منذ سنة أطلق فتحي بلحاج يحيى كتابه «الحبس كذّاب، والحيّ يروّح»، لكنه رأى أن العنوان لا يعبّر بما يكفي من حيث التخصيص فأضاف «ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبي». واليوم يصدر كتاب آخر لمحمد الصالح فليس عن دار نقوش عربية شكل مفاجأة من العيار الثقيل باعتبار تصدّره للمبيعات من حيث الاقبال عليه في معرض الكتاب كواحد من أكثر كتب الدار رواجا. وحين تحدثت عن «المفاجأة» ففي البال تلك الضجة حول كتاب الطبخ الشهير والأبراج وبعض كتب الشعوذة التي طفح بها معرض الكتاب الذي شبهه أحد الصحفيين ب«سيدي بومنديل» (سوق لا الولي الصالح كما يبدو)! محمد الصالح فليس اختار لكتابه عنوانا من رحم الشارع والنسيج الشعبي «عم حمدة العتال» الذي هو والده وعبارة «عم» تجعل الوالد أقرب منه إلى عموم الشعب منه إلى الابن محمد الصالح فليس باعتباره ابنا بارا لهذا الشعب وأنموذجا صادقا لمواطن عاش أبيا ومات يرفل في الكرامة. «عم حمدة العتال» عنوان لا يفي بالغرض فكانت من الضروري اضافة ما يلي «ورقات من سجل الاعتقال السياسي في تونس السبعينات». الذاكرة الملتهبة من الدفاتر إلى الورقات ومن «اليسار في الزمن البورقيبي» إلى الاعتقال في تونس السبعينات». انها الذاكرة الملتهبة.. انه «التغريد» «ان غردنا ولم نبلّغ فلنا نشوة التغريد». هي نشوة التغريد إذن! 264 صفحة وعشرات الرسائل أم واخوة واب ومخبرون وقضبان.. حب.. شوق.. اصرار.. اتجمعوا العشاق.. تمزق بين عالمين.. رفاق صامدون وأب يدفن وقد جاوز الستين.. حياة يومية مليئة بالتحدّي ورغبة في كسر إرادة الجلاّد.. يتذكر محمد الصالح فليس بلسان اميل حبيبي: «أستعيد الماضي لا لكي افتح جراحا بل لكي لا تذهب التجربة هباء ولا تعود الذاكرة عذراء» ويضيف على لسان توفيق زياد: «وقفت بوجه ظلاّمي يتيما عاريا حافي ................. وما نكّست أعلامي».. «إلى والدي في ذكراه الثلاثين... إليه أهدي كل لحظة من لحظات أسطر هذا الكتاب..» وتبدأ الرحلة.. هل كان الكتاب مجرد رد اعتبار ولمسة وفاء وعرفان للرجل الذي صمد؟ عم حمدة العتال تعرفه كل الأرصفة تعرف كل الأثقال كتفيه.. لم يصغر يوما.. فصول فصول من الحب والشوق الاعتراف وبعض المقاطع لا يمكن الا تقرأ بالدموع ولا أبالغ. مرهفة تلك المشاعر.. قد يكون محمد الصالح فليس مجردا من تقنيات الكتابة السينمائية لكنه كان يكتب بالصورة كان ينقل وهو يصف معركة بنزرت كمراسل حربي محترف.. قد لا يكون محمد الصالح فليس مؤرخا لكنه كان يؤرخ لأدق التفاصيل.. كان يصف بنزرت حيّا حيّا وبدقة العاشق كان يتغزل بأزقتها.. تغيّر المعمار الآن لكني أزعم أني عرفت بنزرت كما وصفها وان ربع قرن لم يغيّر منها شيئا رغم العمارات التي ارتفعت والتحولات العمرانية الكثيرة التي طرأت على المدينة. كان محمد الصالح فليس يعيش بكل جوارحه جبروت المستعمر ويرسم صفحات من صفحات البطولة كان يكتب ندمه وينقل.. لم يكن غريبا ولم يكن ينقل لتسجيل مغنم أو تحقيق سبق. كانت ذاكرته حليفة صديقة.. لم تخنه لم تبخل عليه كانت معطاءة تتدفق بصور الرفاق والجلادين والاهانات والتصدي والاباء والشهامة وكانت المشاعر مرهفة.. كان الانسان سيّدا ! كان حرّا رغم القيود ابنا رغم الاذلال الذي يعمد إليه الجلاد رغم فراق الأحبة والقيد دونهم.. رحل عم حمدة وأنت في الأسر ! رحل السند وجلادك يسعى كي تنكسر.. رحل شقيقك... لم تنكسر ! هل كان كتاب «عم حمدة العتال» لرد الاعتبار ورد الجميل واستحضار جرعات الأبوة الفائضة في اتجاه المؤلف أم كان نافذة نحو الكشف وارسال المشاعر وتصوير صفحات من دفاتر مظلمة مازالت الحاجة إلى الكشف عن المزيد منها؟ «عم حمدة العتال» شهادة تحتاج إلى دعم للغوص في تجربة مازالت بعض فصولها بحاجة إلى إثارة في زواياها المتعددة.