تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إدوارد سعيد في قراءة لأدوار المثقف
بقلم: المهدي عثمان
نشر في الشعب يوم 10 - 02 - 2007

في مرحلة ما بعد الكولنياليّة وتحول الخريطة الجغراسياسيّة، ضمن مناهج تفكير سياقيّة ... من الضروريّ إعادة التفكير في « مفهوم « و « أدوار « المثقف، باعتباره حجر الزاوية في توجيه الأحداث وتعديلها ونقدها. خالقا تراكما كميّا معرفيّا يفضي حتى ونحن نتحدث عن التحليل العابر للثقافات إلى « تنوّع كيفي « ( 1 ) يمكن سحبه على الواقع السياسي والثقافي والإجتماعي .
هنا دون أن نخلق تقاطعا مع المفهوم الغرامشي للمثقف باعتباره « مثقفا عضويا «. هذه النتيجة التي يبدو أنها غير متحققة على الأقل لما يتعلق الأمر بالعالم الثالث (2 ) . فإنّ مفكرا بحجم إدوارد سعيد حاول رصدها وإعادة الإلقاء بها إلى سطح المياه الراكدة منذ كتابه « الإستشراق « سنة 1978، دون أن ننتبه إليها . فما هيّ المفاهيم التي قدّمها إدوارد سعيد للمثقف ؟ وهل أمكن إخراج مفهوم المثقف من « السياقيّة « الأورو أمريكيّة، أو « السياقيّة « العالم ثالثيّة ، أو « السياقيّة « العربيّة أو الإسلاميّة / الأصوليّة ( مع الانتباه للفرق بين الإسلام والأصوليّة ؟) وكأننا اليوم أمام مفهوم الحلوليّة / الأحاديّة (3) ( بعيدا عن المعجم الفقهي ) . بمعنى وحدة « النسق « ، أي الفكر الواحد والإيديولوجيا الواحدة والحكم الواحد ... وكأننا اليوم أمام نظام عالميّ يتّسم بالكلّيّة، في خضمّ سيطرة القطب الواحد. وهي من المفارقات التي يجب التوقّف عندها . أليس غريبا في ظل النظام الرأسمالي، أن تنْسلخ السلطة عن مسالك التجارة وحريّة السوق، وتحشر أنفها في نفس الوقت فيها بطرق سافرة ومشبوهة أليس غريبا كذالك، أن تُمنح الحريّة للتجارة و تُفتكّ من الأشخاص ؟ مع ذلك، كلّ القنوات الرسميّة وحتّى الخاصة، تُمجّد هذا التمشّي وتنخرط فيه . وكأنّ السائد هوّ « المثال « الأوحد . فما سبقه جاهليّة عمياء، واللاّحق عليه، تملّق وكفر وإلحاد ( وفق المعجم الفقهي ) لذلك والحالة تلك ترانا نردّد
مع « داريدا « أنه بدل « التغني بفكرة حلول الديمقراطيّة والسوق الرأسماليّة بغبطة نهاية التاريخ، وبدلا من الإحتفاء ب « نهاية الإيديولوجيات « ونهاية خطابات التحرر الكبرى، علينا أن لا نُهمل أبدا هذه الواقعة العيانيّة الواضحة التي يجسّدها ما لا يحصره العدّ من نقاط الألم الفريد : إن أيّة درجة من درجات التقدّم لا تبرّر للمرء أن يتجاهل أنّه لم يسبق أبدا وبالمعنى المطلق لمثل هذه الكثرة الكاثرة من الرجال والنساء والأطفال أنْ أُخضعت أو جُوّعت أو أُبيدت على وجه البسيطة « (4). والمفارقة اللافتة، هيّ أنّ الإبادات الجماعيّة والإخضاع والتجويع بعد إنتهاء المرحلة الكولنياليّة طبّقت على الدول العالمثالثيّة، وخاصة العربيّة والإسلاميّة . وهو ما يطرح أكثر من سؤال. هل هوّ الصراع من أجل تكريس السيطرة فقط، تحت شعار البقاء للأقوى ؟ أم هو صراع يندرج تحت مفهوم « الصليبيّة «، بمعنى صراع ديانات ؟
يبدو أنّ اختلاف الإجابات لا تمنع صحة إحدى الفرضيات أو جميعها من التجلّي. مع ذلك، يبدو أنّ الصورة المقدّمة للغرب (وإن كنا نفضل مفهوم الآخر عن الغرب ) عن الشرق، هيّ صورة من صنيعة الأقوى ( ليس بالمفهوم العسكري فقط). وقد تفطن إدوارد سعيد لذلك منذ كتابه « الإستشراق « . حيث بيّن أنّ هذا المفهوم على بساطته المتداولة، يبدو أعمق وأخطر من ذلك بكثير. طالما أنّ المستشرقين قبل بداية الحملات العسكريّة على الشرق، كانوا جسرا مهما للمعلومات والمعطيات . لهذا انطلق إدوارد سعيد من الفكر الإستشراقي المحمّل بالمغاطات والنوايا الموجّهة . وهذا ما يجعل الفكر الإستشراقي بنك معلومات سُمح بتوظيفه للتدخّل العسكري ضدّ شعوب متخلّفة وهجينة، لم ترتق بعد إلى مستوى التنظيم المدني والسياسي وكان لا بدّ من إضفاء الشرعيات العديدة على عمليّات العسكرة في هذه الدول كإخراجها من الجهل وإدخالها إلى الحضارة .
