عندما يتناول الناقد موضوع النقد فهو يمارس عملية خطيرة، فيها مزيج من المازوشيّة والسّاديّة في نفس الوقت، شأنه شأن طبيب الاسنان الذي يحاول اقتلاع أحد أضراسه. النقد السينما في تونس؟ ما هي طبيعته؟ وما هو واقعه؟ من أين أتى والى أين يتجه؟ من هو الناقد وما هي »الأوعية« الاعلامية التي تمرر ذلك النقد؟ من حين الى آخر يطرح موضوع النقد السينمائي على طاولة النقاش من خلال المهرجانات أونشاطات الجمعيات السينمائية وآخرها ندوة النقد العربي التي نظمتها »جمعية النهوض بالنقد السينمائي« في صلب أيام قرطاج السينمائية الماضي. فلنحاول تناول النقد السينمائي في تونس والولوج في عوالمه كأحد مكونات المشهد السينمائي التونسي أو المشهد السمعي البصري. ولّما بدأ التداخل بين التلفزة والسينما فإن معالجة هذا الموضوع تنسحب على السينما والتلفزيون في آن لأن لا فرق اليوم بين عملية ممارسة الصحافة او النقد المختص فنقد السينما ينسحب على كل المرئيات: سينما، تلفزيون وفيديو. ولذلك سوف نستعمل مفردة نقد المرئيات أو السمبصرّيات. ❊ ❊ ❊ النقد السمعي البصري أرهاط كثر الحديث منذ سنوات حول مكانة الناقد ومنزلته في عملية تطوير الخلق السينمائي. وأمامنا بديهية: يصحّ القول بأن المجتمع الذي لا يفرز سينما لا يفرز نقدا سينمائيا فإن واقع الناقد السينمائي والنقد المرئي مرتبط بواقع السينما التونسية وواقع مشهدها السمعي البصري الذي أطلقنا عليه في الحلقة الأولى من هذا الملف: المسبت (م. مشهد، س. سمعي، ب، بصري، ت . تونسي). وإن كان النقد السينمائي العربي الجاد حديث العهد، رغم بروز بعض المحاولات منذ العشرينات فإننا نلاحظ أن النقد السينمائي في الوطن العربي، وبالتالي في تونس يتخبط في أزمة شبيهة بأزمة السينما العربية. ويرجع ذلك أساسا الى عملية ممارسة النقد وطبيعته في البلدان العربية ويتفهم هذا النقد ثلاث أرهاط. 1) النقد الاعلامي تتعاطاه الصحف اليومية السيارة التي تغذّي نظرة للسينما خطيرة وخاصة المتمثلة في الخلط بين النقد والحياة الشخصية للممثلين وعلاقتهم بالمخرجين. 2) النقد الاعلامي التحليلي، وهو نقد يتمثل في بعض المقالات الانطباعية التي تقدم بعض التحاليل القاموسية للأفلام وتربطها بواقعها التاريخي. 3) النقد التنظيري وهو الذي تفتقر إليه حركة النقد في العالم العربي... وبالتالي في تونس وهو النقد الذي يدفع بالسينما الى الأمام بالتنظير والتحليل والتأريخ... والاحصائيات. وتكمن أهمية كل رهط من الأرهاط الثلاثة من النقد بمكانتها في الصحف والمجلات وجلّ الدوريات »الجامعة« أو المختصة. كما يبرز تحليل مكانة السينما في مدوّنة النشر العربي ونسبة الكتب المخصصة للسينما في مختلف دور النشر. كما تقاس أهمية النقد السمعي البصري بمنهجية الناقد نفسه وكيف يتوجه الى القارئ. شيء من التاريخ: إذا حاولنا ولو بسرعة تحديد مكانة السينما (والآن التلفزيون) في عالم النقد لم تظهر الكتابة حول السينما بطريقة مسترسلة الا بعد الاستقلال، منذ بداية السينما وبداية الصحافة التونسية (وهما متزامنان)... نجد تطورا على منحييْن. المنحى الأول لغوي. المنحى الثاني مرتبط بواقع نشر الدوريات. أما بالنسبة الى الكتب فذلك أمر آخر. منذ أول جريدة نشرت في تونس بعد الرائد الرسمي وهي »الحاضرة« باللغة العربية وجريدة »لابراس« بالفرنسية، نكتشف