الذات ومن السّهل حينئذ تصوّر أو لنقل تخيّل كيف تشكّلت مظاهر الإجتماع الأولى بين البشر على هذه القاعدة من التشابه. من جهة أخرى تبدو الغرابة ملازمة لتاريخ الانسان إذ لا نعرف بالضبط متى كان هناك »سلمٌ أبدي« بين الناس إلى حدّ يجعلنا نقول أنّ العنف والصراع وشتّى ضروب المواجهة بين الأنا والغير لازمت تاريخ البشر وهي تلازمه وكأنّه لا انفكاك بين اللقاء والصراع، بين التشابه والإختلاف.
واضح إذن أنّ صورة الغير مشدودة إلى بعدين متلازمين: إنّه (أي الغير) وبقدر ما أنّني أرى فيه ملامح منّي فإنّي في نفس الوقت لا أعدم الوسيلة في ادراك أنّه يظلّ في النهاية ما »ليس أنا« أي مختلفًا وهو مايُجْملُهُ التّعريف الذي قدّمه سارتر للغير: »إنّه الآخر، أي الآنا الذي ليس آنا«.
يحمل هذا التّعريف ما يمكننا التعبير عنه بإغراء الغير وهو الإغراء الذي يجعلنا دائمًا مشدودين إلى معرفته: الغير مسافة واقتراب في نفس الوقت وربّما هذا ما يمنعنا من تجاوز الغير سواء باسم نزوع توحّدي أو تحت مطالب الاستقلالية الفردية التي أفاض ماركس في بيان أنّها محض وهم إيديولوجي.
ما يمكن إذن الإنتهاء إليه في هذا السياق هو أنّ اللقاء بالغير وأيّا كان الشكل الذي يتخّذه هذا اللقاء (قرابة، صداقة، حبّ، عداوة إلخ..) لا يمكنه أن ينتزع من وجود الغير حقيقة كونه أنا وآخر في نفس الوقت وأنّنا نظلّ الطريق إلى الغير إذا ما اختزلناه في صورة الشبيه المطلق وأيضا في صورة المختلف المطلق. هو اذن »آنا آخر« (Alter-ego) بشرط أن نفهم من ذلك أنّه آنا آخر وليس صورة منّى.
للغير إذن منزلة مربكة وغامضة لكنّها في جميع الأحوال مغرية للمعرفة وليست مناسبة للخوف من الغير فهل يمكن اذن المغامرة بطرح مشروع معرفة الغير والحال أنّنا قد نعتنا حضوره بالغموض والإرباك؟ في المقابل أليس إهمال مطلب هذه المعرفة أساسًا لشتّى أصناف سوء التفاهم؟ ألم يبيّن روسو بإطناب في كتابه »محاولة في أصل اللغات« كيف أنّ جهل البشر لبعضهم البعض وبالتالي لما يمكن أن يجمعهم هو ما يقف وراء النزاعات الدمويّة التي عرفتها مختلف لحظات لقاء الإنسان بالإنسان؟
إنّ التعاطف مع الغير في أدنى مظاهره يظلّ كما يشير روسو رهين إدراكي لما يمكن أن يكون مشتركًا بيننا، فإذا لم أكن أعرف مثلا أنّه يتألّم لا يمكن انتظار أن تولد فيّ مشاعر التعاطف معه ولذلك افترض روسو أنّ انسان الطبيعة لم يكن لا خيرا ولا شرّيرًا لأنّ انعدام الفكر لديه جعله لا يحسّ إلاّ ذاته ولا يرى أبعد ممّا اعتاد رؤيته: إنّ المختلف بالنسبة له غريب عن عالمه. إنّنا إذا ازاء كائن لا يعرف ذاته وان كان يحسّها ومن لا يعرف ذاته لا يمكن بأيّ حال تصوّر أنّه سيكوّن فكرة عن الغير بل على العكس من ذلك يمكننا تخيّل هذه الكراهية البدائية التي يبديها إنسان ما قبل الفكر لكلّ ماهو عاجز عن إدراكه أو يقع بعيدًا عن دائرة عيشه الضيّقة.
