في ذاك الصباح وأمّي تعود من الاحتطاب وبطنها متكوّرة وعلى ظهرها حزمة الحطب وهي بقامتها الفارعة المنحنية تتحرّك بتؤدة وتغالب بعض الانضغاط الخفيف في الجانب الايسر. كانت الشمس تزيد في حرارتها شامتة في من لا بيت ولا مكان ظليلاً له. وتهيأ الموت في رؤوس الافاعي والثعابين العطشى الباحثة عن الماء والتي قد تختبئ في احد الفُرش أو تحتمي في احد جحور البيوت منهدّة الحيطان. أحضرت امي الفطور وأعطت الدجاجات المنتوفة بعض الماء ثم دخلت الى بيت المواشي الذي تبدّل في هذا الشهر المايوي الحارّ الى بيت للمقيل بعد ان وضعت المرابط في باحة الدار ووقع تنظيفه فاصبح لاتساعه يحوي برودة مفقودة في ذلك الطقس الجاف تفقدت حقة النفّة التي لا تفارقها استنشقت منها ما يكفي لوقت طويل ثم تمددت على الحصير الوحيد البالي حذو الحائط وعندما جذبت المخدة عوت بشدة وانطوت على نفسها في وضع جنيني وأخذت تتلوّى والدّموع تنفجر من عينيها وتسيل بلا توقف والوجه في صفرة برتقالية يعلوها اخضرار أميل الى الزرقة صفيحة بحر لازورديّ على وجه أليم تلوّت وصاحت بكل ما لديها (اجروا لي يا ابناء الكلب). لم يكن في الدوّار غير تلك المرأة التي تكرهها، والتي تحوّلت بفعل انجاب الاناث فقط إلى حاقدة على الجميع وخاصة على أمّهات الاولاد. كانتا متخاصمتين في تلك الايام ومع ذلك فامي لا ترغب في حضورها لولادتها ابدا فربما كان المولود طفلا اخر فتقتله في غفلة من أوجاعها ولكن مهما يكن فنجاة بنصف الموت افضل من الموت كلّّه وحياة الام افضل لباقي الاولاد كانت في النزع الاخير عندما عاودت عواء آخر عاليا دخلت معه »حدّة« وبرفقتها ريم ولم يمض على زواجهما وقت طويل فهنّ مازلن في الولادة الخامسة و»دَادَا« هي التي ساعدتهن على الولادة، انها القابلة الوحيدة في الدوّار ومع ذلك هما الآن امام موقف مريع ولا يعرفان ما يفعلانه قالت »حدّة« التي من خلال ولاداتها المتكرّرة حفظت بعض علْمٍ اجلبي الفأس يا ريم اجلبي الفأس واحفري حفرة هنا أسرعت ريم للعمل وانجزت مهمتها بسرعة ثم انقضّتا معا على المرأة وحملتاها فوق الحفرة مباشرة. وقفت ريم تعصرها من الخلف وتنفضها او ترجّها بين الحين والحين وتقرفصت »حدّة« قبالتها تنتظر وفي احدى اللحظات العشوائية انتفض جسم لحميّ مكوّر انتهى فجأة على حجر »حدّة« مستقرا في بكاء احتجاجي مفزع صاحت ريم التي انتبهت الى ما بين فخذيه يا فرحتاه عمّي راجل وهي تقصد لقد رزق عمّي رجلا ونسيت ان تنتبه الى جذع أمّي بين يديها الذي ما ان تنحت عنه حتى ارتطم بالارض وبينما كانتا مهتمتين بالطفل بعد ان فصلنه عن أمّه بالسكين الوحيد، كانت القطط تموء متعلّقة حول الدم بل تجرأ بعضها على لعق فخذي أمي قليلا حين دخلت جدّتي القادمة من »سيدي صحبي« لزيارة مفاجئة وما ان رأت المشهد حتى صاحت »كس.. كس.. كنس«. تفرقت القطط وتولّت جدّتي المجرّبة توظيب بقية الامور مع عدم نسيان بعض الانتقادات حول نوع الحفرة وقطع السرّة واهمال أمّي. حملته جدّتي وأعطته ثديها فأبى الرضاعة فلم تخف غضبها منه اذ هو الطفل الوحيد الذي عارضها قبل نعومة اظفاره. سلمته لامي المنهكة ولكنه رأف بها أيضا واعفاها من ذلك الفرض الرهيب. حارت النسوة من اين يجلبن له الحليب لاطعامه.. برقت عينا »حدّة« الماكرة وقالت انا أجلب لكم ما ترغبون فيه، وخرجت مسرعة حيث كانت الآتان التي لم يمر على ولادتها عدّة أسابيع. حلبتها في القدر الطيني وعادت مسرعة وبدأن يُغرْغرْن الطفل وهو يصيح تارة ويتلمظ أخرى. ذاك الطفل الذي كاد ان يموت في أول يوم، ذاك الطفل.. ذاك الطفل كان أنا.