استأت كما الكثيرين من الحالة التي رأيت عليها مسجد المركب الجامعي بتونس، واستأت أكثر من عملية نشرها وبثها وترويجها عبر الوسائط المعلومة واستأت زيادة من الطرف شخصا كان ام منظمة أم حزبا أم جمعية الذي صوّر الحالة ودبّج لها النص المرافق وهيأها للبث والنشر. كل هذا الاستياء ومعه استياء التونسيين لا ينفع بعدما حصل الذي حصل، واسمحوا بالقول ان في المسألة مغالاة ومغالطة مقصودة حيث وقع تحميلها اكثر مما تحتمل، ولو لم يتعلق الأمر بمسجد ما كان لينتبه إليه أحد، ولولا التوظيف المبيّت ما أعار أحد لحالة المبنى أي اهتمام. ولينظر الناس حواليهم في كل الاحياء، في كل المدن، في كل الجهات الى مساكن مغلقة منذ سنين بعد أن مات أصحابها وهجرها أهلها، إلى فيلات فخمة بل الى قصور وإلى تحف أثرية ومعمارية نادرة تآكلت، وأتى عليها الزمن بوقع السنين وكلكل الغبار والرطوبة فحوّلها نسيا منسيا، بل لينظر الناس الى منازلهم ففيها »تراكن« ينساها الجميع ويهملونها دون اتفاق مسبق الى يوم خلاله تقع فيها كارثة أو يزورها غريب. هذا التبرير لا يعفي عدة أطراف من ال بل إنّي أرى ضرورة تحديد المسؤوليات، ليس من باب البحث عن كبش الفداء لعقابه، وإنّما لبحث الاسباب حتى لا تعاد الحالة في المستقبل. وحتى لا يفهم حديثي في غير محله، فإنّني لا أقصد الحكومة أو السلطة كما يقال في مثل هذ الحالات، إنّها لا تحتاج لي للدفاع عن رأيها أو لتبرير أخطائها وإنّما هناك وقائع تفرض نفسها فلو كانت الحكومة تقصد التخلص من المسجد لقربه من المركب الجامعي و»لرمزيته« في نضالات بعض التيارات الطالبيّة كما تردّد، لعمدت الى هدمه لا سيما بمناسبة الاشغال الكبرى التي تجرى منذ سنوات في محيط المركب لبناء المحولات على شارع 7 نوفمبر أو تحويله الى مكتبة أو إلى إدارة ملحقة بإحدى الكليات أو مركز دراسات أو غيره، ولو كان المسجد مصدر ازعاج فقط لقربه من المركب الجامعي، لوقع اغلاق المسجد المقابل لكليّة الشريعة وأصول الدين في منفلوري أو المسجد القريب من معهد الدراسات الاسلامية في بطحاء معقل الزعيم، وغيرهما من المساجد القريبة من الكليات والأحياء الجامعية في عدّة مدن. ولا أتصوّر اليوم أن الدوائر المعنية ستتأخر أكثر ممّا فعلت في تعهد المسجد بالصيانة والاصلاح وخاصة بالعناية اللاحقة من تعيين إمام ومنظّف دائم وفتح أمام المرتادين وفي كل الأوقات، شأنه شأن بقية مساجد البلاد وجوامعها. بالاطراف المسؤولة أقصد: أولا المسؤول الذي قرّر في يوم ما، لسبب ما، من أجل هدف ما اغلاق المسجد للاعذار التي قدّمها، فمرّت الايام ونسي المسؤول الموضوع ونسي الاعذار ( ومن المفروض أنّها مرتبطة بآجال ) وأهمل المتابعة بل لربّما غادر المسؤول المعني منصبه، فجاء من بعده آخر، لم يعلم بالأمر، أو وصلته أصداء معينة عن الموضوع، فرأى أن يترك الوضع على ماهو عليه، بما أنّه غير معني به وبما أن لا أحد طلب منه العكس، ولربّما فعل مثل غيره من المسؤولين الذين ما ان يعينوا في منصب حتى »يمسحوا« ماضي ذلك المنصب ويغيّروا ما يحيط به فذهب ملف اغلاق