عدم توازن في الاخبار السينمائي على مستوى اللغة. واذا سنحت الفرصة لبعض الباحثين بتقليب صفحات تلك الأطنان من الجرائد لاكتشفنا ما يلي: الكل يعلم ان الصحافة التونسية مرّت بعقبات ثلاث: البدايات 1881 1920 : (وهي فترة إثبات الذات) فإن كانت الصحافة الناطقة بالفرنسية قد اشتدّ عودها في بداية القرن العشرين فإن الصحافة المكتوبة باللغة العربية كانت تعيش حشرجات البدء واثبات الذات فبعد أن »ظهرت جرائد »الصواب« (1904)، »والسعادة العظمى« (1900) و »لسان الأمة« (1906) فقد برزت حتى 1921، 78 دورية ناطقة بالعربية وفي كل تلك الجرائد لا وجود لكلمة سينما الا في أخبار قصيرة جدا. بالمقابل كانت الجرائد الفرنسية تفرد مقالات عديدة، للسينما تقنيا وفنيا وحتى على مستوى مواعيد العرض، وهكذا تمكن المخرج والمؤرخ عمر الخليفي من تأليف كتابه الأول عن تاريخ السينما في تونس اعتمادا على تلك المقالات ومنها جرائد La dژpڈche Tunisienne, La Tunisie Franچaise, Le Courier de la Tunsie ليوميات وخاصة الشهريات. La Tunisie Franچaise, l'Illustration Nord Africaine, Le Courier de la Tunsie 1938 1920 : بداية محتشمة كانت هذه الفترة وهي ما يسمى بعصر ما بين الحربين فترة ازدهار للصحافة التونسية خاصة بعد رفع الضغوطات عن الصحافة التي سُلّطات على الافلام أثناء الحرب العالمية الأولى وخاصة عام 1936 نتيجة بروز »الجبهة الشعبية« في فرنسا وتأثير ريح الحرية الذي فرضته لمدة سنتين موجة الاشتراكية والشيوعية فكان تأسيس الصحف بسيط وهكذا برزت مجلات مهمة مختصة في الابداع مثل »العالم الأدبي« و»الثريا« و »الزيتونة« و »المباحث« الى جانب الصحيفتين الأشهر »الزهرة« و »النهضة«... فهي جلّ، بل كل تلك الدوريات تكاد تكون السينما غائبة ففي المباحث مقالتان فقط... عن السينما. 1956 1938 : طفرة الاعلام السينمائي والجريدة الوحيدة التي اهتمت بالسينما هي جريدة »الاسبوع« التي صدرت عام 1947 التي أفردت صفحتين كل أسبوع للفن: مسرح، موسيقى، أغنية والسينما... وأتت مقالاتها حول السينما على مستوى رفيع وعلمت في ما بعد ان محرر تلك المقالات هو »محمد بن علي« الممثل الشهير وقد نعتبره مؤسس النقد السينمائي في تونس فقد كان يتناول كل اسبوع نقد فيلم، بل تحليله، متبعا منهجا محددا: القصة، الاخراج، التمثيل، الديكور والغناء الى آخره. في حين ان جريدتي La Presse و Le Petit Matin الى جانب La dژpڈche واصلت الكتابة عن السينما وبصفة أسبوعية... غير ان المختص الاول في النقد السينمائي والموسيقى كان ذلك الشباب التقدمي الاستاذ في معهد كارنو الذي سيصبح أحد أهم علماء التاريخ والمستعرب الذي عشق بلادنا وطرد منها عام 1952 وهو نقابي شهير أعني Andrژ Raymond المؤرخ ومترجم ابن ابي الضياف الذي كان يتعاطى النقد السينمائي على أعمدة La Tunisie Socialiste وهو مؤسس أول نادي سينما وأول من طوّر أفلاما هاوية ووعد بمدّنا بأفلام حول الحركة النقابية كان قد صورها بنفسه. النقد بعد الاستقلال وهنا نتناول النقد السينمائي في الصحف السيارة وسوف نتناول المجلات المختصة... بقيت بعد الاستقلال ثلاث صحف يومية ناطقة بالفرنسية. La Presse ، Le Petit Matin و l'Action وجريدتين باللّغة العربية الصباح والعمل... وقد تناولت تلك الصحف الاخبار السينمائي بطرق مختلفة