أعلنت عديد البلدان الأوروبية وعلى رأسها سويسرا تجميد أرصدة الرؤساء المخلوعين وأقاربهم وأصدقائهم والمتورطين معهم، في رسالة واضحة مفادها ان الدول الغربية انحازت الى مطالب الشعوب وتعمل على حرمان الدكتاتويات في الاستفادة بما سرقوه من أموال طيلة سنوات حكمهم الطويلة. هذا الاجراء رغم وضوح مضامين الرسالة التي يجهلها البعض فيها ما فيها من اللبس والالتفاف، فظاهرها معاقبة للدكتاتورية وباطنها سرقة للشعوب. إن عملية التجميد التي انتهجتها بنوك الغرب عملية افتراضية يمنع بها صاحب الحساب من النفاذ وسحب المال منه أو الايداع فيه وهو ما يحرم المجرمين من وضع أيديهم على ما سرقوه من مال غير أن الواقع أبعد من ذلك فالأموال المُودعةُ في هذه البنوك تبقى في خدمتها وتحسب في ميزانيتها اي ان البنوك تستفيد من الأموال الموضوعة لديها وتستغلها في العمليات التجارية والبنكية التي تقوم بها وبذلك تستفيد البنوك من أموال اللصوص ولا ينال الشعب منها شيئا. فهل قدر الشعوب ان تسرق حكامها لتنعم بنوك الغرب بأموالهم؟ ان الحديث هنا عن مليارات الدولارات فإذا ما جمعنا ما سرقه بن علي ومبارك والقذافي ومن لف لفهم من العائلة والحاشية فإن المجموع يفوق مائة مليار دولار (حسب التقديرات الأولية) اي ضعف الدخل القومي الخام التونسي وبعملية حسابية بسيطة فإن هذه المليارات ستدر خلال اشهر التجميد مليارات اخرى اعتقد ان شعبنا أولى بها، لذلك فإن على البنوك الغربية اذا كانت صادقة في حبها لشعوبنا وسعيها الى مساعدتنا في معاقبة اللصوص واسترجاع ما نهبوه ان تحفظ لنا ماليا حتى صدور حكم قضائي بإرجاعه. وهنا لابد من فتح القوس حول غياب مذكرات تطالب بنوك أوروبا وامريكا بمصادرة ممتلكات الطغاة أليس قضاؤنا معنيا باسترجاع الاموال المنهوبة؟ انه من الغباء او اللعب على الذقون الجري المحموم وراء اصحاب رؤوس الاموال الأجنبيّة لجلبهم الى تونس في الوقت الذي تدين لنا البنوك بالمليارات. أليس من الأحرى بأن تسعى الجهات المعنية الى جلب أموالنا بدل جلب أموال اغراب لا نعرف شيئا عن شروط قدومهم؟ إن شعار »ثورة كرامة وليست ثورة خبز« لا يجب ان يصيبنا بالالتباس ولا يجب ان يحجب عنا اهمية العمل على استعادة اموالنا سواء تلك المهربة او تلك الموجودة في ترابنا التي مازال مصيرها غامضا، وأود هنا التطرق الى فكرة بدت لي مهمة ويجب توضيحها. فالحقيقة ان هذا الشعار جميل ويعكس أنفة الشعب التونسي وترفّعه عن المصالح الذاتية مقابل تحقيق الديمقراطية الا انه ليس بالوضوح اللازم أو فلنقل لم يبذل المجهود اللازم من اجل تفسيره فالمطالبة بالزيادة في الاجور او الترسيم او اقالة مسؤول لا تخرج عن سياق المطلبية الضيقة وهي ممارسات غير مقبولة في الوقت الراهن رغم شرعيتها في اغلب الاوقات. فهذه المطالب تقسم الصفّ التونسي وتفتت قواه من ناحية وهي موقف سياسي يقر بشرعية الحكومة من ناحية اخرى وهو ما يضع المطالب السياسية العامة على المحك لذلك فان الدعوات للكف عن المطلبية بدت مقبولة وواقعية. اما ربط كرامة الشعب بتحرره السياسي حكم مطلق ناقص فالجميع يعرف ان الكرامة مرتبطة باستقلالية الفرد المادية والتي تعني الشّغلَ حدًا أدنى وإعادة توزيع الثروة حدًا أقصى. إن الحرية والديمقراطية ليست شأنا سياسيا فقط بل هي شأن اجتماعي بامتياز فلا كرامة مع الفقر ولا كرامة مع الحيف الاجتماعي ولا كرامة مع الاستغلال. ان الديمقراطية غاية بحد ذاتها ولكنها ايضا أداة لمصارعة الحيف والظلم والقهر، ان من يعتقد ان بن علي كان الدكتاتور الوحيد في تونس واهم. فسيء الذكر لم يكن الا ابرز دكتاتور، اما البقية وهم كثر فقد اختفوا في مفاصل المجتمع واحتموا بقوانين على القياس لاستغلال العمال والفلاحين واضطهاد الفقراء. فتسريح الاف العمال قهر ما بعده قهر والمناولة استبداد ما بعده استبداد وتسلط الاعراف ما بعده تسلط. ولأن ثورتنا ثورة كرامة بالفعل فانه من الواجب العمل بجد على رفع كل اشكال الظلم والقهر الاجتماعي تماما كما نعمل بجد على الانتقال الديمقراطية وفرض ارادة الشعب. ان الماركسيين والثوريين مطالبون اكثر من غيرهم بايضاح الصورة لانهم اعلم الناس بأن الديمقراطية تضمن تساوي الفرص شكلا اما مضمون الاشياء فيرجع الى نفوذ المال وسلطة وسائل الانتاج، ان تونس جديدة تتساوى فيها الفرص لجميع ابنائها وجهاتها. تمر حتما عبر التوزيع العادل للثروات والحد من جشع الاثرياء. انها ثورة كرامة ولكنها ثورة عدالة اجتماعية ايضا. وفي الأخير ونظرا الى أن هذه الحكومة الحالية غير مؤهلة لرسم استراتيجيات اقتصادية تقضي على الحيف الاجتماعي وتضمن التنمية لأنها مؤقتة ولأن الجدل مازال قائما حول شرعيتها وقدرتها على تسيير الامور ونيل اجماع المكونات فان المطلوب منها اقتصاديا واجتماعيا العمل بجدّ على جلب اموالنا من الخارج وعلى تأميم شركات اللصوص في الداخل حتى نستعيد جزءا مما سرق منا.