المسجد إلى سلة المهملات، أو رف النسيان. ثانيا المخبر الذي يفرض عليه الواجب المهني أو الاداري أو الحزبي أن ينقل إلى ذوي النظر والقرار كل شاردة وواردة وان يلحّ في النقل وإعادة النقل إلى ما لا نهاية له، أو بالأحرى إلى أن يقضى الأمر، وهؤلاء هم في العادة على قدرة فائقة في تلمّس المسائل ذات الحساسية المفرطة لدى المواطنين، ومثل هذه المسألة على قدر كبير وكبير جدّا من الحساسية. وبالمخبر لا أقصد الامنيين فقط، بل أتعدّاهم إلى الإداريين وإلى الحزبيين وحتّى إلى المواطنين الذين لا يترددون عادة في لفت الانتباه الى أي نقيصة يرونها وخاصة إذا كانت ذات طابع ديني. ثالثا إمام ذلك المسجد الذي يفرض عليه الواجب المهني والديني والمعيشي والسكني أن يظلّ وراء الدوائر المعنية يطاردها مطالبًا بإعادة فتح المسجد أو تأمين حراسة له تقيه أي نوع من الاعتداء، وحتى لو نقل الى مسجد آخر، كان عليه أن يستمر في التنبيه. رابعا مصلّو المسجد من طلبة المركّب وموظفيه وخاصة من سكان أحياء المنار وشمال الهلتن والجبل الأحمر ورأس الطابية وإبن خلدون فضلا عن آخرين قد يأتون من احياء أبعد وعن العابرين، ومن بين هؤلاء جميعا من هو قادر على لفت انتباه السلط إلى المسألة. خامسا أجوار المسجد من طلبة المركب واساتذته وإداراته المختلفة وسكان الاحياء المشار إليها والذين ما كان لهم ان يسكتوا على اغلاق المسجد كل هذه المدة، وما كان لهم أن يتركوه، دون حراسة، مرتعا للمنحرفين والمتسكعين. وهؤلاء هم في الجملة من الباحثين عن فرصة للتستر عن عمل مخالف للقانون او للاخلاق أو للشريعة أو للاداب والسلوك العام. من بينهم دون شك المنحرف »المحترف« والمتسكع المضطر بل والمجرم، وهؤلاء يبحثون باستمرار عن أي مكان خفي، مهجور، متروك ليتستروا به وفيه قصد إتيان مخالفاتهم (!) دون ان يقدّروا ماهية المكان. لكن من بين المترددين على مثل هذه الاماكن المهجورة، بعض عابري السبيل ومن ذوي الحاجات المستعجلة الذين يضطرون لترك قاذوراتهم وأوساخهم في أي مكان مهجور يصادفهم. فهل ثمة في محيط المسجد المذكور والمركب الجامعي عامة، محلّ يمكن فيه لعابري السبيل والمترددين على ذلك المحيط من غير المعنيين قضاء حاجاتهم البشرية المستعجلة خاصة وان الملاعب القريبة تشهد عشايا الجمعة والسبت والاحد مقابلات عديدة في كرة القدم، بل وهل ثمّة في مدننا كلّها ما يكفي من مثل هذه المحلات التي تساعد الناس على قضاء حاجاتهم الخاصة بعد تناول وجبات سريعة أو دسمة مشكوك في نظافتها ومشروبات مختلفة مشكوك في سلامتها، وتخفف على مرضى »السكري« و»المثانة« أوجاعهم لما يطيلون البقاء خارج منازلهم؟ سؤال أطرحه على البلديات لأطلب منها المبادرة بنشر مثل هذه المحال في اكثر من مكان واغراء الخواص بالاقبال على الاستثمار فيها، على غرار ما يتوفر في العديد من المدن الاوروبية وخاصة في تظاهراتها الكبرى مثل المعارض والحفلات الموسيقية من محال للراحة سهلة التركيب وسريعة التنقيل ولكنها مصدر دخل وفير جدّا للمستثمرين فيها وكذلك أيضا للبلديات التي ترخص في إقامتها.