فلماذا تخلت عنها البلديات؟ تونس الصباح: تمثل العاصمة وبقية المدن الكبرى المراكز الأساسية للتجمع العمراني، والكثافة السكانية، وقد فاق عدد سكان العاصمة المليون نسمة، بينما باتت نفس النسبة تناهزها أيضا في مدن كبرى مثل سوسة وصفاقس. ولا شك أن هذه الكثافة السكانية نتجت عن عدة عوامل منها أولا تطور عدد السكان في البلاد الذي بات يناهز 11 مليون نسمة، وكذلك مظاهر التقدم الاجتماعي، وأيضا النزوح الذي جرف فئات اجتماعية مختلفة للإستقرار بالمدن، على حساب الإقامة في الأرياف. وهذه العوامل وغيرها فرضت نسق حياة مدنية واسعة في تونس، وتطلب ظهور جملة من الخدمات العامة الأساسية مجاراة لنسق الحياة على اختلاف متطلباته في المدن، وكذلك للتمدن والتحضر الذي عرفته البلاد في كافة أوجه الحياة. ومن الطبيعي أن هذه الخدمات تتوزع على مجالات مختلفة، وتعود أيضا بالنظر إلى أطراف مختلفة، لعل من أبرزها البلديات باعتبارها الساهر والمسؤول الأول على الجوانب الاجتماعية بكل متطلباتها. لكن رغم هذا التطور والتمدن، وارتفاع عدد سكان العاصمة والعديد من المدن التونسية، هناك ظاهرة غريبة ما انفكت تتبخر من الشوارع، وهي تتعلق بدورات المياه التي يحتاجها كل مواطن وزائر للمدينة. فلماذا غابت هذه الخدمات الأساسية من الشوارع ولم تعمل البلديات على إبقائها والحفاظ عليها، بل وتطويرها بتطور عدد السكان؟ وكيف يمكن أن يتصرف المواطن والسائح القادم للبلاد في صورة ما إذا دعته الضرورة الإنسانية لقضاء حاجته البشرية؟ فهل فكرت البلديات في هذه المرافق التي يحتاجها كل الناس، وفي أي وقت؟ ولماذا وقع العمل على إزالتها بالكامل؟ وهل يمكن لكل عابري الشوارع الاتجاه للمقاهي لقضاء حاجاتهم الضرورية؟ وهل أن هذه المرافق التي لا توجد إلا في المقاهي مفتوحة على مدار الساعة وأمام كل الناس وفي كل الشوارع؟ المرافق الاجتماعية لو عدنا إلى تاريخ المدن التونسية وتطوراتها المعمارية عبر الزمن للاحظنا وجود هذه المرافق في كافة المدن، مثلها مثل الجوامع والمساجد، والمتاجر والمقاهي والأسواق. حيث لا يخلو شارع منها باعتبارها مرفقا إنسانيا أساسيا يحتاجه كل الناس من عاملين في المتاجر والأسواق وأيضا يرتادها كل عابري السبيل المارين من الشوارع. وخلاصة القول أن دورات المياه كانت تعد بالعشرات، وهي إلى حدود بداية السبيعينات كانت كثيرة، ولا توجد في المدينة العتيقة فحسب، بل أيضا حتى في شوارع المدينة العصرية. وشاهدنا على ذلك أماكنها التي مازلنا نذكرها جيدا، وأولئك العاملين بها الذين تكلفهم البلدية، يتولون نظافتها وتوفير كل الظروف الملائمة لاستعمالها من طرف المواطنين. وحسب نظرنا فإن العمل على إزالتها كان خطئا كبيرا وتراجعا عن مهمة بلدية ذات بعد اجتماعي أساسي داخل المدينة، إضافة إلى أن دورات المياه كانت تمثل مورد رزق لعديد الناس، وخاصة البعض ممن تقدمت بهم السن أو يعانون من حالات إعاقة، وعلاوة عن هذا فهي تمثل أيضا حسا مدنيا ومظهرا من مظاهر التقدم الذي يتصل بالنظافة والحفاظ على البيئة والمحيط. ولا شك أن أمام غيابها فإن مظاهر التسيب والممارسات الخاطئة بدأت تظهر خاصة في بعض البنايات المهجورة والساحات والزوايا، مما دعا البعض من السكان إلى الإلتجاء لكتابة "ممنوع التبول هنا" على اعتبار تفاقم هذه الظاهرة هنا وهناك. فما رأي البلديات بخصوص هذا الصنيع الذي خلفه غياب دورات المياه من الشوارع؟ دورات المياه بالمقاهي مغلقة.. أو بمعلوم؟ قد لا ننكر أن تعدد المقاهي وانتشارها في كل الأنهج والشوارع، والقانون الذي يفرض أن تكون بها دورات مياه مفتوحة للجميع قد عوض إلى حدّ ما دورات المياه العمومية. لكن هل أن كل مواطن مرأة كان أو طفلا أو شيخا بإمكانه دخول المقهى لقضاء حاجته البشرية. إن العديد من المواطنين وخاصة النساء باختلاف أعمارهم يجدن حرجا كبيرا في ذلك، وعلاوة عن هذا البعد الأخلاقي المرتبط بعاداتنا وتقاليدنا، فإن دورات مياه المقاهي كثيرا ما تكون مغلقة في وجه العامة، وطلب الإذن بفتحها يمثل حرجا للعديد من الناس، كما أن نوادل بعض المقاهي يتعللون بجملة من الحجج للتخلص من طلبات المواطنين في هذا الغرض وذلك بدعوى أنها غير صالحة للاستعمال، أو غير نظيفة أوغيرها من الأسباب التي يعتمدونها في صد الناس. أما الأغرب من كل هذا، فإن العديد من هذه المقاهي بات يوظف على استعمال دورات المياه معلوما ماليا، وهو تصرف ليس غريبا فقط، بل غير قانوني بالمرة، لكن الضرورة الانسانية تدفع الناس إلى القبول بهذه الممارسات نظرا للحاجة إلى دورات المياه. إننا لو زرنا بعض المدن الغربية أو تحولنا إلى بعض المدن العربية للاحظنا وجود دورات المياه بالشوارع، بل تكاثرها أيضا في كل الزوايا، فهي قد حافظت على هذا المرفق باعتباره ضرورة لابد أن تتوفر لكل الناس. لكن أن تغيب عن مدننا كافة، وخاصة منها العاصمة فهو أمر غريب وعجيب وحكم على عابري الشوارع ومرتادي المدينة في غير محله. فهل تفكر البلديات في عودة بعث دورات مياه عمومية باعتبارها ضرورة من الضروريات التي يجب أن تتوفر في الشارع لتكون قبلة كل من يحتاجها من مواطنين وسياح؟ ذلك هو السؤال الذي يبقى مطروحا في انتظار ما ستقرره البلديات في هذا الجانب.