وصلنا مدينة المنستير أثناء صباحها المتثاءب، شوارعها تتلألأ تحت شمس خجولة أخلفت موعدها مع عاملات مبكرات وعمال مسرعين فلم تنر صباحاتهم المهنية واستقرت خلف سحاب متربص. في مقر الاتحاد الجهوي للشغل بالمنستير وجدنا الأخ المنجي الشرفي عضو المكتب التنفيذي الجهوي في انتظارنا نيابة عن الأخ الكاتب العام الذي كان في مهمة نقابية أخرى، برغم بشاشته الظاهرة وحفاوة استقباله كانت شجون الأخ المنجي الشرفي حول الوضع المهني في قطاع النسيج غير خافية إذ حالما ارتشفنا قهوتنا الأولى في مسار ضيافتنا على الاتحاد الجهوي للشغل بالمنستير حتى انطلق يشرح لنا ما آلت إليه الأمور في مصانع الحياكة بالجهة والوضعيات الاجتماعية المنذرة بالخطر التي خلقها تسريح العاملات والعمال والاستحواذ على حقوقهم، وحتى لا يكون كلامه دون شاهد دعانا الأخ الشرفي للإطلاع على حقيقة الوضع مباشرة من أفواه المتضررات، فكانت وجهتنا الأولى كانت مدينة «جمال» التي أوصلتنا إليها سيارة أجرة منزوعة النوافذ. واستقبلنا في اتحادها المحلي شديد التواضع الأخ عبد المجيد الميلادي الكاتب العام للاتحاد وشرع مباشرة في الحديث عن المشاغل والإحباطات وكأنه كان ينتظر قدومنا لينزل بعض حمولته عن ظهره . وهو يجيب عن سؤالنا المركزي ما المشكلة قال : « الأخ عبد المجيد الميلادي ليست مشكلة واحدة بل مشاكل متنوعة اذ تتكاثر كل يوم قوافل المسرحين من العمل وكل يوم يحمل إلينا اسما جديدا لمصنع يقفل أبوابه وفي كل صباح يتحرق مئات بل ألاف العمال ألما دون بلوغ أبسط حقوقهم المهنية، مثل ماذا ؟. لم تعد العاملات تبلغن حتى «الكفايات الأساسية» في مستوى سلم التأجير وباقي الحقوق، فالأعراف بارعين في المناورة والمداورة، والقوانين التي تنظم القطاع باتت هي الأخرى قابلة للتأويلات المختلفة التي يسهل من خلالها التلاعب بحقوق العاملات اللآتي ينحدرن في الغالب من بيئات اجتماعية فقيرة ومستوياتهن الدراسية لا تسمح لهن بالوقوف على حقوقهن وطريقة استخلاصها، وإجابة عن سؤالنا عن دور الاتحاد المحلي في الاحاطة بهم قال : «محدثنا أن الاتحاد يبذل كل الجهد للوقوف على مطالب العمال وتحسين اوضاعهم ولكن العمل يكون أسهل والمعلومة تصل بشكل أسرع في حال وجدت بالمصانع نقابات أساسية ولكن مع ذلك فالاتحاد دار لكل العمال والعاملات و ما يؤسف حقا حسب رأي الأخ عبد المجيد هو أنه برغم تدخل الاتحاد واجراء جلسات مع اصحاب العمل في مقرّات المعتمديات وتفقديات الشغل وإمضاء محاضر جلسات يلتزم فيها الأعراف بتطبيق القانون يبقى الأمر حبرا على ورق ولا يجد طريقه للتنفيذ وتستمر معاناة العمال إذ لم تستطع السلط الجهوية ضمان تطبيق ما يلتزم به الأعراف. في «جمال» لا أجور لا منح ولا زيادات انتقلنا الى مصنع «Serio للخياطة المنتصب في المنطقة منذ ما يقرب عن ثلاثين سنة والذي لم تنقطع فيه سلسلة الانتاج وعمليات التصدير ولكن عاملاته لا ينلن أجورهن إلا بالتلويح