ولم تبرز صفحات أسبوعية خاصة بالسينما الا في أواسط السبعينات فقد كتب المقالة الخاصة بالسينما عديد الادباء والصحفيين والسينمائيين ومنهم »الحبيب بولعراس« والتيجاني زليلة والطاهر الشريعة ومصطفى الفارسي والمنصف شرف الدين وأحمد حرز الله وهشام الجربي ومحمد عزيزة واختص من بينهم ثلاثة »عبد المجيد الشرفي« وهو صحفي غير الشرفي الباحث، وعبد الحميد القماطي الذي كان يوقع باسم »ميدوني« والمرحوم محمد محفوظ وخاصة محمد الكامل في جريدة العمل. وفي أواخر السبعينات برزت جريدة Le Temps التي ستعطي أهمية قصوى للسينما بتخصيص صفحتين أسبوعيّتين بالتوازي مع صحيفة La Presse وقد برز منها أقلام مثل المنصف مراد ونجيب عياد والهادي خليل وكان صاحب هذه السطور المشرف على تلك الصفحات الى جانب صفحات التلفزة التي كان يُخصّص لها مقال نقديّ أسبوعيّا. وهكذا تركزت السينما على أعمدة الصحف وتركزت صفحات السينما الاسبوعية التي لم يصمد منها الا صحيفة لابراس التي تنشطها منذ أكثر من عشرين سنة »سميرة الدامي« الى أن برزت »الشروق« و »الصريح« و »الأنوار« و Tunis Hebdo و Le Quotidien ، وغيرها التي ستحوّل مجرى تناول قضايا السينما الا في ما ندر الى الاخبار عن النجوم والمخرجين والاحداث السينمائية دون ممارسة النقد الا في حالات استثنائية. المجلات المختصة برزت من حين الى آخر مجلات تودّ ان تختص في السينما... غير ان جلّها لم يصمد الا »شاشات تونس« في الأشهر الأخيرة. أول دورية مختصة في السينما كانت مجلة Film التي صدرت في تونس عام 1929 وبرز منها عددان فقط وفي مدة الاستعمار لم تبرز الا مجلتان بالعربية وواحدة بالفرنسية اقترنت فيها السينما بالمسرح. الاولى تأسست عام 1938 وهي مجلة الراديو والسينما بمناسبة بعث أول محطة راديو بتونس والثانية كانت طموحة أسسها الصحفي والمترجم محمد رضا الأحمر وهي مجلة »المسرح والسينما« التي لم تصمد الا عددان الى جانب مجلتين بالفرنسية الأولى Hebdo وكان يحرر مقالاتها النقدية في السينما الفنان حاتم المكّي الذي سيصبح أول مدير لمصلحة السينما بوزارة الاخبار والارشاد والثانية Cinژe وهي تتناول المسرح والسينما والراديو، وكانت تخصّص مقالا أسبوعيا لكل فيلم يعرض في العاصمة. أما أهم تجربة نقدية سينمائية برزت عن طريق نوادي السينما. فمنذ بداية الخمسينات كانت حركة نوادي السينما نشيطة خاصة في صفاقس على يد الطاهر الشريعة الذي كان يمارس النقد السينمائي على أعمدة La dژpڈche Sfaxienne غير أن أهم مبادرة نقدية كانت ما يسمى »مجلس الثلاث« اذ كان نادي السينما بصفاقس ينشر كل أسبوع جدولا لأفلام يقيّم فيه الطاهر الشريعة والنوري الزنزوري واستاذ فرنسي غاب عني إسمه تقييمهم للأفلام المعروضة في الاسبوع والنصح بمشاهدة أهمها كما كان نادي السينما بصفاقس يطبع ملحقا صغيرا يثبت على الملصقات العلنية للأفلام »ينصح بمشاهدته« وهكذا أدت تلك التجزئة الى بروز أول دورية مختصة في السينما، وهي »مجلة نوادي« التي كانت ذات مستوى رفيع... صدرت منها اعداد ثم اندثرت حتى أعيدت على شكل مجلة أخرى تصدرها الجامعة التونسية لنوادي السينما وهي مجلة »شريط« لم تصمد سوى عددين الى جانب مجلة أصدرها نادي سينما القيروان تحت عنوان »جحا« حوّلها صاحب الرخصة »مصطفى النڤبو« الى مجلة »الفن السابع« التي صمدت وتصدر الى