لقد ظلّ موضوع المرأة طيلة العقود الأخيرة، معضلة حقيقيّة بجميع المقاييس في منتهى الأهميّة والتشابك والتشعّب في نفس الوقت، حيث أنّ قضيّة المرأة العربيّة تكتسي أهميّة حيوية بالغة، لا تقلّ إطلاقا عن حيويّة قضايا الحق النقابي وإستقلاليّة المنظّمات الجماهيريّة ومقاومة آفة المناولة وتحصين الحقوق والحريّات الأساسيّة ومواجهة طغيان العولمة الإمبريالية ومقاومة الصهيونيّة وعصابات دولتها في فلسطين المحتلّة، وغيرها من قضايا الحق والعدل والإنعتاق الوطني والاجتماعي.... ... ومن تلك الزاوية تحديدا، فإنّ قضيّة المرأة بصفتها قضيّة وطنيّة أساسيّة لا يجوز أبدا أن تظلّ إلى بدايات الألفيّة الثالثة، محلّ مهاترات ترفية استعراضية يُبدع في إتقانها بعض المتعلّمين أو ثرثرات موزونة تتجنّى على حقيقة واقع المرأة العربيّة وتجافيها، وهي مهاترات وثرثرات سهلة ولا تتطلّب جهدا وإلتزاما، ولطالما مثّلت بالضبط تلك الشجرة الخريفيّة التي تحجُب الغابة بكاملها. فمنذ صدور كتاب المفكّر الإجتماعي المتنوّر الطاهر الحدّاد (إمرأتنا في الشريعة والمجتمع) وإصدار مجلّة الأحوال الشخصيّة، شهد المجتمع التونسي ظهور مدارس واتّجاهات فكريّة متقاربة أو متنافرة أو متناقضة حول قضيّة المرأة،،، سرعان ما شقّت طريقها ضمن الجدل الفكري العام، واستباحت العقول والأذهان والنفوس وفي المقام الأوّل عقل المرأة وذهنيّتها ونفسيّتها وأباحت لنفسها تروية كمٍّ هائل من الثقافات والعقلّيات والمسلّمات والفتاوي الخرافيّة والبدع الأفيونيّة المحبوكة والسّلوكيات »المثّقفاتيّة« الهابطة التي تنمُّ عن وتنامُ على إنحطاط عقليّ... ... ولا يخفى على المتابعين عن »كثب والمطلّعين جيّدا والملاحظين اليقظين« أنّ قطبيْ تلك المدارس والاتجاهات« ينحصران بدقّة تامّة في التيّار الفرنكفوني الليبرالي من ناحية، والسّلفية الغيبيّة (وضمنها ما يسمّى »الإسلام السياسي«) من ناحية ثانية... 1 إلى متى نظلّ نسقي الشجرة التي تُخفي الغابة؟ لقد ظلّ التونسيون والتونسيات طيلة أكثر من نصف قرن، يستمعون تارة بانتباه وطورًا بذهول، وطورا آخر ببرودة مناخ سيبيريا، إلى اسطوانات يوميّة وليليّة وصباحيّة وخطابات صخبة فضفاضة لا تتوقّف حتّى تجترّ نفسها من جديد، حول مسلسل طويل من الشعارات الاستعراضيّة الباهتة التي بدأت منذ بداية التسعينات تفقد صداها وبريقها ومفعولها لدى أغلب التونسيين: ... فمن المفارقات التي لم تعُدْ محيّرة أو مُذهلة، أن تكون هذه الماكينة الهادرة من الشعارات من صلب إنتاج طرفي الاستقطاب الثنائي الذي اكتسح صفوف المجتمع التونسي ونسيجه الذهني، وهما كما نرى ذلك في الحياة اليوميّة، تيّار الفرنفكونيّة الليبرالي (داخل السلطة وخارجها على حدّ السواء) ورياح السلفيّة الغيبيّة... فطيلة العشريتين الأخيرتين بوجه أخص، تصدّعت الرؤوس والعقول والأذهان والنفوس بمفعول ضجيج صاخب مصدره آلات وقنوات ومنابر وأقلام »إعلاميّة وفكريّة وسياسية، عالجت قضايا المرأة العربيّة، بشعارات ضخمة ومتضخّمة عابرة للقارات« على غرار: (»حريّة المرأة المرأة شريك فاعل تحرير المرأة خضوصيّة المرأة كرامة المرأة المرأة نصف المجتمع حقوق المرأة محرّر المرأة...) وهي جميعُها شعارات مثقّفاتية صاخبة ذات جذور بورجوازيّة صغيرة تقليديّة، كانت الرأسمالية الغربية ومفكّروها وأقلامها أوّل من صاغتها ونظّرت لها طويلا ورفعتها اثر انهيار الأرستقراطيّة والاقطاعيّة وانتصار الثّورة البرجوازيّة الفرنسيّة سنة 1789. ... ولكنّ ذلك لا يعني إطلاقا أنّ تلك الشّعارات حول قضايا المرأة هي شعارات غير مناسبة أو خاطئة أو رجعيّة في حدّ ذاتها، اطلاقا لا!! فالأهمّ على الاطلاق في صياغة أيّ شعار، ليس بريقه أو