لقد كتبت أكثر من مرة مؤكدا على ضرورة الانتقال إلى الشرعية الشعبية. إذ إنه ليس ثمة من إمكانية للتمديد »للقائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة وقتية« في دستور 1959 . والواقع أن هذا الدستور خرق لأكثر من مرة. لكن التمديد لو حدث لكان أشدها فتكا. إذ إنه سيخرج الحكومة المؤقتة عن الشرعية تماما. فإذا ما استمرت كان ذلك منها سطوا على السلطة سيقود حتما إلى مآل لا تحمد عقباه لا سيما أننا في مرحلة ثورية. أما إذا تخلت عنها لصالح الجيش فذلك ما ليس من مهماتها على الإطلاق لأنها لا تحظى بحق التفويض. ولذلك تجنبا لأي إشكال كان لا بد من استقالة الوزير الأول السابق وتكليف وزير أول جديد يقر بالشرعية الشعبية ومن قبول سيادة »القائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة« بمطلب تشكيل مجلس تأسيسي يكتب دستورا جديدا للجمهورية الثالثة. فيصبح بدوره مستمدا لشرعيته من الشعب مباشرة. فندخل بذلك مرحلة انتقالية جديدة تاركين وراءنا »الفترة الرئاسية الوقتية«. وذلك ما أثار ارتياحا لدى الكثيرين، لكنّه ارتياح مشوب ببعض القلق. ولهذا القلق مبرراته المشروعة ومنها: 1) أن بعضا من اللغة القديمة لم ترق للكثيرين من الناس مثل »هيبة الدولة«. ذلك أن هذا المفهوم استعمل لتكون الدولة فوق الشعب وليشرع الاستبداد والقمع باسم دولة القانون وفات الجميع أن الدولة هي أساسا »دولة الحق«. والواقع أن الدولة فقدت هيبتها من نفسها بحجم الفساد الذي نخر فيها وفي مؤسساتها. أمّا الشعب فثار من أجل تصحيح ذلكم الخلل. فيا للشعب !وربما لا يكون الأمر سوى مسألة لغة وذلك ما أتمناه. 2) بقاء بعض أعضاء الحكومة السابقة في مناصبهم. وكان عليهم أن يغادروا من تلقاء أنفسهم حتى لا يحرجوا السيد فؤاد المبزع ولا يحرج بهم أحد. ثم إن البعض منهم لا يزالون يتصرفون وكأنهم حكومة دائمة منتخبة. فيصرون على القيام بمهام ليست من مهامهم. فهل مثلا المصادقة على اتفاقية روما من مهام حكومة انتقالية علما أن المعاهدات من هذا القبيل لا بد من أن تعرض على برلمان حتى يصادق عليها؟ 3) أمّا اللجان التي شكلتها الحكومة الوقتية فهي لا تلزم ضرورة الحكومة الانتقالية. فالفساد والجرائم المرتكبة بحق الشعب يجب أن يُفعّل فيها القضاء. أما اللجان فما فعلته حتى الآن هو تمييع لأصل القضية لا غير وإضاعة للوقت. علما أن بعضا من أعضاء حكومة الغنوشي مورطون فيها من أخمص أقدامهم إلى أعناقهم. فقد أشرفوا على ذلكم الفساد بذات أنفسهم وكانوا شهود زور عليه. ولقد فعّل القضاء بعد نفسه بخصوص اللجنتين اللتين نافستاه ونسي لجنة الإصلاحات السياسية التي لا موجب لبقائها بعد أن صح العزم منا جميعا أن نذهب إلى مجلس تأسيسي. فكل الإصلاحات ستنبثق ضرورة منه وعنه. ولكن بعض العناصر كان حالها ولا يزال كحال المؤدبين يطلبون دوما الحضور في كل مأتم سعيا وراء نفع ما. مهام الحكومة الانتقالية بادئ بدء لا بد من الوقوف على حقيقة أولى وهي أن أية حكومة