«يمكن ان تحبسوا الجسد، ولكن لا يمكن ان تحبسوا الروح، فالروح كالجبل تقفز من فوفه الجروح» 26 جانفي 1978، يوم سيظل يحفر عميقا بين الذاكرة الجماعية والمخيال الاجتماعي الى ان تتجلى الغيوم عما خلفه من شهداء وما كساه من دماء وما عمقه من جروح... يوم لم يفرّق بين ابناء الشعب، عمالا، طلبة، وماسحي أحذية... يوم من مصلحة الجميع الحديث في كل ملابساته، خلفياته، نتائجه... وما يستدعيه الألم من شجن للواقفين وحدهم في العراء. شهادات رسمية واخرى شعبية، عذابات ينقلها الى اليوم من نجا من الموت وأخرى دفنت مع الشهداء، موسيقى الجماهير الكادحة تغنى لجانفي ولسعيد ماسح الاحذية، افلام تؤرخ لذلك اليوم الدامي والملف مازال ينتظر لحظة المكاشفة الحقيقية، بل لتضميد الجراح والاستفادة من الوجع وإدراج الاحداث في سياقاتها التاريخية والرجال الى منازلهم الفعلية والذاكرة الى الحقيقية الجوهرية. العمال والنقابيون والنخب يتساءلون: لماذا ظلت المنظمة العتيدة التي دفعت الفاتورة غاليا تبتعد عن استعادة الحدث؟! قد يكون التاريخ غير قادر على اعادة انتاج نفسه الا في شكل مهزلة، ولكن ملفات الراهن من خصخصة، وتسريح وحريات نقابية وتأمين على المرض وصناديق اجتماعية، تفرض ذاتها قبل ذلك الحدث الدموي الذي تزحزح الى الخلف دون ان تأتي عليه عواصف النسيان. وحتى لا ننسى شهداء 26 جانفي 1978، واصل الاتحاد الجهوي للشغل ببن عروس للمرة الرابعة حفرياته في الذاكرة الجماعية وفي المخيال الاجتماعي من خلال كل دروب الفكر وضروب الابداع القابلة أبدا للاستنطاق والمساءلة قبل دروب المكر والمخاتلة التي ترفض عادة الوقوف امام مرآتها البلورية الآخذة في التآكل. مائدة مستديرة، أو مائدة مدوّرة، أو مربعة تلك التي تمسك بها هذا الهيكل الجهوي استهلها الاخ بوعلي المباركي بالتأكيد على انجراف الاتحاد الجهوي بشكل طبيعي نحو تربته الاولى ونحو وجعه الذي لا ينسى، الى ذلك الحدث الأليم الذي يستوجب التقليب والتمحيص حتى يتجاوز مجرد الاخبار على حدّ الخلفية الخلدونية لعلم العمران البشري. الاخ محمد المسلمي الذي جاء لتوه على رأس هذا الهيكل الجهوي، قال ان غايتنا الاولى ستظل مقرونة بإرادتنا الهادفة الى رفع صوت الاتحاد العام التونسي للشغل عاليا ازاء ما لحقه من مآس وألم وعنف دموي، إرادة بدأت تجد صداها في اكثر من أربعة هياكل جهوية انطلقت في احياء ذكرى ممزوجة بالدم والألم. الاخ رضا بن حليمة بفلمه الوثائقي، ألجم الافواه وحوّل أجزاء من فصاحتها الى تمفصلات أخرى من الحدث، أليس الابداع دائما مربكا للطمانينة وأليست السوسيولوجيا خطرا على المحافظين أبدا؟! في مداخلته، اكد الاخ الحبيب الحمدوني على مسلمة اساسية وهي ان تاريخ الحركة النقابية بصورة عامة وتاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل هو تاريخ محن ترجمه الصراع المستمر من اجل الاستقلالية . ثم حاول المحاضر تفكيك الاشكالية الاساسية التي تعنى بآثار 26 جانفي ونتائجه الى محورين: الدوافع / تجليات الزخم. وفي هذه السياقات بين الاخ الحمدوني ان الحركة النقابية قد نشأت من زخم الاضطهاد الطبقي ومن ذلك التداخل بين السياسي والنقابي، حيث غدا الاتحاد العام التونسي للشغل في بنائه وهيكلته وبرامجه مرتبطا بعموم الشعب وبالعمال فكرا وساعدا وبالتالي فان التداخل بين النضال الاجتماعي والسياسي قد كان ولا يزال أمرا لا لبس فيه. وتعرّض المحاضر الى ما