واضحٌ إذن أنّ جهل الغير وتجاهله يساوي خطر الحرب ونموّ الكراهية لكن أليست معرفة الغير من باب الإستحالة خصوصًا وأنّ معرفة الآنا لذاته لا تكون إلاّ على نحو حدسي ووجداني؟
كيف يمكنني تصوّر قدرتي على معرفة الغير والحال أنّ معرفتي لذاتي تفترض الإنثناء عليها بما يفصلني أصلاً عن العالم الخارجي؟
إنّ معرفة هذا الغير تعني أن تكون لي القدرة على الولوج إلى عالمه الداخلي وتحديدا إلى عالم الدلالات والرموز التي يكوّنها والتي تمثّل إحداثيات له في علاقته بالعالم أي وجهة النظر التي من خلالها يطلّ على ما سواه، إنّنا إذن إزاء عالم وجداني معاش داخليا، فكيف يمكن تصوّر النفاذ إليه إن لم يكن على نحو مباشر؟
لقد تنبّه »ميرلوبونتي« إلى نوع من الإستحالة التي تطال معرفتنا للغير حين بيّن في »فينومينولوجيا الإدراك« أنّ ما أدركه من الغير هو في النهاية مجموع السلوكات كما هي معطاة لي من الخارج وليس كماهي معاشة من الداخل لديه، فأنا وان كنتُ مثلا أرى علامات لحزنه أو كدره في موقف ما واستمع إلى ما يقوله الغير عن كيفية عيشه لهذه التجربة فانّ هذا لا يعنى المطابقة بين الغير وسلوك الغير أو حتّى كلامه عن ذاته: »انّ سلوك الغير وحتّى كلماته ليست الغير«.
انّ التجارب الحياتية وان تشابهت بين الناس فإنّها وبالرغم من ذلك تظلّ ذات معنى مختلف فمعايشة التجربة من الداخل شيء وإدراكها كما هي معطاة من الخارج شيء آخر ولذلك فإنّ التعاطف الذي تدفعني إليه الصداقة مثلا وإن كان يعني أنّني أشارك بشكل ما هذا الغير تجربته فإنّّها تظلّ في النهاية تجربة هذا الغير: إنّ هذا يعني أنّ حزن الغير على موت عزيز عليه شيء، أمّا حزني لأجل أنّ هذا الصديق حزين فيظلّ شيئا آخر. كلّ منّا إذا من منظور »ميرلوبونتي« عالم »قائم« بذاته بحيث تظلّ ذاتيّة كلّ منّا فريدة في منظوريتها.
إنّ »المماثلة« (Analogie) حيث أقيس الدلالات التي يعطيها الغير لتجربة ما على تلك التي أعطيها آنا لنفس التجربة لا تحلّ المشكل ذلك أنّني لا أفعل في تجربة المماثلة غير نفي كلّ امكانيّة لإختلاف الغير عنّى قد يعترض البعض على ما تثيره هذه الإستنتاجات من تشاؤم وقد يحتجّ البعض الآخر بأنّ التجربة تثبت انّني قادر وجدانيّا على الولوج إلى عمق تجارب الآخرين كما تدلّ على ذلك تجارب التعاطف ومشاعر الشفقة والمواساة وغيرها غير أنّ »ميرلوبونتي« يوضّح في هذا السياق أنّ التعاطف قد يسمح لي بمشاركة الغير في الإحساس ولكن ليس بالإحساس بطريقة مماثلة للغير.
هناك إذن فرادة ما تظلّ عصيّة عن »التوصيل« (Incommunicable) وتمتع عن كلّ معرفة.
إنّ المعرفة كما يقول لنا كانط »حكم« (Jugement) بموجبه نثبت أو ننفي عن شيء ما محمولاً ما لكن ها نحن نتحدّث عن »الأشياء« التي تكون لنا بها معرفة والحال أنّ الغير ليس شيئا يمكن الإمساك به ضمن أحكام من جنس الأحكام التركيبية »الماقبلية« فما نحن بصدده أي الغير هو إنسانٌ دائما ما يفلت عن كلّ تحديد والتّجربة تدلّ على أنّنا كثيرا ما نتفاجأ بسلوك من كنّا نعتقد أنّنا نعرفهم حقّ المعرفة، بل أكثر من ذلك فإنّ الغير ليندهش إزاء مفاجأته لذاته بإنتقاله من حال إلى حال ومن اختلاف إلى آخر. الغير إذن لا متوقّع لا بالنسبة لي ولا بالنسبة لذاته، ففي النهاية هو ليس شيئا ثابتا لا من جهة الحال ولا من جهة الإضافة ولا يمكن لأيّة إحداثيّة نكوّنها عنه أو يكوّنها عن نفسه أن تستحيل إلى معرفة يقينية تسمح بتوقع حتمي وصارم لما سيكونه. إنّه إذن »ذات« (Sujet) تتعالى عن كلّ تثبيت وهي مشروع حرّ أكثر منه طبيعة أو هويّة محدّدة.
