على الرغم من الرحلة المضنية والثرية التي قطعها من عمره الطويل، شيخنا الوقور محمود بن البشير شمام المولود بالعاصمة التونسية في شهر محرم الحرام سنة 1331 ه الملاقي (حسب قوله) شهر ديسمبر 1912 م وقضاها في عرصات المحاكم وعلى منصات القضاء التونسي بمختلف درجاته من الابتدائي الى التعقيب، في عدة مدن وجهات تونسية اخرها الحاضرة مركز الادارة والحكم منذ القرون العديدة، ولأنه جذبه الحنين وهزه الشوق الى الوسط العلمي والثقافي الاصيل الذي نشأ فيه وتربى وتخرج منه ودرس به وعرف شيوخه وشبابه واخبارهم جميعا وأجواءهم الظاهرة والخفية متمثلا بما قاله قبله الباجي المسعودي في الحنين الى البيئة الزيتونية العريقة منشأ شبابي وأترابي ومرضعتي ثدي العلوم الذي لا زال يأويني لما كان كل لك كذلك واكثر عقد العزم على ان يتوج نشاطه المتواصل ويرصّع آثاره الفكرية بجوهرة فريدة لامعة فكان هذا الكتاب الضخم (اكثر من 600 صفحة) والأنيق بورقه الصقيل وصوره التاريخية الموضحة وطبعته الفاخرة (اعلام من الزيتونة ج 1) لم يلبث ان أردفه بجزء 2 وأكملهما ب : اعلام من المدرسة الصادقية واختار لظهور العنوان الاول مناسبة فريدة من نوعها من بداية الاستقلال المجيد وهي الاحتفال الرسمي والقومي بمرور ثلاثة عشر قرنا مضت على تأسيس جامع الزيتونة الذي كان عبر تاريخه الطويل معمورا بأهله من مشائخ أجلاء وطلاب نجباء وخاصة طيلة عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب العربي بأقطاره الثلاثة التي اتقدت جذوة الوطنية والنضال التحريري فيها انطلاقا من حلقات دروسه ومحاضرات أعلامه ولقاءاتهم بين عرصاته، وهذا الاحتفال المجيد على مستوى الشعب والحكومة نظمته سلطة العهد الجديد في نهاية عشريتها الاولى اي سنة 1417 ه الملاقي 1996 في اطار التصالح مع الهوية الاصيلة ورد الاعتبار لهذا المعلم الذي تعطل تعليمه وتوقف نشاطه بضربة ولسان حاله يصيح: سيذكرني قومي اذا جد جدهم. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. قلت في هذه المناسبة الثمينة والفريدة من نوعها في تاريخ تونس المستقلة أبى ابن الزيتونة البار وبقية سلفها الصالح الاستاذ المربي والقاضي الضليع الشيخ الوقور المحترم السيد محمود شمام الا ان يساهم بعمل مشهود فكان هذا الكتاب الذي يشكل سفرا ضخما ومرجعا رائعا يسد ثلمة واسعة في المكتبة التونسية والعربية قاطبة وذلك في مجال التعريب والترجمة الذاتية لعلماء اعلام ومصلحين رواد وشيوخ بررة كاد يلفهم النسيان ويضيع ذكرهم في غمرة الانانية المفرطة والحقد الدفين الموروث عن الاستعمار البغيض ورموزه العاملين بكل الوسائل لمحو هوية البلاد وشعبها العربي المسلم وطمس معالم الثقافة الاصيلة ولغتها النبيلة ومن يحملها ويذود عنها ويضحي في سبيلها طيلة قرن مضى وزيادة (1881 1981) والناظر في هذا الكتاب وما حوى وما قام به صاحبه ومن وعى سيكتشف انه كتاب وفاء وذكرى، وان عمله تأكيد انتماء لشريحة بارزة في المجتمع التونسي ابان الاحتلال الغاشم الواقف بالمرصاد لكل تحرك وطني اصيل او عمل ايجابي يحمي هوية البلاد ويحفظ مكانتها، وانه كتاب تأريخ لحقبة زاخرة من تاريخ بلادنا برز فيها رجال اعلام مؤسسون في السياسة والصحافة وتوعية الشعب واصلاح حياته ومؤسساته التعليمية والجمعياتية وطبعوا الحياة العلمية والفكرية والثقافية والقضائية في مراكز مثلت الريادة امام سطوة الاجنبي الغاصب لخيرات البلاد والمسيطر على مقدراتها بهدف بناء امبراطورية فرنسية واسعة من وراء البحر المتوسط تمحى فيها الشخصية العربية المسلمة وتندثر الذاتية الوطنية الصادقة، وكثيرا ما نجد المؤلف الكريم يتجاوز الترجمة الشخصية لأعلام الزيتونة الى ابراز جوانب من الاحداث الواقعة في حياتهم ودورهم في معالجتها فهذا الشيخ (عدل الاشهاد) محمد مناشو الذي يندرج من اصل أندلسي استقر أجداده بالعاصمة التونسية وتخرج هو من التعليم الزيتوني ليباشر العدالة والتعليم الحر لتربية الشبان وكان مولعا بالكتابة والنقد والاصلاح في الصحافة والمسرح والنوادي والجعيات حتى عدّه الاستاذان: عز الدين المدني ومحمد السقانجي في كتابهما (رواد