افرزته سياسات التخلي عن تجربة التعاضد مقابل الدخول في الانفتاح الاقتصادي الذي أبقى على القطاع العام وبعث المؤسسات العمومية وفتح الابواب امام رأس المال والمبادرة الخاصة، من توسيع لقاعدة العمال التي قفزت من 70 الف الى اكثر من 400 الف، وما رافق هذا التوسع من تلاحق بين الفكر السياسي والنضال النقابي، بما دعم وجذّر مقولة الوعي الطبقي التي افرزت فيما بعدما ما اسماها المحاضر بالثورة الاجتماعية التي عانت من قبلها الطبقة الشغيلة اشكالا من الاستغلال الفاحش لرأس المال وخاصة الاجنبي منه (1972) وبالتالي، فان الحراك الاجتماعي الذي عرفته فترة السبعينات، كان حراكا واعيا بذاته ومتصلا بواقعه في اهدافه حيث ترجمت كل ذلك المطالب المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية. كما تناول الاخ الحبيب الحمدوني قضية اختلاط قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل مع الحزب ومع دولة الاستقلال والذي فرض مع تطور الوعي للحركة النقابية ضرورة ربح المسافة الرامية الى المحافظة على الاستقلالية (استقالة الزعيم الحبيب عاشور من الديوان السياسي). من جهته، بين الاخ مختار العرباوي في مقدمة مداخلته ان 26 جانفي 1978 ليست ذكرى نقابية فقط، بل هي ذكرى شعبية، لان هذا الحدث قد انخرطت فيه كل القوى الشعبية، معتبرا في السياق ذاته ان حالة الطوارى التي شهدتها بلادنا خلال تلك الفترة كانت اخطر من الانقسام الذي جاء سنتي 1955 و 1956، مبرزا ان احداث جانفي قد اكدت الخلل العام والتأزم العميق في الحياة الاجتماعية والسياسية في تونس وهو ما أكدته الاحداث والسياقات الثانية. التطور الكبير في النضال النقابي وما رافقه من تحولات. انكفاء المدّ والزخم الذي ترجمته احداث 26 جانفي 1978 واسبابه الداخلية والخارجية. غياب الاتحاد او ضربه في ظل انتقاء احزاب سياسية قوية، فسح المجال لسياسة اقتصادية هددت مصالح كل شرائح الشعب التونسي. وتساءل المحاضر عن امكانية القيام بتقويم شامل للأحداث بهدف استخلاص ما يمكن ان يميز مسار الانسانية. وبلغة الارقام قدّم الاخ مختار العرباوي كشفا عن تطور عدد منخرطي الاتحاد العام التونسي للشغل قبل 26 جانفي 78 وعدد الاضرابات التي رافقتها: 1970 25 اضراب / 1971 22 اضراب/1972 150 اضراب/1973 215 اضراب/1974 114 اضراب/1975 375 اضراب/1976 372 اضراب. وبالتالي فان انتقال عدد المنخرطين خلال هذه الفترة من 50 الف الى 400 الف وما رافقها من تحولات على مستوى البنية الذهنية النقابية قد ترجمته الحركة النقابية عبر اضراباتها برفضها القوي للحيف الاجتماعي سواء كان متأتيا من الاعراف او من الافراد او من الدولة. وهذه الحالة ولدت سياسة مضادة انبنت على بعث الشُعب المهنية ومن الاكثار من مفاهيم السلم الاجتماعية والوحدة القومية في الخطاب السياسي الرسمي. وفي هذا السياق خلص الاخ مختار العرباوي الى ان ما ولدته الفترة الفاعلة ما بين 1970 و 1974 سيكون مقدمة لما أتى سنتي 75 و 1976 حيث احتدّ الصراع واكتسى صبغة سياسية في اغلب جوانبه وترجم ما بلغته الحركة النقابية من روح في التعاون ومن وعي طبقي متطور... وقد شكلت هاتان المداخلتان مع الفيلم الذي انتجه الاخ رضا بن حليمة مادة هامة في نقاشات الحاضرين والذي لم يتخلف عنهم الاخ بلقاسم العياري الكاتب العام السابق للاتحاد الجهوي للشغل ببن عروس والامين العام المساعد المسؤول عن القطاع الخاص حاليا.