حدثنا عبد السلام عياد والعهدة عليه عن لقاء بين مخلوقين غريبين نزلا مطرودين من بلاد قصية . فيهما من شبه الإنسان الشيء القليل ، فلاهما بشر ولا هما مزق وبقايا إلتأمت لتشكل جسدا هجينا . جاءا لاجئين هربا من سجن الصمت المؤبد وتحررا من خام المادة، توقا لمعانقة المعنى. في فضاء خارجي جليسين يقبعان على أريكة مستطيلة تدلت أرجلهما إلى الأسفل واشرأبّت أعناقهما إلى أعلى، على الجانب الأيسر مذياع وإناء موثوق في خيط هوى للأسفل يكشف بناء المنحوتة على تقاطع للأفقي والعمودي »سعيدين لحسن الحظ « جالسين متجاورين، جنبا إلى جنب ، على طرفي نقيض ، لكل منهما جنسه وملامحه المختلفة ، هزيلين حد العظام، نحيفين حد الإعوجاج يتحاوران بهدوء في حضرة مذياع تضخم شكله وتضاءل شأنه . أقاما هنا، لكن ظلاّ عالقين بين السماء والأرض، بين الواقع والخيال، بين العمق والامتداد. رغم تجذّر هذه الكائنات في أصول إنسانية فإنها تخرج من جلدها في نشوء كاريكاتوري يفاجئ. ترسبت على هيأتهما بعض من ذاكرة إنسانية تعمّقت من خلال ما حدث بينهما من حوار أنشأ المعنى . هذا اللوغوس الذي يخص الإنسان ويميزه مثل »كوجيتو« صريحا يختزل الذات البشرية في قدرتها على التحاور بعيدا عن أجهزة الإعلام التي تجهز على سلامة عمقنا تحوله إلى قشور منثورة . يلتقط عبد السلام عياد لحظة زمانية مكانية فيها تجاوز النحّات حدود التحكم في التأطير واختيار عناصر التكوين إلى استضافة نفس هزلي نقدي يخيم على المشهد النحتي . » سعيدين لحسن الحظ « اسم للمنحوتة أطلقه عليها الفنان التشكيلي عدنان الحاج ساسي وبطاقة هويّة تفاعليّة سمحت للنّحات بقبوله وتبنيّه، رغم أن الممارسة كانت فردية ينكبّ فيها النحّات على خياله مادة للنحت وورشة للفعل. دون رسوم تحضيرية يعوّل عبد السلام عيّاد كثيرا على لحظة للمكاشفة والجدل مع المادة النحاسية مباشرة . يجمع بقاياها، يلملم شتاتها ، يؤلف بين بينها ، تنبثق مخلوقاته، يوزّعها في الفضاء برؤية إخراجية تنهض بالهزل والهزال وتكشف عن جلسة تجمع الثبات بالحركة في نفس الشكل . لا منطق الحواس: شخصياته المثقلة بأعباء اليومي تتكلم في صمت ، تكتفي بإيماءات وتعبيرات وجهيّة مختزلة في حركات بسيطة متثاقلة . تسترق النظر والسمع في تواصل صامت يشبه مسرح الميم. تاريخها يخرج دفعة واحدة ، خلفياتها وبواطنها وانفعالاتها وأحلامها تتمظهر في شكل واحد ثابت . هكذا شاء النحات إلتقاط لحظة من حاضر الشخصيات قبل مرورها إلى حدث أخر . من عمق هذا العالم، من بؤسه وبأسه يحاصر النحات شخصين تبدو عليهما ملامح طرفة وطرافة. يختطف لنا ومضة يتداخل فيها المرئي والمسموع وتهيمن عليها مسحة من الهزل والدعابة تجعلان النحت نحتا للصوت وصقلا للمنطوق قبل نطقه حتى يخرج في سلاسة وبيان. هذه المنحوتة المسموعة يتصدع الصوت في أرجائها ويتنوع بين حديث المذياع وحديث الشخصين وحديث المادة النحاسية التي تتموّج فوق بشرتها فويرقات ضوئية متقاربة تجمع عناصر التكوين وتؤلف بينها. يعود بنا عبد السلام عيّاد إلى عالم »بيتربرييقيل« حيث يتقاطع الصوت والصورة ويتّحدا ليقدم لنا مادة بصرية مرئية تخاطب الأذن والعين رغبة في أن يسمعنا صوت العالم وصداه .» اسمع من فضلك « قياسا على نداء مارسال ديشون »المس من فضلك« تلك هي رغبة هذا النحات بحثا عن إمكانية نسج علاقة تواصلية جديدة مع المنحوتة تتجاوز حدود المشاهدة بالعين إلى تفاعل أعضاء الجسد الأخرى »حتى ترغب العين أن تلمس و اليد أن ترى« على حد عبارةرولان بارت التي تتأسس على إمكانية قلب التعاملات المعهودة وإرباكها بين جسد المتلقي وجسد العمل الفني ❊ بين الإشارة والإثارة . يستوقفنا عبد السلام عيّاد عند لحظات اعتدنا مرورها خفية لينبهنا إلى أهمية بعض الأفعال التي طمست بفعل البداهة والتكرار رغم قيمتها . دعوة ضمنية إلى أن نسكن في سواكننا لكي يعود الإنسان إلى نفسه ونفسه ، يتصالح مع ذاته ومحيطه ، يعيش فيهما دون اغتراب . يصبح التنفس والتأفف والشهيق والزفير أحداثا وجب التّوقف عندها والانتباه إليها ، حتى الأفعال اللاإرادية والعابرة لا تقل أهميتها فجذروها في الداخل وظهورها يكشف عن جدلية تربط طيات الوجه وتجاعيده بطيات باطنية.لكل حدث شكله الظاهر وعمقه الغائر ، فالوجه قناع كاشف والعمق كساء عاتم والنحت وعاء واع يبوح بصدق الفاعل ويرزح تحت ثقل الشكل البائن والهزل الساكن ويربط خيطا بائدا بين وقع الواقع والخيال الشاسع . هذه المنحوتة نعود معها إلى أن "الحيوية أهم من الحياة" استنادا للمقولة النيتشويّة التي توقظ فينا أهبة وانتباها شديدين من خلالهما نتحسس كل الأفعال ونعيشها . فلا نترك للوثوق والسكون والثبات والطمأنينة أي منافذ يتسلل معها الموت ، فنمشي على الجمر ولا نأبه ونقاد قطيعا ونعيش موتى فلا نسمع ولا نشتم ولا نبكي ونظل أشياء بلا معنى ولا وطن .هذا ما دفع بالفعل النحتي لاستنهاض القوى الإنسانية الكامنة والطاقات التعبيرية المختزلة . بعد أن شكل هيأتهما وحاك ملابسهما لم يبق أمام النحات سوى ترصيعهما بالحلي التي كانت هذه المرّة مفاجئة غريبة واقعة تحت فعل التحويل الذي انتقل بها من مكوّنات ميكانيكية آلية داخل المذياع إلى مصوغ هجين تتزيّن به الشخصيات احتكاما لمبدإ التّفاعل القائم بين عناصر المكان ، فهذه المتممات كانت تنتج طاقة أصبحت وسط هذا المناخ الحميمّي تثير تناقضا لونيا كميّا وتشتعل شرارات توقد حرارة تسري في عروق الفضاء وتلهم اللقاء توازنه. ❊ لحسن الحظ هذه الكائنات شبه الإنسانية تتجاور في تكاتف يهيئ لعرض واجهي يستحضر المتفرج دون إحضاره ،ينفرد بها النحات في خلوتها تبوح له بأسرارها وخصوصياتها ، يستنطقها ، يفك صمتها، يتعرف إلى انزوائها بعيدا رفقة بعض الأمتعة التي تنم عن فقر حال يجعل من الهزل يمر عبر الكدر ويرابط على حافة المأساة . فهذا المعيش بكل تفاصيله ودقائقه وجزئياته يبني لنا كونا وكينونة تجتمع فيهما القوى الخفية المخفية والظاهرة الجلية وتتجاذبه أطرافا متناقضة في لقائها مدعاة للهزل والإضحاك. هذا ما ذهب إليه »ماكس ارنست« في سلسلة منحوتاته التي أثثها بمفردات تدغدغ المشاهد وتستلطفه، تثير غرابته وتستدرج فضوله. في سبيل ذلك يعمد عبد السلام عيّاد إلى تشكيل الهزل عبر تحريف الوجه وتمطيط الرقبة وكشف ضعف وهزال الشخصيتين . من لعب الطفولة ولهوها ، من رسوماتها العفوية المتمردة ولد هذا الثنائي تكريما لطفل مازال يمرح في ذات الفاعل ويعبث بهدوء الواقع . »لحسن الحظ« وقع الخطو على الخطو لينهض النحت بالنحت ويحيّن الحاضر أسئلة طرحها الماضي . ينفتح طرح عبد السلام عيّاد على عالم ماكس ارنست الذي كان النحت فيه نحتا للهزل والسخرية والاستفزاز باعتبارها أساليب يمكن أن تؤمّن مسرحة للفعل النحتي خاصة مع الاختيارات التعبيرية الحرة التي اعتمدها النحات في إنشاء شخوصه بعيدا عن الإلتزام بالمقاسات والنسب المتعارفة وانقلابا على قيم التشابه مع المرجع الواقعي . بهذا تتهادى منحوتة سعداء لحسن الحظ على شواطئ سوريالية وتطلّ على مشارب تعبيرية وتسكن في برزخ بين خيال النحات و أتون الحياة اليومية. هذا ما حدث بيني وبينها ذات لقاء تفاعلي دفعني إلى الكتابة وهذا ما تيسر حمله على كلماتي أما ما ثقلت موازينه سيظل عالقا بالمنحوتة ينتظر .