بالاضراب وبالاضراب في بعض الأوقات، وقفتنا الأولى كانت مع «جميلة» عضوة النقابة الاساسية في المصنع التي أخبرتنا أن العاملات لم ينلن الى اليوم أجرة شهري جويلية وأوت الماضيين ولم يتحصلن على منحة انتاج سنة 2005 ولا زي الشغل لسنتي 2005 2006 . «حدة الديواني» التي تعمل منذ 12 سنة في المصنع تقول أن الأجرة السنوية الخالصة لم يتحصلوا عليها الى اليوم وملحق الأجور لم ينالوه رغم الزيادات التي أقرتها لجنة التفاوض القطاعية منذ جوان 2005 وقد منح الأعراف مهلة حتى ديسمبر 2005 لتطبيق هذه الزيادات ولكنهم لازالوا يماطلون الى اليوم وقد قمنا بإضرابات متكررة ولكن العرف الذي اعتاد هذا الأمر كان يستغل هذه الاضرابات للاستفادة وتعميق تعاستنا. مصاريف المدارس لأطفالنا العاملة «وسيلة سعد « قالت تخيلوا حالتنا وأطفالنا يعودون الى المدارس وشهر الصيام على الابواب ونحن بدون أجور لأشهر متتالية رغم أننا نواصل العمل وقالت أن حقوقهنّ مهضومة والسلط تتفرج. «فاطمة قاسم» التي تعمل في هذا المصنع منذ 30 سنة قالت « إن أزواجنا يسمحون لنا بالعمل لمساعدتهم في تحمل أعباء أسرنا ولكن أنظروا لحالنا اليوم «حتى الركوب ما عنّدناش» فكيف سنواجه مصاريف المحاضن لأبناءنا الصغار وكافة مستحقات عيشنا اليومي من كراء ومصاريف كهرباء وماء ... كيف نعيش، أننا لا نستجدي العطاء فهي حقوقنا ونريد الحصول عليها لأننا «عرقنا عليها» ونحن نعمل منذ الساعات الأولى للنهار». أفنينا أعمارنا الأخت جميلة التي عادت للحديث معنا قالت إن هؤلاء العاملات قد أفنين أعمارهن في هذا المصنع وقد قضين فيه أكثر مما قضين في منازلهن لذلك هن لا يُردن له ولصاحبه السوء ولا يُردن ايقافه لأنه مصدر رزقهن ولكنهن يُردن حقوقهن ويرغبن في العمل في ظروف حسنة دون إهانات يومية من المشرفين ويحلمن فقط بنيل حقوقهن . غير بعيد عن هذا المصنع هناك مصانع أخرى بدت لنا مشاكل العاملات فيها أعمق وأشدّ ايلاما لدرجة يظهر معها ما سردنا من مشاكل سابقة نوعا من الترف. خبزة بالوحل وصلنا برفقة الأخ المنجي الشرفي والأخ عبد المجيد الميلادي الى مصنع Mtex والعاملات في ساعة الراحة فهالنا ما رأينا من حالهن: على الرصيف أمام باب المصنع جالسات بأزياء العمل الوردية، سيقانهن تلامس برك المياه التي خلفتها أمطار اليه البارحة، يتعرضن للطش والرش كلما مرقت سيارة فيأكلن الخبز مغموسا بالأوحال ... يتصففن على الرصيف تحت حائط المصنع ليأكلن سندويتشات مرتجلة تخفف من آلام الجوع، سمرني المشهد فطلبت منهن بكل لطف الاذن بالتصوير فوافقن قائلات خبّروا المسؤولين عن حالنا انظروا لمعاناتنا «صوروا صورا بجاه ربي». سألتهن ألا يشتمل مصنعكن على غرفة أكل مجهزة بطاولات فقهقهن بألم وقلن وهل يتوفر المصنع على حمام محترم حتى يتوفر على غرفة أكل. كم عددكن؟ قلنّ : « نحن حوالي 120 عاملة، اما نأكل على طولات العمل حذو الآلات إذا سمحت لنا الشافة بذلك أو نحن نأكل على الرصيف، أما حكاية الحمامات فأمرها أغرب فلدينا فقط حمامان اثنان لكل فريق العمل حالتهما مزرية وأبوابهما متهالكة والماء دائم السيلان فيهما وأمامها مغسل وحيد يستعمل لغسل الاطراف وأواني الأكل وللشرب أيضا وهما في العراء كما ترىن. وقد عاينت ذلك بنفسي عندما دخلت المصنع أما أغرب ما سمعت فهو حكاية «الجوتون». دخول الحمام بالجوتون وصداقة مع الفئران لما سألنا العاملات سعاد وكريمة وغيرهن عن حكاية «الجوتون» قلن أن العاملات ينقسمن الى 4 فرق كل فرقة من 30 عاملة وكل فرقة لها جوتون واحد لا يمكن دخول الحمام بدونه لذلك تضطر الراغبة في دخول «بيت الراحة» لانتظار زميلتها التي سبقتها فممنوع أن تجمع حاجتان بشريتان في وقت واحد في قوانين مصنعي «أم تكسي و «راسكو» بجمّال. عاملة أخرى قالت أنهن يعملن في ظل علاقات أخوة وجوار مع الجرابع والفئران التي تسيّر عمليات المرور في المصنع وهي ليست أي فئران بل هي من أعتى نوع وأحسن طراز ليست من نوع «بوفريرة»أو بوطميرة اللذان يؤثثان الصور المتحركة بل هما من نوع الجرابع من ذوات الوزن الثقيل يُطيح الواحد منهم القط بالضربة القاضية أو هو يربحه بالغياب. حتى حربوشة ما فمّاش محدثتنا الأخرى قالت أنها وزميلاتها قد تجاوزن سنوات في العمل ولازلن يصنفن كمتربصات ولا يتحصلن على فيشة (بطاقة خلاص) أما أجورهن الشهرية فحدث ولا حرج فهي لا تكفي حتى لمصروف أسبوع وهن لا يسمعن بشيء اسمه منح أو زيادات وقد أخبرتنا كريمة أنها تعمل دون انخراط بالضمان الاجتماعي وقد سبق وأصيبت بحالة إغماء فلم ينقلوها الى مستشفى ولم تستدع لها ادارة المصنع مُسعفا أو طبيبا وعندما تطوعت بعض الزميلات وطلبن طبيبا دفعت أجرته من «شهريتها الباهية» وقد أكدت لنا محدثتنا أنها تشك أن المصنع يحتوي على صندوق اسعافات أولوية يمكن أن نجد فيه حتى ولو مجرد قطن ودواء احمر . مذهولين كنّا مما رأينا وسمعنا حدّ الفجيعة التي تعمقت ونحن نستمع لممثل الادارة والمشرف على العمل يدعونا للدخول والمعاينة وكأنه يتباهى بظروف العمل الجيدة ويتباهى لأنه يسمح أن تاكل عاملاته على طاولات العمل وكيف ابتكر طريقة «الجوتون للحمّام» من أجل حسن سير العمل. غلق فجئي لا أجرة ولا مستحقات الى مدينة قصر هلال وعلى متن سيارة أجرة دائما توجهنا محملين بكم من الصور والشهادات المحزنة مما رأيناه وعايناه عن حجم المعاناة البشرية لعاملات الخياطة وكان الأخ المنجي الشرفي يقول إن هذا بعض من كل فمعاناة عاملات النسيج لا تعدّ ولا تحصى في مقر الاتحاد المحلي للشغل وجدنا الأخ المنصف حسن الكاتب العام المحلي صحبة فريق من عاملات مصنع «ساكونفكت» الذي أغلق أبوابه والعاملات في عطلتهن السنوية وعندما عدن وجدن الأبواب موصدة. الأخت حسنة عليّة النائبة الأولى في نيابة المصنع قالت أنها وزميلاتها فوجئن بالغلق بعد عودتهن من العطلة فتوجهن للتفقدية التي عاينت ذلك ثم اعلمتهن أن صاحب المصنع قد أرسل لتفقدية الشغل برقية طلب فيها بطالة فنية وذلك بعد الآجال القانونية وقد احتضن اتحاد الشغل العاملات وتفهم وضعيتهن، وهن الآن في بطالة فنية غير قانونية .»