اليوم كل ما استطاعت للنشر سبيلا، وأصدرت في باريس مجموعة من محبي السينما مجلة »أضواء« صمدت ثلاثة أعداد وكانت بالتوازي تصدر نشريات داخلية في صلب نوادي السينما مثل Ecran بالمنستير وحمام الانف والعزيمة »وهاني جوهرية« وغيرها. وقد أصدر منير الفلاح »مجلة شاشات« تونس لم تصمد ثم أعيدت الى الوجود اليوم وبالالوان وهي في عددها 14 في شهر ديسمبر وقد اصبح يشرف عليها المنتج لطفي العيوني وهكذا اصبحت لسان حال المنتجين أكثر منها مجلة نقد سينمائي. ولا ننسى تجربة مجلة وزارة الثقافة التي اصدرها الطاهر الشريعة »المسرح والسينما« التي صدر منها أربعة اعداد عام 1966 وتبقى في تحريرها ومحتواها وتبويبها اهم مجلة مختصة في ميدان السينما. وقد واصلت »مجلة الاذاعة والتلفزة« التي كانت »مجلة الاذاعة« ثم انفصلت الى »التلفزة« و »الاذاعة« تعاطي الاخبار والنقد السينمائي والتلفزي. واهتمت دوريات مثل »إيبلا« والحياة الثقافية بتخصيص ملفات حول السينما وكذلك الاسبوعيات مثل »المغرب« وحقائق وملحق »لابراس« الاسبوعي. غير أن أهم تجربة وأكثرها حرية في تعاطي النقد السينمائي قام بها الطاهر الشيخاوي في صلب جمعية النهوض بالنقد السينمائي وهي تجربة »كتابات سينمائية« Cinژcrits وتوقفت بمغادرة الطاهر الشيخاوي رئاسة الجمعية المذكورة. بيبليوغرافيا السينما في تونس لم تعر دور النشر أهمية للكتب المختصة في السينما فمدوّنة النقد السينمائية شحيحة. أولها كتاب تاريخ السينما في تونس لصاحبه عمر الخليفي الذي يبقى مرجعا مهما وثانيها كتاب مهم le cinژma Tunisien توقف في نهاية السبعينات ألفه أستاذ علوم الاعلام البلجيكي Victor Bacly نشر المرحومة الشركة التونسية للنشر والتوزيع... وتأتي تجارب أخرى مثل كتاب »مومن التونسي« و »سنية الشامخي« و »علي العبيدي« و »محمود الجمني« وأهم تجارب نشر الكتب السينمائية كانت على يد الهادي خليل وخميس الخياطي وعبد الكريم قابوس محرر هذه الأسطر. فالأول قام بنشر عدة كتب وجمع مقالات أو دراسات كان قد نشرها. وأهمها كتابه »أبجديات السينما التونسية« في حجم ضخم في نسختين عربية وفرنسية مرفوقا بقرص D V D فيه مقتطفات من الافلام التونسية ويعتبر الهادي خليل أغزر كتاب السينما كتابة وتحليلا ثم تجربة كتاب السينما 1984 الذي انطلق سنويا ولم يصمد لصاحب هذا المقال وكتاب »المرأة والسينما في تونس« الذي تم توزيعه عالميا لأنه صدر عن »مركز البحوث والدراسات والتوثيق حول المرأة«، وأما خميس الخياطي فإنه كان قد كتب الكثير وتعدّدت تجاربه فهو الوحيد الذي نشر كتابا حول النقد السينمائي وسنعود الى تجربته في مقال لاحق غير أن أهم مدوّنة في النقد السينمائي هي الاطروحات ورسائل البحث التي تنتجها الجامعة التونسية. فقد خصص كل من فريد بوغدير، ومحمد حمدان وحاتم الجعايبي، وحمادي بوعبيد وسنية الشامخي وعبد الكريم قابوس واقبال زليلة أطروحات دكتوراه حول السينما التونسية فإننا سنجد العشرات أ و المئات من رسائل البحث في معهد الصحافة وعلوم الاخبار وفي المعهد العالي للتوثيق والمعاهد السينمائية الجديدة ومعاهد الفنون التشكيلية أطروحات لابد من التفكير في نشرها. ❊ ❊ ❊ هذا هو واقع النقد السينمائي والصحافة السينمائية في تونس فكيف نقيّم هذا النقد؟ هذا ما سوف نقدمه في الحلقة القادمة من خلال تجارب أهم النقاد.