إيقاعه أو جاذبيّته، بل المضمون الفلسفي والإجتماعي لهذا الشّعار أو ذاك: فلا ننسى أبدا أنّ أوّل من صاغ شعار »دولة القانون والمؤسسات« (مثلا) خلال القرن الماضي ورفعه عاليا، هو جنرال النازية أدولف هتلر الذي فتك بالبشريّة وكاد يدمّر الكرة الأرضيّة!! بإسم دولة القانون!! ... فلقد ساد أوساطا عديدة قابلة للإتّساع الوعيُ النّوعي المتنامي بأنّ الليبراليّة بجميع جوْقاتها (في السّلطة وخارج السّلطة على حدّ السّواء) تتمسّك أكثر من أيّ عهد مضى بمبدإ التعامل والتفاوض مع جميع قضايا المرأة بصفتها في المقام الأوّل أي المرأة مصدر قوّة عمل وإنتاج رأسمالي، وجسدًا جنسيّا للإبهار والتخدير والتّلهية والمتاجرة المقرفة، بل أنّ الليبراليّة وقنواتها وأقلامُها وأصواتها قد روّجوا طويلا لتلك المفاهيم، سواءًا داخل البلدان الرأسماليّة نفسها أو داخل البلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة، وقد طال ذلك التّرويج الأفيوني حقول التّعليم والتربية والمسرح والأدب والسينما والفنون التشكيليّة وحتّى الشّعر... ... ويعرف القاصي والداني اليوم أنّ تلك المفاهيم الليبراليّة حول قضايا المرأة،، قد عجّلت بتدهور العقل المدني السليم وقيم المدنيّة المتحضّرة، بل حتّى بانهيار الثوابت الاجتماعية للحضارة، والعديد من الركائز الحيويّة الأساسيّة لأي مجتمع وللحدّ الأدنى من التماسك البنيويّ الاجتماعي، وهكذا إنتحر التضامن الوطني، واتّسعت دائرة التنافر والتباغض والاقتتال، وسيطرت عقليّة الأنانيّة الفردية المتقوقعة، وغابت العفّة والطهارة فحضرت الرذيلة والدعارة، وتمّ اغتيال الحبّ وعوّضته الصفقات التجاريّة الشنيعة... وتمّ تفجير العقل بسيارة مفخّخة وسادت مكانه النوازع والغرائز الحيوانيّة الباعثة على الإزدراء... ... وبالرّغم من أنّ المرأة المتعلّمة وغير المتعلّمة على حدّ السواء هي الضحيّة المباشرة الأولى لإيديولوجيّة الليبراليّة وثقافتها السّائدة، فإنّ المرأة تتحمّل قسطا وافرًا من المسؤولية عن أوضاعها المتخلّفة الراهنة وتخلّف المجتمع نفسه، حيث أنّه لا وجود لأيّة قوّة منظمة قادرة أكثر من غيرها على تحرير المرأة فعلا من كوابيس الإستغلال الرأسمالي البغيض والإستعباد الجنسي المُهين للكرامة، غير المرأة نفسها!! ... كما أنّ المرأة نفسها هي المؤهلة أكثر من غيرها (فلاسفة علماءالنفس والاجتماع منظمات نسائيّة نقابات وغيرها) للوقوف سدًّا منيعًا أمام العقليات الليبرالية والسّلفية التي كبّلت عقل المرأة وعقل الرّجل بنفس القدر وعلى حدّ السّواء، وهكذا تكون مرأتنا قد شرعت في مسيرة تحرير نفسها وتحرير الرّجل في نفس الوقت... ... كما أنّه حينما تُفيدنا آخر الإحصائيّات الرسميّة الصّادرة عن المنتظم الأممي ومنظّماته المختصّة في شؤون السّكان، بأنّ ما يقارب 50٪ من عدد نساء الوطن العربي، هنّ أميّات تماما، وأنّ نسبة العاطلات عن العمل من نساء الوطن العربي (بما فيه الخليج) بلغت 71٪ بالتمام والكمال، وأنّ المرأة الغربية تحتلّ المرتبة التاسعة (على 23) في سلّم العنف الزّوجي البدني المُسلّط على المرأة في مجموع 23 جنسيّة على المستوى العالمي، أفلا يكون من اللاّئق ومن الشهامة الرّجولية، الإنكباب الجدّي على تشخيص الواقع الاجتماعي والنفسي والاقتصادي والعاطفي والمعنوي والسياسي للمرأة العربية،،، وتدريب بعض الأقلام وبعض الأصوات على التخلّص التدريجي من براثن أفيون »الجنسنة« الذي استبدّ بالنفوس واستهلك العقول وصدّع الرّؤوس،، من أجل أن يستوعبوا نهائيّا أنّ المرأة هي كائن اجتماعي ونفسي، ثمّ أنثى!! 2 المرأة التونسيّة بين كمّاشة الردّة ومخالب الخليعة؟ حينما يصرخ الواقع اليومي والمشهد الاجتماعي من الفجر حتّى »الهزيع الأخير من اللّيل، بتفشّي مظاهر الردّة والتخلّف والإنحطاط في حياة المرأة التونسيّة اليوميّة من ناحية أولى، وتفشّي إفرازات التفسّخ الفكري والمدني والخليعة في جميع صورها وخلع ثوابت القيم الرّفيعة والكرامة الذاتيّة من ناحية ثانية، فإنّ المرأة تجدُ نفسها مشدودة برثاق عنيد إلى اتجاهين اثنين في حياتها الشّخصية والعائليّة والإجتماعية اليوميّة، بل ومكبّلة بإيديولوجيّة هذا الاتجاه أو ذاك في أغلب الأحيان، وهما: اتجاه السلفيّة الطاغيّة وكمّاشتها، وهي ممثّلة الردّة والإنحطاط والاستكانة والاحباط والتخلّف، ثمّ اتجاه الفرنكفونيّة الليبراليّة (البرّاقة) ومخالبها الحادّة، وهي التي تمثّل تلك »الحريّة« المسمومة والمزعومة تماما، وإفرازاتها القاتمة من تبضيع المرأة وسلْعنتها، وأفيون الخليعة و»الجنسنة« المدمّرة وخلع ثوابت القيم المدنيّة ومرتكزات الحضارة. ... فالسلفيّة والليبراليّة لا تفعلان سوى إدّعاء التضاد أو التناقض في معالجة قضايا المرأة وموقعها ومهامّها في المجتمع، في حين أنّ خندقا واحدا في منتهى الإنحطاط والتخلّف، وهي تبضيع المرأة في جميع المجالات، والتعامل معها بصفتها أنثى قبل كلّ شيء آخر، أي أنّها جسد في المقام الأوّل... بل أنّ الليبراليّة والسلفيّة قد بذلتا مجهودات ضخمة ووظفتا آليات ومنابر وأقلام وأصوات الداعين لهما نحو ترويج تلك المفاهيم والثقافات والإيديولوجيات الغارقة في الرجعيّة، وقد اكتسحت تلك المفاهيم عقول الشّباب والنّساء والرجال، وحتّى الشيوخ والأطفال، وسهمت العديد من وسائل الاتصال والاعلام الأصفر والعُلب الليليّة والنّهارية الفضائيّة وبعض الصّحف والمجلات المقرفة، وحتّى السينما والمسرح والأدب والموسيقى الهابطة في ترويج مفاهيم الليبرالية حول المرأة داخل عقول الناس، وبدرجة أولى داخل عقل المرأة نفسها، حيث زرعت الليبرالية داخل خلايا ذلك العقل الرؤية الرجعيّة المقرفة بأنّها أنثى وجسد قبل كلّ شيء آخر، وأنّ الجسد أهمّ هبة منحتها الطبيعة للمرأة!! فلننظر مثلا كيف تتعامل السّينما العربيّة مع قضايا المرأة والزوايا التي تعالجها من خلالها، وأفظع نموذج في الصّدد، أفلام المخرجة المصرية إيناس الدغيدي، التي تتخصّص بإصرار مدروس في ترويج ثقافة تبضيع المرأة العربيّة، وتكبيل عقلها ونفسيتها وشخصيتها بالمركبات والعُقد المتنوّعة تحت يافطة زائفة تماما وإغراءات »تحرّرية« مزيّفة ولا علاقة لها إطلاقا بتحرّر المرأة وتحريرها الفعلي من الاستعباد والاسترقاق والإنحطاط... كما أنّ أغلب الانتاج المسرحي والسينمائي العربي (بما فيه التونسي) يندرج ضمن إيديولوجيّة الليبرالية الفرنكفونيّة »التحرّرية البرّاقة« بما فيه المكتوب باللغة العربيّة أو باللهجة الدارجة، وهو أحد الأسباب الأساسية التي أدّت مباشرة إلى ما يشاهده الجميع يوميّا في الشارع التونسي، من تفسّخ مدني عارم وتلوّث أخلاقي ونفسيّ تسلّل حتّى داخل العائلة التونسيّة، والعربية عموما، ومن إنحطاط فكري وسقوط حضاري، وذلك تكريسا لإحدى قواعد الليبرالية القائلة بما تسمّيه »التحرّر من كلّ شيء«، وهي نموذج حيّ لباطل أريد به حقّ!!... وبالرّغم من أنّ الليبرالية تدعو إلى الخلع الكامل، (والخلع هو أوّل خطوات التخلّي)،، وأنّ السلفيّة تدعو إلى الحجب الكامل (والحجب هو أولى خطوات الظلام الدّامس)،، فإنّهما تلتقيات تماما (وليس موضوعيّا) حول ثقافة تبضيع المرأة، كلّ واحدة منهما من الزاوية الخاصّة بها وبمصطلحات خاصّة بها... فالليبرالية (في ذلك المضمار) تمثّل غوغائيّة ذكوريّة برّاقة، والسّلفيّة (في نفس المضمار) تشكّل هرطقة لاهوتية غير برّاقة: فلا تحرّر للمرأة إلاّ ضمن مسيرة الخلاص الإجتماعي والإنعتاق الوطني.