جميلة السافي» عضوة النيابة النقابية والعاملة هناك قالت أن العاملات لم ينلن أجرة عطلتهن السنوية وتحصلن على أجورهن ناقصة ولم ينلن مستحقاتهن السنوية الموعودات بها منذ مدة فلا ملحق أجور ولا منحة سنوية ولا شيء وأبناؤنا سيعودون للمدارس واقساط منازلنا غير المدفوعة تتراكم التصنيف المهني «منية اللطيف» قالت أن التصنيف المهني للعاملات لا تراعى فيه أي قوانين بل هو يخضع لمزاج العرف وحتى شهادات خلاصهن غير قانونية ولا تحمل لا اسم المؤسسة ولا المقر الاجتماعي ولا رقم الضمان الاجتماعي للمؤسسة ثم أن العاملات تشتغلن ثلاث وأربع أشهر ولا يتحصلن إلا على بطاقة خلاص واحدة. وهي بطاقات متساوية المجموع رغم الاختلاف في الاجر الساعوي واختلاف التصنيف المهني مما يقرب الأمر من المهزلة، وإذا كان سيمنحنا العرف زيادة فإننا نتسلمها ولا تثبت على بطاقة الخلاص ، أما عن حكاية إنخراطنا في الضمان الاجتماعي فهي طامّة إذ أن كشف سنوات انخراطتنا بالصندوق يظهر تلاعبا كبيرا بحقوقنا. على رصيف البطالة الأخوان المنجي الشرفي والمنصف حسن قالا لنا أن ما حكته العملات يعتبر بعضا من جزء كبير من المعاناة العمالية التي تتحملها النساء ويتلاعب خلالها أصحاب العمل بالقوانين وبحقوق الاجراء البائسين وحالة هذا المصنع ليست إلا عيّنة مما يقدم عليه الاعراف من استهانة بلقمة العاملات اللواتي يجدن أنفسهن في مثل هذه الحالة على رصيف البطالة ولا نعرف ما ستكون عليه وضعيتهن فالمفروض أن البطالة الفنية التي طلبها مؤجرهن يتم تنسيقها مع تفقدية الشغل بعد القيام بتحقيق ومع مراعاة الآجال القانونية للغلق ولكن هذا لم يحدث وقد عاينت السلط المعنية الغلق الفجئي غير المسبوق بإعلام ولم يتحقق الى الآن أي تقدم في اتجاه نيل العاملات لحقوقهن. أمام اصرار العاملات وإلحاحنا في السؤال عن حجم تدخل الاتحاد المحلي مع السلط لحل هذا الاشكال أجابنا الأخ المنصف حسن أن صاحب المصنع لا يرد على مكالمات المعتمدية ولا يستجيب لطلب معتمد الجهة في لقاءه ويواصل سلسلة تعنته ويرفض منح حقوق العاملات برغم أنه قد ابرم صفقات عمل تكفي لنهاية شهر فيفري القادم ، فهو يتعمد منذ تأسيس النيابة النقابية في مصنعه الى تسميم أجواء العمل والضرب عرض الحائط بكل القوانين. هذا البعض من إطلالتنا على معاناة عاملات قطاع النسيج في جهة المنستير والتي من المؤكد أنها تشبه معاناة العاملات في باقي الجهات ويحصل هذا ويستمر برغم أهمية هذا القطاع بالنسبة لاقتصادنا الوطني اذ يشغل قرابة نصف الناشطين المباشرين في قطاع الصناعات المعملية أي ما يعادل 10 من مجموع الناشطين المباشرين على الصعيد الوطني وتحتل النساء منهم حوالي ثلاثة أرباع احداثات الشغل في القطاع أي ما يعادل ربع التشغيل النسائي تقريبا على الصعيد الوطني.