أشبهُ بجمرة ملتهبة متن هذا الكتاب، أينما قلبت ورقاته لذعتك الأفكار والأحاسيس بوهجها. تُخرجك التفاصيل من ظلمة الزنازين الموصدة على عذابات من فيها لترميك أعزل في وجه زنازين أشدّ ظلمة وحلكة وتنتقل بك الأحداث من المرئي إلى اللاّمرئي، من حجرة السجون إلى جراح الذاكرة... من رفاق الحبس إلى أفراد العائلة... عمّ عمدة العتّال، أو حمدة بن محمد بن الحاج حمدة فليس »رجلٌ من عموم رجالات بنزرت، ورث تواصُلاً الموقع والإسم والهوية عن والديه اللذين لم يعمّرا طويلا، هو والد المناضل السياسي والحقوقي محمد صالح فليس وهو قادحُ جذوة النضال والمعين الذي لم ينضب في وجه ابنه محمد صالح فليس. الكتاب الذي اجترح متنه محمد صالح فليس من جراحه وجراح رفاق السجن هو بمثابة شاهدة قبر طويلة ستنتصب فوق قبور الجلاّدين لتخز بقاياهم، وهو أيضا رسالة مطوّلة تفيض بالتفاصيل التي أثثت تجربة محمد صالح فليس في سجنه و»حريته« كتبها لوالده الذي فاته أن يسمعها من ابنه... في هذا المنجز الحميمي، لن تتوقف كثيرا أمام الشكل الذي اختاره الكاتب ولن تتمعن كثيرا في أساليب كتابته لأنك ستغوص في أعماق الفكرة لتجنح بك بعيدا عن عزلة الورق والحبر، ستتدثّر بآلام وآمال رجُلٍ، وسيمنحك الكتاب وأنت تقرأه فرصة لإعادة النظر في علاقتك بذاتك وعلاقتك بالآخر بدءا من والدك ووصولا إلى من لا تعرفه إلاّ بالإسم... في تصديره لكتابه، اختار محمد الصالح فليس أربع شذرات لكل من محمود درويش واميل حبيبي وتوفيق زياد وأبيقور ألقت بظلالها على التيمات المفصلية في منجزه، ومثلت أيضا القناديل التي سيضيءُ بها الكاتب دربه الحياتي الموغل في الظلمة، فدرويش منحه أرض الكلام والمعنى واميل حبيبي أنقذ ذاكرته وتجربته من التلف والهباء وتوفيق زياد وهبَهُ القدرة على انبات العشب الأخضر فوق قبور أسلافه أما أبيقور فقد شحنه وزوّده بما يكفيه ليواجه الموت دون خوف... ما يميّز كتاب عمّ حمدة العتّال، عن باقي الكتابات »التأريخية« للمناضلين السياسيين والحقوقيين لفترة ما بعد الاستقلال (خاصة من 1968 إلى 1980) أنه كتاب التفاصيل الصغيرة، كتاب المشاعر قبل الايديولوجيا.