اجتمعت العائلة بعد الإفطار وصلاة العشاء ، وكلّهنّ مزيّنات معطّرات، عليهنّ الحلل والحليّ. وكانت قد تجمّعت لديّ معلومات أن موكبا نسائيّا سيذهب إلى بيت «منجيّة» الفتاة التي هام بحبّها عمّي شريف وخطبها له أهله منذ العام الماضي ، رغم أنه لم يجتمع بها ، ولم يكن يراها إلاّ اختلاسا ، في مناسبات النّفاس والأعراس. كان حينئذ يغتنم الفرصة فيدسّ في يدي نقودا لتشتري بها اللّبان والحلوى ، أبلغها إيّاها مع سلامه وأشواقه، فيسمح لي صغر سنّي بالتسلّل بين النّساء حتى أصل مكان المحبوبة، فأجلس بجانبها وأسلّمها الأمانة خفية ، ثمّ أعود لأخبر عمّي أنها ابتسمت، فيسألني: فقط؟ كنّا في رمضان من أربعينيات القرن الماضي، وقد اعتاد أهل بلدنا الاحتفاء بالأيّام العشر الأخيرة منه، فيكثرون من التصدّق، والتّزاور ، وأختام القرآن والحديث. ومن هذه العادات ختان الأيتام وأبناء الفقراء بإكراميّات من أهل البرّ والإحسان. ومنها أيضا أن يتذكّر كلّ خاطب عروسه المنتظرة بهديّة ذهبيّة معتبرة ممّا يتناسب مع ميزانيته ومستواه الاجتماعي ، تأخذها أمّه ونساء العائلة إلى بيت الأصهار الجدد مرفوقة بكماليات أخرى، كالعطور وموادّ الزّينة، وما يلزم من حلويّات لتأثيث السّهرة. أمسكت بتلابيب أمّي، وأصررت – دون سائر إخوتي- على مرافقتها إلى «موسم» عمّي، وكنت كلّما انفردت عن باقي النسوة أزيد في الإلحاح ، مكرّرا مبرّرات رغبتي ، بعد أن سردتها عليها من قبل بالتّفصيل المملّ: ٭ نحن ذاهبون إلى دار امرأة عمّي ، لا إلى دار غرباء. ٭ لم تصر امرأة عمّك بعد. ٭ ولو... ستصير قريبا.وقد أوصاني عمّي شريف أن أكون نائبه. ٭ ما معنى نائبه...ما دخلك في الموضوع؟ ٭ أوصاني أن أسلّم عليها. أنا ومنجيّة أصحاب ، وأريد رؤيتها لمّا تتزيّن، أرجوك يا أمّي . إنها تحبّني وستسألك عنّي إذا غبت . ثمّ أنتنّ ذاهبات ولا رجل يصحبكنّ...هل هذا معقول؟ ٭ فهذا المتر النّاقص سيكون مرافقنا الحارس؟ ٭ متر كامل ...حارس ونص على أمّه. ٭ اسكت...اسكت واذهب لتغيير قميصك. كان فناء دار «منجيّه» يعجّ بالمدعوات ' ملأن فضاءه بالضحك والمفاكهة، حتى إذا وصل موكبنا استقبلنه بالزّغاريد وطقطقة القبل . حاولت الالتصاق بسفساري أمّي ما استطعت ، محتميا من مداهمات الصّدور المنتفخة والشفاه الغليظة الشديدة الاحمرار تريد تقبيلي عنوة وترك بصماتها على خدّي. لم افارق جنب أمّي، لكنّ بصري حلّق فوق الموائد المرصوفة بأطباق الحلويّات، بعضها كان جاهزا قبل وصولنا، وفيه كعك ومقروض، وبعضه الآخر زلابية ومخارق جلبناها معنا، فوضعت إلى جنب ما سبقها تلتمع تحت النّور. تلهّيت زمنا قصيرا باللّعب مع الأطفال إلى حين سماعي زغرودة تعلن عن خروج «منجيّة» من غرفتها في كامل الزّينة، فتركت الأطفال والتحقت بخطيبة عمّي لأبلغها شوقه وسلامه، وإذا بها تنصرف عن المدعوّات للاهتمام بي، ومضاحكتي كأنّها تستشفّ من حديثي أحوال الحبيب وأخباره، فيما كانت أمّي تراقبني من بعيد بعين منبّهة إلى التزام الأدب والاقتصاد في الكلام. قدّمت لي «منجيّة» أثناء الحديث كعكا أكلته دون أن أشعر، لكنّ صاعقة زلزلت كياني عندما قضمت زلابية مشحونة عسلا ناولتني إياها، فحرّكت بركان ألم كان نائما تحت ضرس مسوّس. أخرجت ما كان في فمي، وصرخت ويدي على خدّي. استمرّ صراخي وقد وقفت مبادلا رجلا برجل، فاضطرب النساء يستطلعن الأمر ، ويسألن عمّا يجب عمله . أرسلت والدتي في الحين من يطلب والدي ، فجاء مسرعا خائفا، ولما عرف أنّ ضرس ابنه المسوّس هو صاحب البلبلة، اطمأنّ قليلا، وهرع بالطّفل بين ذراعيه إلى مشفى الحاج أسطى متطبّب المنطقة كلّها ومقدّم جميع الإسعافات الأوّلية ، كما إنّه يختن ويقلع الأضراس الخربة . كان الحاج موشكا على غلق مستوصفه ، إذ حان وقت السّحور، لكنّ صراخي أقنعه بضرورة التدخّل العاجل، فأقعدني كرسيّه المرتفع ، وأومأ إلى أبي ليمسكني بكلتا ذراعيه ، ففعل، وإذا بكلاّب الحاج يخرج من مكان سحريّ، ويندسّ في فمي المفتوح الصّارخ بكلّ قواه، فأصيح الصيحة الأخيرة التي ظننتها قسمت «نهج الزّنايديّة» إلى قسمين، ثم أنكفئ على كفّي المملوء دما. لا أدري كيف أعادني الوالد إلى البيت، ولا كيف نمت، ولكنني أول ما فتحت عينيّ في صباح اليوم الموالي رأيت وجه والدة «منجيّة» لصق وجه والدتي، وهما منكبّتان فوقي، تتأمّلان بحنان فيّاض سحنتي المصفرّة من عذاب الأمس. لما غاب رأس أمّي همست الضيفة بقرب أذني: «لو ترى كم تألّمت «منجيّة» بالأمس ، وها هي بعثتني لأطمئنّ عليك ، ومعي قبلة».