أحقا كنت هناك ...احقا كنت في شارعنا الرئيسي في ذاك الصباح المشرق... ذاك الصباح الذي هدرت خلاله الحناجر المتكلّسة من فرط الصمت... تهتف بالحرية وتطلب سقوط الطاغية إذ انتهت اللعبة وانقضى الليل ... لا احد منا كان يصدق انه قد حلّق باجنحة اعياها الركون القسريّ حتى باتت كسيحة، ولكن النار التي التهمت جسد محمد البوعزيزي والرصاص الذي اخترق الجباه العاتية في تالة والقصرين والرقاب لعلع في كل صدر والدماء التي سالت من شرايين شهداء انتفاضة الكرامة دوّت في كل العروق فجاء المئات وجاءت الالوف ثم عشرات الالوف واحتلت الشارع مصممة: فإما حياة وإما فلا، جاؤوا... وجئن منددات بقتلة الابناء وناهبي ثروة الشعب المفقر.. كنت لا اكاد اصدق اننا امام الوزارة التي طالما اصابنا المرور امامها بالغثيان إذ كانت جدرانها تنضح بالدماء وصواريها تسكب في آذاننا أنين المعذبين في اقبيتها ودهاليزها.. ولكننا كنا في ذاك الصباح صباح الجمعة الرابع عشر من جانفي من سنة 2011 امامها منقادين ومنقادات بهتاف داخلي لا فضل لنا فيه الا التسبيح بأرواح من قضوا، قضوا ونحن نغرق في الصمت نرمقهم من خلف حجب جبننا وعارنا وعجزنا وخذلاننا... كم كنت جبانة وكم كان قلمي عارا ثقيلا ارزح تحت وزر مسؤوليته ... لم اكتب حرفا واحدا يكفف دمع الامهات ولم ارسم صورة واحدة ترفع من معنويات المصابين ولن المم جراح احد... لم اجرؤ على ما يليق ببطولاتهم فلماذا هتفت ذاك الصباح، لماذا كنت مع الجموع نسير على جثثهم العطرة التي مزقها الرصاص وكانوا ساعة الشهادة وحدهم... هل كنت اتطهر من خطيئة كبرى سطرها صمتنا المتواطئ نحن اهل الاعلام؟ لن أدين الماضي ولكني سأتفاءل بالمستقبل الذي منحه لنا الشهداء على طبق، منحوه لنا لنفاخر بدمائهم اليوم ونقول اننا صنعنا ثورة ستزلزل عرش الديكتاتوريات القريبة والبعيدة... لا عزاء لي أكثر مما حدث خلال السنتين الاخيرتين في مسار النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين تلك التي أردناها صوتا عاليا يعرّي الاعلام المنحاز الى الظلم وتمجيد آلهة الحلوى، أردناها مع اعضاء مكتبها المنتخب صوتا مرتفعا ينادي بضرورة تحرير الاعلام واخراس جوقة الناعقين في بوق النهايات، ولكنهم كانوا هناك مدججين ببنادق المكر والفجيعة... كانوا زملاء لنا استلوا خناجر الغدر وطعنوا المهنة وطعنوا من قبلها اقلامهم وهم يمضون عرائض الانقلابات ويستقيلون ويقبضون ثمن خيانتهم للاحلام، كنا نسعى إلى بناء هيكل قوي يجمعنا ويشد ازرنا لنعبر عن جراح هذا الوطن الكسيح ولكنهم كانوا هناك متربصين بالاحلام وبالحرية فمنعونا بانقلابهم الشهير في 15 اوت 2009 من ان نفخر باقلامنا اليوم ونقول مات الشهداء من اجل الوطن ماتوا وكنا نحاول بأقلامنا الذود عنهم، ولكنهم كانوا هناك يزرعون الفخاخ في منعطفات التحرير، تحرير الاعلام فلماذا يظهرون اليوم مباركين ثورة شعب لم يكونوا ولم نكن أيضا الى جانبه يوما لنعبّر عن همومه ونندّد بتجويعه والاستيلاء على ارزاقه. بأي قلب أفرح اليوم وبأي أصابع امسك قلمي وكيف أسدّ أذنيّ عن سماع نعيقهم اليوم وهم يحتلّون الصفوف الامامية الفرحة لارادة الشعب؟ لا استثني أحد كلنا شركاء في دمهم حد الادانة وكلنا مسؤول عن اغتيال افراحهم بحياة كريمة، فأين كنا عندما كان الشعب وحده يجوع ثم يصنع الملحمة؟ هذه الملحمة التي يريدون الالتفاف عليها اليوم باسم الامن وتوفير القوت؟ هل سننتظر ان يعيد التاريخ انتاج نفسه لنسكر بنشيد الثورة بضع سويعات ثم نعود الى أوكارنا فرحين لنغني مات الملك عاش الملك؟هل احرق الشباب نفسه وقضى قنصا وغما لنزهو اليوم بموته؟ هل اغتصبت النساء وخربت الارزاق وروّع الاطفال ليطلع علينا الابطال في الشاشات مهللّين لتحرر الأعلام والاقلام ؟ فكيف سنبارك اليوم ثورة شعب قدم الشهداء دون ضمانات احترام لتضحياتهم الجليلة من اجلنا نحن معشر المتخاذلين؟ أبهذه الطريقة نبني جمهوريتنا الثانية ونصنع النموذج... هل من خلال تكريس القدامة وتأبيد الوجوه المُستنفذة التي سرقت طويلا أحلام الشباب المّعطل وحرمت الجهات البعيدة وزكت سرقات العائلات المتنفذة؟ الامن نعم والخبرات الادارية نعم ومرورنا إلى بر الامان نعم وتوفير حاجيات هذا الشعب الذي اجترح لنا أولى ثورات الالفية الثالثة وعبّر عن نضج نادر في التعاطي مع الانتقال الى حقبة جديدةنعم، نعم لكل هذا ولكن كيف نؤسّس لمرحلة جديدة دون روح جديدة وكيف ننسجم مع ثورة شعب دون الانصات إليه صارخا »من أدرانا انكم لن تعيدوا الانقلاب على دمائنا وانتم نخب مشوّه ماضيها القريب و مشوّه ماضيها البعيد« اقول هذا ولا استثني أحدا كلنا موسومون بدمائهم وكلنا شريك في جوعهم أين كان الاعلام الغربي المتعاطف اليوم وابناء وبنات تونس يواجهون آلة القمع بصدور عارية، أين كانت جرائدنا واذاعاتنا وتلفزاتنا الوطنية وغير الوطنية، أين كنا عندما صنعوا الملحمة وأوقدوا الثورة حتى نباهي الأمم اليوم مقايضين بدمهم... أين كانت نسمة برلسكوني وكاكتيس الفهري وحنبعل »شكرا لصاحب القناة« وموزاييك بوطار واكسبريس قديش وشمسكم الصفراء وشروقهم المظلم وصباحهم الأخضر... أين كانوا قبل ان يحرق البوعزيزي جسده وبعد ان صال الرصاص وجال في أجساد الشباب... فكيف نترك القدامة اليوم تلتف على زهور الحرية التي يريدون قطافها؟ وكيف سنسمح لهم أن يصادروا من جديد اعلامنا الحرّ الذي سيحمي ثورة الشباب ويكون حصنا للحرية.