وقتيةً كانت أو انتقاليةً ليس لها من الوقت إلا حيزا قليلا لا يمكّنها من أي شيء غير تصريف الأعمال وعلى حقيقة ثانية ألا وهي محدودية شرعيتها. أما الحكومة الانتقالية الحالية فمطلوب منها أمران لا غير مهمتان لا غير: أ تصريف الأعمال. ب الإعداد لانتخابات المجلس التأسيسي. وهي المهمة التي إذا أنجزتها على أكمل وجه جعلت ذكرها جاريا على مر الدهر. ولكنها غير واعية بذلك. وللوصول إلى هذه الغاية يلزم بداهة الأمران التاليان: 1) سن قانون انتخابي خاص واستثنائي يصدره السيد رئيس الجمهورية (الانتقالي) أدام الله بقاءه بأمر منه وبتفويض مباشر من الشعب وليس من أية جهة أخرى. وهذا القانون يَسيرٌ أيّ يُسٍْر ولا يحتاج إلى لجنة إصلاح وإنما إلى تشاور مع الأطراف المعنية. والمبدأ في هذا القانون أنه لا ينبغي له أن يقصي أحدا من الترشح ولا من الانتخاب. ولن تكون فيه شروط مانعة عدا شرط السن والجنسية والتمتع بكامل الحقوق المدنية والسياسية. ومن البديهي أنه سيحدد كذلك بعض الخطوات الإجرائية العملية اللازمة. 2) تشكيل »هيئة عامة للانتخابات« والشروع فورا في التشاور بشأنها. ولا شك في أنّها ستكون هيئة مستقلة تمام الاستقلال عن الدولة وخصوصا عن وزارة الداخلية الفاقدة للمصداقية وصاحبة الخبرة الطويلة في التزوير. ولا ينبغي أن تكون حراسة مكاتب الاقتراع وصناديقها سوى من مهمة الجيش الوطني الذي أحرز على ثقة الجميع. أما ما يضفي على هذه اللجنة مزيدا من المصداقية فإنما إشراكها في تركيبتها لبعض المنظمات الدولية المخولة. وإني لا أقصد بذلك المراقبين الدوليين فهؤلاء أحرار يأتون متى ما أحبوا وبالعدد الذي يحبون دون تضييق ولا كذلك المراقبين المحليين الذين يفوضهم المترشحون ومختلف منظمات المجتمع المدني. وهذه الهيئة لن تتوقف مهمتها على الإشراف على انتخابات المجلس التأسيسي بل إنها هي التي ينبغي أن تشرف على سائر الانتخابات التي ستجري في بلادنا سواء المحلية أو التشريعية أو الرئاسية أو غيرها. ولذلك بات لزاما علينا أن نشرع في تأسيسها فورا ودون تراخ. أما بخصوص التاريخ المزمع القيام فيه بانتخابات المجلس التأسيسي وهو 24 جويلية/يوليو القادم فيبدو أنه قريب جدا. وقد لا يكون مناسبا بحكم الحرارة وانشغال الناس بما ينشغلون به في الصيف عادة. الإصلاحات السياسية من شأن المجلس التأسيسي أما الإصلاحات السياسية فلن تكون إلا شأنا من شؤون المجلس التأسيسي. إذ هو سيلعب دورين: 1) كتابة الدستور كما مطلوب. 2) القيام مقام برلمان انتقالي تكون مهمته إجراء الإصلاحات اللازمة على قانون الانتخابات وقانون الصّحافة. وليس له في الواقع أن يذهب بدوره أبعد من ذلك. يبقى أن الشأن شأنه في ما يخص الحكومة. إذ له أن يعين على رأس الدولة بصفة انتقالية من يريد أو أن يبقي على الحكومة الحالية أو أن يبقي عليها بشرط أن تحور بصفة جذرية وتخضع إلى مصادقته. وإن الأمر لأيسر مما نحسب غير أن المصالح الضيقة ستقف حجر عثرة أمام الصادقين في مسعاهم.