هكذا ينادونه: الصغار والكبار، الرّجال والنّساء آسيدي الشيخ، حين يخرج من البيت إلى المسجد أو إلى المكتبة النموذجيّة خصوصا بعد تقاعده كأستاذ تعليم ثانوي حقبةً تناهز أربعين سنة، تجد كلّ من يراه يهرع إليه بالترحاب و التسليم. و بوجهه الصّبوح وإبتسامته المتوهّجة حبّا وعفافا وتواضعا وتسامحا، يلاطف المكروب و يبعث الأمل لدى المنكوب ويسدي النصح لكلّ معتد أثيم، فكانت تهابه لشدّة ورعه القلوب القاسية من الرحمة والقاحلة من الإيمان. وحين تدبّ الفتنة بين الزوج وزوجته، بين الأهل والولد، والعشيرة والقبيلة يحفّزه النّاس بالنداء ليزيل غيوم الفرقة بروحه السمحة. كان متعطّشا للخير والعطاء لأنّه متجذّر في تلابيب هذه الربوع، لا يشتكي رغم عتوّ الزمن السافر وهول المكائد وحسد حسّاد بعض النفوس المريضة والذميمة كان يتودّد إليه حتّى العدوّ البغيض، كان يتنفّس الإيمان، و نخوة العزّة تفوح من بريق عينه، من وثبته على إنصاف المغبون والضّعيف ضدّ القوي المقتدر من النّاس، و يمضي الخيلاء دون أن يأبه بخاطر أو ينتظر مدحا من فرد أو أحدكان يفعل الخير ويحتسب. سبحانك ربّي، كم أودعت في عبدك الشيخ البشير من حسن صنعة وخلق محمود، ولد في جويلية 1936 بقبلي تلقى إجازة التدريس من المدرسة الزيتونيّة وتتلمذ على يد الشيخين محمّد بن سليمان وبن جمعة تغمّدهما الله برحمته الواسعة، أفنى زهور أيّامه في المعرفة والنصح، تخرّجت على يديه أجيال صاعدة غَدَوْا نجوما في علوم الدنيا، كان الصديق الحميم والأخ الخدوم والأب الرّحيم، كان المصلح والأستاذ والمثقّف، كان صدره يتّسع للجميع، كنّا بالأمس البعيد نغار من بعضنا بعضا ونحن تلاميذ حين يقع نظره على أحدنا دون الآخر، كان عادلا في توزيع أنصبة المحبّة على الكلّ، كنّا نغادر حصّته على أمل اللّقاء به من جديد كنّا في يوم العيد نتسابق على مصافحته حين ينزل من المنبر. سبحان الله أحبّ النّاس بصدق فأحبّوه بصدق. كان يؤنس وحشة الغريب في قريتنا فكانت نفزاوة تتباهى بمظهرها وهو يجوب في رحابها، كان ابنها الودود و شيخها المجيد الذي مازالت ترفل به الذّاكرة. إنّه المحبوب الفاعل الموسوم بالشّرف العالم الفذّ الذي إن حادثته تستهجن بداخلك شعور الجهل و تستقبح الإبانة عن رغبتك في طلب المزيد من غزارة علمه رأفة بما يبذل من جهد و توقّعك اقتباله في الغد. آه يا شيخي غيابك فاجعة و لكنّ القضاء محتوم كنت تملأ النفوس بالارتياح والبهجة، حين كنت تُستدعى إلى قران الزفاف كان الملأ يستبركون بدعائك، وا حسرتاه يا شيخ تركتنا و ما أحوجنا إليك. كنّا في رمضان نستبق إلى المسجد لحضور دروس الموعظة في محطّات خالدة من سيرة السلف كنت أوّل من أحدث نادي الفكر بالجهة فلا تسأم من إلقاء المحاضرات حول إشكاليّة التحديث و الأصالة في دار الثقافة طورا و في دار الشباب طورا آخر. كنت من النقابيين الأغرّاء في زمن خشن مازالت فيه الطرق لا تضمن لراكبها سفرا مريحا. تحيّرني يا رجل بتقشّفك و وطنيّتك و علمك الغزير الوافر. كان حلمك أكبر من عمرك، تخالط المثقّفين وتؤازرهم في نشاطهم، تراقب هيئة العروش وتنقد أداءها مدقّقا في خبايا الأرشيف كي تقول لا للتلاعب فتبثّ الإخلاص لدى شخوصها. كنت تهوّن على المحتاجين و حين أشرفت على صندوق الزكاة حرصت على أن تتولّى بنفسك مسار الإنفاق فتعيل طالب العلم و تضعه فوق كلّ اعتبار. كنت أمينا في عطفك، جسورا