من الواضح إذن أنّ عالم الغير يظلّ لا مماثلاً لعالمي فمن حيث الواقع (En Fait) يظلّ كلّ منّا جاثمًا على اختلافه الخاصّ وها نحن إذن نستحضرُ ما سبق أن لخصّه »مونتاني«: »إذا كانت يدي أو الحجارة يمكن أن تظهر للجميع فإنّ أحاسيسي تنتمي فقط إلى الحياة الخاصّة بوعيي التي لا يدركها سواي« (Montaigne, Essais II). ربّما أملك في هذا السياق امتياز معرفة نفسي بنفسي أي استبطان معيشي الداخلي فعالم الإحساس ليس شيئا بدون هذا الذي تحسّه أمّا في علاقتي بالغير فإنّ هذا الإمتياز (الذي يقبل بدوره الشكّ) يصطدم بحدود كثيرة. نستطيع أن نضيف إلى ما تقدّم نوعًا من الإستحالة الأخلاقية باعتبار أنّ الرغبة في معرفة الغير تحمل في طيّاتها حركة نفي للخصوصية التي يكون عليها الغير بحكم أنّ ما سنعلنه هنا كمعرفة بالغير لن يكون إلاّ أحد أمرين: إمّا أنّني سأنفي أنّه مختلف عنّي أو سأنفي كونه شبيه لي أي أنّه هو أيضا ذات حرّة وواعية.
علينا إذن الإعتراف بأنّ الرغبة في معرفة الغير لا تخلو من الشبهات خاصّة وأنّها تقفز على موضوع الخصوصيّة بل هي تتحرّك في فضاء إدراكي لا ينشغلُ أصلا بما يمكن أن يكون مشكلا فعليّا في علاقتي بالغير.
ما الذي علينا أن ننشغل به في علاقتنا بالغير؟
هل هو اختلافه عنّي أم تشابهه معي؟
إنّ الإنشغال برصد الإختلاف لا يجعلنا نفهم شيئا عن تاريخ البشر وصنوف العلاقات التي يكوّنونها في مجرى تاريخهم ذلك أنّ التشابه هو منطلق إحساسي بأنّني لست وحيدًا في هذا العالم وأنّ الغير أيضا هو وعي بالذات قد يكون خطرًا أو حدّا أمام ذاتيتي وأنّ امتحان تحقّقي كذات إنّما سبيله امتحان هذا الغير / الحدّ الذي هو في النهاية شبيهي من جهة الإحساس بالذات.
المشكل إذن يتأتّى من التشابه وليس من الإختلاف وهذا ما أدركته جيّدا فلسفة »هيجل« في تجاوزها للتوحديّة حين نقلتنا من سؤال هل أعرف الغير إلى سؤال هل اعترف بالغير؟
إنّ سؤال هل أعرف الغير يضع بين قوسين وجود هذا الغير إن لم يكن يلغيه تمامًا أمّا السؤال عن »الإعتراف« (La reconnaissance) فإنّه يفيد قبولا بأنّني لست »الأنا« الوحيد الذي يشغل العالم بل انّ العالم يسكنه أشباه لي.
إنّ الإعتراف بالغير ليس مجرّد إقرار بأنّ آخرين يوجدون معي في هذا العالم، كما أنّه يتجاوز مجرّد التوصية الأخلاقية بأنّه عليّ أداء هذا »الديْن« تجاه الآخرين. يكتسي الإعتراف في فلسفة »هيجل« صورة الضرورة المنطقية والحياتية معًا، فأن يعترف بي الآخر كذات وان أعترف به كذات يتجاوز بكثير مسألة الإختيار ليستحيل إلى باب ما يفرضه العقل في مسار تحقق وموضعة وجود الإنسان.