التأليف المسرحي) من رواد التأليف المسرحي ومن دعاة النهضة الفكرية والسياسية والاجتماعية الف عدة كتب مدرسية ونظم مجموعة هامة من الاناشيد الوطنية لتلاميذ المدارس وغيرهم وحضر في أول لجنة لاصلاح التعليم الزيتوني ومن اعضائها الشيخ سالم بوحاجب تحت رئاسة الوزير بوعتور فتقدم مدير المعارف الفرنسي باقتراح (يسعى الى ادخال التعليم الزيتوني تحت انظاره لان دولته تعتبر جامع الزيتونة معقلا يقف في وجه انتشار وتغلغل اللسان الفرنسي وبالتالي الاستعمار الفكري فيجب ترويضه وتطويعه تحت ادارة المعارف الفرنسية بتونس) فأثار الشيخ مناشو ضجة تحولت الى معركة قومية خاضها الوطنيون وانتهى الامر بأن تقرر فصل جامع الزيتونة عن ادارة المعارف وجعله مرتبطا بالوزارة الكبرى وتوالت الاحداث وتعددت المعارك الاصلاحية التي كانت تشكل امتدادا واضحا لما كان يطمح اليه وينادي به عميد الاصلاح الوطني العريق المناضل خير الدين باشا، وتتأكد اهمية هذا الكتاب النفيس واهمية الحرص على اقتنائه كي لا تبقى مكتبة خاصة او عامة خالية منه والا فانها قفرا مهما امتلأت، عندما يغوص الاستاذ شمام في حديثه عن اعلام (ملأوا الدنيا وشغلوا الناس) في وقتهم وفي مجالات العلم والقضاء والعمل الاجتماعي والجمعياتي والتربوي، فهذا الشيخ مناشو سالف الذكر يساهم ويدير اول مدرسة حرة لتعليم اللغة العربية بأسلوب بيداغوجي عصري يعتمد الكتب الحديثة التي ألفها هو مبسطة وميسرة حتى انتصر في معركته ضد خصوم اللغة العربية وذلك حين ظهرت نتائج هذه المدرسة في مقدرة ابنائها وبروزهم في الامتحانات وتنظيم المباريات الادبية والعلمية التي نالت ابتهاج واعجاب الاهالي لا سيما عند سماع الاناشيد المدرسية والوطنية التي برز في نظمها الشيخ مناشو. وهذا الشيخ المختار بن محمود مؤسس (جمعية الشبان المسلمين) لرعاية الجيل الصاعد وتوجيههم وجهة الخير والصلاح، والعلاّمة البحر محمد الفاضل بن عاشور الرئيس الاول لمنظمتنا العتيدة (الاتحاد العام التونسي للشغل) الذي أسس وركّز الاتحادات الجهوية بسوسة وصفاقس وقابس وقفصة وقادها بحكمة وبصيرة، كما أسس أول نقابة طلابية تتزعم الطلبة الزيتونية وتطالب بحقوقهم وتنظم وتقود أعمالهم ونشاطهم وهي (منظمة صوت الطالب الزيتوني) ثم محمود الباجي القاضي الضليع والكاتب الصحفي النشيط الذي اسس بعد تقاعده عن القضاء (جمعية المحافظة على القرآن الكريم)، في اخر ستينيات القرن الماضي، وغير هؤلاء ممن كانت تعج بهم الساحة الثقافية ومنابر الجمعيات والنوادي التي تمتد في البلاد طولا وعرضا... ولقد عرفت هذا القاضي الكريم والمؤلف القدير عن طريق اعجابي وتقديري بصنوه وشقيقه شيخي واستاذي المحترم المرحوم (محمد شمام 1909 1991) الذي كان غاية في الزهد والورع والاخلاص المهني والاتساع العلمي والميل الى النصح وتوجيه التلاميذ التي هي أقوم، ومنه وبه انتقل اتصالي الى شقيقه هذا مؤلف الاعلام الذي عرفت فيه السماحة والكرم ودماثة الاخلاق، فقد أهداني مشكورا نسخة مما تبقى من كتبه العديدة والمفيدة واخرها الاعلام هذا بأقسامه الثلاثة سابقة الذكر، وكتاب عن رائدة الحركة النسائية المناضلة المغمورة بشيرة بن مراد، وكتاب عن مدينة رادس وأمجادها في الماضي والحاضر، وكتاب عن ذكرياته في القضاء وعلاقة بورقيبة به وهي كلها جليلة القدر وعظيمة النفع قدمها هدية لشخصي المتواضع مبدؤه بخط يده ممهورة بإمضاء المحترم فتقبلتها قبولا حسنا وتشرفت بحوزها واستفدت من اطلاعي عليها وبادلت صاحبها التحية العطرة والشكر الجزيل وقمت بزيارته اكثر من مرة في مسكنه الأنيق بقلب مدينة رادس الفيحاء وتشرفت بمجلسه والتزود من فوائده الجمّة. فتذكرت بحضرته نده وصديقه الذي عاشره وأحبه حبا جما وحزن على فقدانه حزنا عميقا من خلال حديثه عنه وتمجيده في اكثر من موضع من كتبه ومجالسه وأحاديثه كلها وهو العالم طيب الذكر واسع العلوم والمعارف والمناضل الصادق استاذي المبجل المغفور له محمد الفاضل بن عاشور (1909 1970) الذي أحب العلم والمعرفة وأحب الصلاح والاصلاح وأحب الافادة لكل الناس في حبه الناس جميعا وخلدوا ذكره وصنفوه من الأفذاذ العمالقة ح