نزلوا أفواجًا، أفواجًا، إلى تونس العاصمة، وتحديدا إلى ساحة الحكومة، نساءً ورجالاً، كهولاً وشيوخًا، أطفالاً وشبابًا، جاؤوا من عديد الجهات وخاصة منها المنكوبة منها رافعين صوتهم إلى السماء عاليا: »لا للطغيان، لا لسرقة ثورة الشهداء والفقراء«. الفكرة تبلورت في منزل بوزيان، وصُدّرت إلى مدن بن عون والمكناسي وسيدي بوزيد والرڤاب ثمّ حلّقت إلى الڤصرين وفريانة وصفاقس والكاف وغيرها من المدن التي استعدّ شبابها وكهولها ونساؤها إلى السفر عبر قوافل نحو العاصمة واحتضان ساحة الحكومة لتتفتّح زهرة جديدة من زهور الاحتجاج. احتجاجات، تضامن وتآزر أوّل قافلة وصلت من المكناسي صباح يوم الأحد 23 جانفي 2011 واتخذت ساحة الحكومة وجهة مباشرة لها لتنطلق الاحتجاجات المطالبة باستقالة الحكومة. وسرعان ما وصلت القوافل الأخرى إلى العاصمة في مشهد يذكرنا بقوافل القبائل المتجهة إلى االعاصمة الجزائرية منذ سنوات قليلة للاحتجاج على هضم حقوقها، واكتظّت ساحة الحكومة بالمحتجات والمحتجين وتواصلت ثورتهم إلى يومنا الحالي. ولم تكن الصرخات العالية والهتافات معزولة عن تعاون وتضامن بين المحتجين فشكلوا أروع وأرقى أشكال التآزر، حيث غُطّت ساحة الحكومة بالأفرشة والأغطية، وتمّ تنظيم ذلك بتناسق كبير لتكون الأولوية في الراحة والنوم للنساء والكهول والمرضى الذين حاولوا مقاومة برد اللّيل القارس بدفء مبادئهم ونار نضالهم الوقّادة. كما شكّل المحتجّون فرقا للحصول على المؤن والماء وما تيسّر من التغذية وأساسا من الخبز وتمّ تنظيمها عبر لجنة تنسيق الاعتصام، إذ يؤكد السيد مقداد الماجري عضو اللجنة أنّ هذه الأخيرة تسهّل توفير احتياجات المعتصمين بشكل عفوي وتقوم بتنظيمها وتوزيعها السليم، اضافة إلى دور اللجنة في استقبال القوافل الآتية من جهات عديدة. لكن لم يسلم هذا العمل النبيل لأعضاء اللجنة من استفزازات ومراقبة ميليشيات من الحزب الحاكم والتنصّت عليهم. إرادة قوية وتمسّك بالمطالب محمد النوي ويبلغ من العمر 23 سنة يحمل شهادة في الميكانيك ومعطّل عن العمل من مدينة المتلوي، برز التّعب على ملامح وجهه التعب الممزوجة بوهن السفر لمسافة طويلة لكنّه يجيب بابتسامة الأمل »جئنا لنفتكّ الحرية، جئنا لنسقط الحكومة«، كلماته بعثت النشاط في محيّا أصدقائه الذين افترشوا الأرض وغطّوا أجسادهم النحيلة ببقايا »زاورة« جاؤوا بها من الحوض المنجمي، الحاملة لرائحة انتفاضة 2008 الباقية إلى الآن في الأذهان. لقد انقسمت ساحة الحكومة إلى زوايا مثّلت كل قافلة وكلّ جهة، تُميّزها لافتات تعرّف بأبناء المناطق الآتين إلى العاصمة، فهناك مكان لمتساكني بنڤردان ومكان معروف للمتلوي وآخر للمكناسي والرڤاب وصفاقس وغيرها، لكن الجميل في هذا التقسيم هو أنّك لا تشمّ رائحة الجهوية قط بل تشاهد بعيون حالمة أحلى وأرقى أشكال التعامل، فالكل واحد والهدف واحد وهو الحرية للشعب التونسي. سامي عمروسية من ڤفصة، معطّل عن العمل ومطرود من الدراسة لأسباب نقابية أكّد هذا المعطى، فشباب ڤفصة جاؤوا مساندة للجهات التي