يعرض علينا »هيجل« في »فينومينولوجيا الروح« منطلق هذا الإعتراف بوصفه منطلقا صراعيّا بين وعيين كلّ منهما شديد اليقين بذاته بحيث أنّ تحقّق كلا الوعيين من هذا اليقين مشدود إلى حركة نفيه للآخر. في هذه اللحظة الأولى يكون إثبات الإنيّة متناسبًا مع نفي الغير وفي الحقيقة فإنّ كلاهما يدركُ أنّ يقينه بذاته ليس بعد في حكم الوجود الموضوعي طالما أنّه ينقصه اعتراف الآخر بهذا اليقين وبهذا الشعور الداخلي.
معلوم أنّ اليقين لا يتحوّل إلى حقيقة طالما ينقصه »الإمتلاء بالحياة«، تمامًآ كحال العبد الذي يشعر أنّه حرٌّ ولكنّه في الحقيقة ليس كذلك، لذلك فإنّ افتكاك الإعتراف من الغير بأنّني وجود ماهيته وعي بالذات هو شرط غير قابل للتجاوز في مسار تحويل اليقين بالذات إلى حقيقة موضوعيّة. كتب »هيجل« في هذا السياق: »ولئن كان كلّ منهما شديد اليقين بنفسه، فإنّه ليس كذلك بالنسبة إلى الآخر، ومن ثمّ كان يقينه بذاته الى ذلك الحين مفتقرًا إلى كلّ حقيقة«.
الإعتراف الذي يطلبه اذن كلا الوعيين هو شرط تحوّل اليقين إلى حقيقة لكن كيف سيتسنّى لكلّ منهما إدراك الآخر في ماهيته؟
إنّ ما يدركه كلاهما من الآخر هو فقط ما يظهر منه أي في النهاية وجوده الواقعي والملموس ككائن منغمس في الحياة لا يختلف في شيء عن سائر الكائنات ولذلك ستكون المخاطرة بالحياة هي السبيل الوحيد لرسم مسافة بين ما أكونه وما يظهر منّى للآخر. هذه المخاطرة تعني الإرتفاع عن مجرّد الوجود البيولوجي من خلال مواجهة الموت طلبًآ للحريّة وسيوّضح »هيجل« في هذا السياق كيف أنّ أحد الوعيين سيذهب بعيدًا في المخاطرة بالحياة ودخول الصراع من أجل افتكاك الإعتراف وهو الوعي الذي سيأخذ كنتيجة لهذا الصراع صورة »السيد« في حين أنّ الآخر سيفضّل الحياة على مواجهة خطر الموت وهو الذي سيأخذ صورة »العبد«.
إنّ الصراع وان كان ضرورة فرضتها الحاجة إلى تحويل اليقين إلى حقيقة فإنّه مع ذلك يظلّ في فلسفة »هيجل« لحظة مؤقتة تصل من خلالها »جدليّة العبد والسيد« إلى »نهايتها« في شكل إعتراف بأنّ كلا الوعيين لا يستكمل احدهما وجوده الاّ بالآخر، هي اذن لحظة الإعتراف التي غادرت معها الإنسانيّة علاقات الإستعباد لتدشّن نشأة المجتمعات الحديثة كمجتمعات مساواة قانونيّة يستوجبُ فيها الوعي بالذات الوعي بالآخر.
إنّ ما تدين به الفلسفة ل »هيجل« تحديدًا هو هذه المنزلة الإيجابية للغير في مشروع استكمال الوجود الإنساني ولذلك سنرى أنّ الغير سيحتلّ مكانة مركزية في التفكير الفلسفي بعد »هيجل« مع »هوسرل«، »سارتر«، »ميرلوبونتي«، »ريكور« وغيرهم فما أصبح على صعيد الإهتمام ليس المعرفة بالغير ولكن لزومه مسار تحقّق انسانيّة الإنسان. كتب »بول ريكور« في »الذّات عينها كآخر« ص 382: »انّ استهداف الحياة الجيّدة الخيّرة يحتوي بطريقة ما معنى العدالة لأنّ هذا يوجد ضمنا في مفهوم الآخر عينه.. الآخر هو كذلك الآخر غير ال »أنت«. وترابطيّا فإنّ العدالة تمتدّ إلى ماهو أبعد من علاقة المقابلة »وجهًا لوجه«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.