في الحقّ لا تخشى لومة لائم. سفوح العطاء تهتف من أفواه محبّيك الذين تقلّدوا مناصب مرموقة من قضاة وأطبّاء ومهندسين و أساتذة جامعيين في البلاد التونسيّة والدول الأروبيّة. كنت تؤثر على نفسك لأجل الصديق و الغريب معا في زمن ديانته الأنانيّة الصفيقة و المحسوبيّة الدنيئة، كنت تحتفل بيوم العلم بروح طموحة. حقّا لقد كان متينا في واقعيّته هذا الشيخ. لا يهمّه من صروف الدهر إلاّ ما ينفع النّاس لنيل الثواب من الرحمان. لم يكن ليصيبه السأم و الكلل. يحيّرني ذاك الرجل! لا تدري من أين يستجلب كلّ هذه الطّاقة و هو في العقد الأخير من حياته. كان الإسلام و العروبة يتواشجان في فؤاده على نحو فريد و مبهر. كان رمزا تتزوّد منه ذاكرة الأجيال في الجهة. احترت في أمرك يا شيخي، صادفت رجالاً كثيين ولكنّك كنت دوما الأقدر على أن تذهب على النّاس شقاوتهم دون حساب فتخلق مناخا سحريّا من الألفة يعبق منه تناظر عجيب بين قوّة الاعتقاد و طاقة عبقريّة تتجلّى منها صورة العالم الفيلسوف. إنّ حياتك يا شيخ تروي بلاغة مبدع في حوار مع عصر متغرّب في متاهة التصحّر. كنت تخبّئ بين جنابتك حلما و تبتكر بياضا في ظلمة الغسق. سنين خلت يا شيخ على رحيلك و شموعك لم تنطفئ ومازلْت تتفيّأ منّا الحبيب القريب، البعيد القابع في ربوض الفؤاد، وأنت الغائب الذي تحتضنه الذّاكرة التي تسيل في وادي الأمنيات. أقول لنفسي: الغيوم مبشّرة و نسيجها مدهش، لعلّها تتبدّى لتكرار شبيه ذاك الرّجل لتعيد مجدًا مفقودًا فلا تفتأ أن تنقشع. آه يا نفزاوة ما أحوجك إلى مثله، و لكنّ الله شاء. تلك ملامح بعض الحزن الرمزي في ذكرى رجل هو محطّ إلهام للسعادة الفاضلة لأنّه رعى الأمانة و جرّب كلّ مسالك الحق. في الصلاة تجده يبكي كنت أنصت إليه، وفي أنكى المصائب تجده شامخا في جلده و صبره. في الصباح تجده يبتسم فرحا بيوم جديد، وأهالي القرى يحضرون للسؤال عن حلّ لسرّ عميق. كان يحجم عن الفتوى ويكتفي بالنصح ليس لجهل أو قصور بصيرة وإنّما رهبة و جزعا. آه كم أودعت في صدرك يا شيخ من أمانة سرّ وكأنّك نبع يغتسل من مياهه المشتكين. في المساء يركن للذكر فيراه النّاس بشوق في بهجته و هو وحيد، وفي المغرب عقب الصلاة يتزاحم إليه زمرة من محبّيه لينهلوا من نبع علمه الفيّاض. كان ينتسب إلى الأجداد العماليق بشخصيّته الممتدّة فيجتاح أوطان القلوب السخيّة فطوبى لك يا من وجدت في زمن قلبه من حجر... إنّ تجربتك تترحّل في لفيف بهيّ، تنسكب منه أسطوانة تعزف أنشودة قلب ضاحك، لأنّك آمنت و آمنّا معك بأنّه محال أن يتجسّد الحبّ دون وفاء... لقد فتحت أفقا واسعا يعتبر بحقّ منهلا لأحلام الإنسان الذي انتصر في معركة الخير و البذل دون أن تحلم بأن تصبح ملكا أو تاجرا أو حتّى حكاية نهمس بها على مرّ اللّيالي الصيفيّة الساحرة، ولكنّ نفزاوة عليها دين لك، أفلا يخطر ببال السيّد رئيس البلديّة أن ينادى نهج أو شارع جديد في الولاية بإسم ا البشير يعقوب فنحن لا نعرف سواك كي تكون غريبا في ديارنا. يحيّرني ذاك الرّجل! لأنّه كان عظيما في الصحبة بليغا في المنازلة. تساكن معه المرض فجأة قالوا حينها مجرّد توعّك عابر و لم نعلم وقتها أنّ الموت يصنع صورته بعجل. أذكر حين قضى أنّني قبّلته وبادرته بالدّعاء وكان مرسوم على وجهه الصحّة والاعتدال، وابتسامته تلك، أجل تلك التي أعرفها لم تفارقه قط. لحظة وفاء من تلميذ إلى أستاذه.