قدّمت الشهداء وكذلك مطالبين بحكومة أخرى تعكس طموحات كلّ الشعب التونسي بمختلف فئاته وشرائحه التائقة إلى التحرّر. توزيع أدوار ورغم أنّ العشرات أخذت قسطا للراحة، بعد أيّام من السفر والهتافات، فإنّ الأغلبية لم تهدأ بل واصلت تحرّكاتها في الساحة أو اعتلاء أسوارها ووضع صور الشهداء، فكانت الأدوار موزّعة بتنسيق كبير على أساس فرق النهار تحتج وفرق اللّيل تحتجّ وهكذا تبقى الشّعلة متقدة حتى لا تستنزف القوى، فبسّام بن الجوداي وهو أصيل بن عون وله شهادة في الاعلامية يقسم بأنّ هؤلاء المحتجين لديهم القدرة على البقاء سنة كاملة حتى تتحقّق أهدافهم في الكرامة والحرية. الكهول على خطى الشباب من قال إنّ الحركة الاحتجاجية يجب أن تكون قيادتها من الشباب باعتباره متمرّدا وناشطًا؟ هذه المقولة ليست بالضرورة صحيحة، ذلك أنّ العشرات من الكهول الذين يصل معدّل أعمارهم الخمسين سنة تراهم مفعمين بالنشاط والحيوية والحركية، فالعيفة الميساوي من الرڤاب يبلغ من العمر 63 سنة ومحمد الجمعي العكرمي من سوق الجديد بسيدي بوزيد يبلغ 54 سنة وكذلك الأم استبرق أم مجد من صفاقس، ومثلهم كثيرون لم يتأثّروا لا بالسن ولا بتعب السفر أو الاحتجاج، بل هم متمسّكون بشيء واحد وهو »الوفاء للأبناء الشهداء، والتمتّع بخيرات وثروات بلادنا دون وصاية من أحد«. اضراب عن الطعام قد لا ينفع الاعتصام ورفع الشعارات حتى تسقط الحكومة، ويجب اختيار شكل نضالي أقوى وأرقى للوصول إلى هذا الهدف. هذا ما ذهب إليه السيدان محمد العيوني والزاير الجلالي من الرڤاب اللذين أخذا من خيمة صغيرة وسط الساحة مقرّا لهما واختارا الدخول في اضراب عن الطعام احتجاجا على الطغيان، فبالنسبة إليهما عندما يشاهدان رموز النظام القديمة موجودة في هذه الحكومة فإنّهما يتذكّران الدموع الحارّة لأمّهات وآباء واخوة الشهداء... عائلات للشهداء من العاصمة، وتحديدا من منطقة حي التضامن الشعبية، هبّ العشرات من المتساكنين لمساندة اعتصام ساحة الحكومة، وكان من بينهم عائلات الشهداء جاؤوا للمطالبة بحق أبنائهم الذين قُتلوا في سبيل الحريّة وتونس الجميلة، فأنيس الميموني، 30 سنة وعاطل عن العمل،أخ للشهيد هشام الذي تمّ قنصه عند رجوعه من العمل من يد غادرة بالرصاص الحي، وفتحي الوسلاتي 40 سنة من منطقة الجيارة الذي اغرورقت عيناه بحمم من الدموع خسر ابنه أمين البالغ من العمر 16 سنة، هؤلاء ومثلهم العشرات يطالبون بحق شهدائهم، بل شهداء كلّ الشعب التونسي من الذين غدرتهم يد الطغاة الملطّخة بدماء الأبرياء. جرحى في الساحة ساحة الحكومة، احتوت كذلك من مرّ بتجربة الرصاص الحي لكن الحظ أسعفه من الموت، لكن رغم ذلك، فآثار الرصاص دفعتهم وقوّت ارادتهم من أجل مواصلة الاحتجاج، فعبد الباقي مراغدية 18 سنة من حي البساتين ووسام الطبوبي من حي التضامن تمّ قنصهما في أماكن عدّة من جسديهما، ورغم ألمهما وعجزهما يؤكدان أنّه بقدر تمسّكهما بالتعويض المادي والمعنوي بقدر تمسكهما بمواصلة الاعتصام على منهاج أصدقائهما وأبناء البلد من الشهداء الأبرياء.