فعلت المرحلة الكولنياليّة فعلها في الثقافي والإجتماعي والتاريخي والجغرافي ... ولم تترك مجالا إلا وحوّرته أو أقصته أو غيّرت اتجاهه .حتى صرنا الآن « مع المنظومات المتخصصة جدا، وممارسات الوضع الاقتصادي الجديد التي أخذت تتكشّف بالتدريج وبصورة جزئية فقط، صورة إجماليّة هائلة لكيفيّة تجميع تلك المنظومات والممارسات (العديد منها جديد، والعديد منها بقايا جرى تجديدها من النظام الإمبريالي الكلاسيكي ) لخلق جغرافيا هدفها التدريجي تحشيد البشر والهيمنة عليهم .»(5)
لقد أمكن لإدوارد سعيد دون تفاصيل مملّة أن يقدّم دور المثقّف والكاتب في تغيير مسار الحدث التاريخي . بمثل ما حملت جماعة روسو وفوكو من أفكار وشعارات وتراكمات كمّية أدّت إلى ظهور حركة التنوير .
باعتبار التوليد السقراطي وفق المنهج الفلسفي، أو القياس فقهيا .. يمكن أن نستنتج أنه من غير الممكن حدوث حركات تحرّر فكريّة في المجتمعات العربيّة . مع العلم أننا نصنّف أنفسنا كأكثر الدول تقدّما وديمقراطيّة . والمشهد يبدو سرياليّا وأنت تستمع لنفس الخطاب الرسمي العربي المتكرر دون حياء . « فنحن نحبّ الأعذار، أو تمويه الجهل، ونادرا ما نقبل بتفوّق أحد علينا، تماما على غرار البدائيين الذين يعتقدون أنّ الشمس تشرق وتغيب من أجلهم فقط «(6)يحدث هذا في ظلّ المثقف النوعي الذي هُمش ودُجّن وأُقصي أحيانا كثيرة . وانخرط المثقف في لعبة الوهم وصدّقها ، متناسيا دوره الطلائعي « فالوهم (عنده ) أشدّ رسوخا من الحقيقة « كما يصرّح بذلك داريدا .
إنّ إدوارد سعيد، وقبل انخراطه في لعبة الكتابة ومغازلته لمفهوم المثقّف، وعى ذاته القلقة . وإن كان يعيش خارج مفهوم الوطن بجنسيّة من اغتصب هذا الوطن ... إلا أنّ العديد من المثقّفين مأساتهم أكبر رغم وجودهم في أوطانهم، فاقدي حرية الكلام والتنقّل والتعبير بأشكاله المختلفة، مكتفين بدور تجميل الواقع الرديء .
إنّ المفارقة القصوى أنّ المثقف المغترب بإمكانه أن يكتب من غربته ضدّ عدوّه الذي يقيم على أرضه، في حين أنّ المثقف الآخر لا يمكنه أن يكتب عن عدوّ ولو مفترض، لا سلطة عليه .
فكأنّ سعيد يصرخ على لسان صامويل بيكيت « عليّ أن أتكلّم، ولا أريد أن أتكلّم، وعليّ أن أتكلّم ولا أحد يجبرني على ذلك « . إنه من الضروري الانتباه إلى شكل الخطاب المراد الإصداح به . ذلك أنّ حضارة المدح والهجاء والفخر والرثاء ساهمت في جعل الخطاب الثقافي العربي لا يخرج عن هذه السياقات، ولو خرج عن الشعر . لذلك يعمد المثقف العربي دون إعمال عقله النقدي إلى التجريح أو التجميل أو البكاء على الأطلال . فيأتي فكره مفتقدا للخصوصيّة والأصالة، تشعر وأنت تتعامل مع سياقه، أنه يمكن أن يحدث أو يهمّ أيّ مواطن خارج هذا الكوكب عدى اهتمامه بشخصك و واقعك ...
إننا الآن أمام الكوزموبوليتانيّة. ونحن نتأمل تاريخ الفكر العربي، يسهل الانتباه إلى أنه لا يخرج عن سياقين اثنين : إما التغريب و التطبيع مع الآخر / الغربي والتماهي معه / فيه . وإما العودة إلى الفكر الغيبي، ومحاولة ملاءمته مع الراهن / الآن .غير أنّ « الآن « ليست اللحظة الهاربة، بل هيّ التصادم بين المستقبل والماضي. وفي هذا التصادم يستيقظ الآن لنفسه ويعي ذاته . المثقف إذن، هو السير على حبل دقيق بين الماضي والمستقبل وهذا الحبل هو الحاضر / الراهن بكل منزلقاته .
فباستدعائنا للماضي، من الضروري إعداد المشرط والمقصّ وطاولة التشريح لتشويه وتعديل وإقصاء وتجميل هذا الفكر، حتى يمكن أن يتّسع لمرآة الحاضر وينعكس في المدى/ المستقبل .بالمثل انفتاحنا على الحداثة، يستدعي تثبيت درجات السلّم جيّدا حتى لا نضطر للقفز والسقوط . « حينها تكون الحداثة وعيا ذاتيّا ونسق حياة . فلا بدّ لها من إعطاء معادلها الإبداع « . على حدّ تعبير سميح القاسم . يبقى في كلتا الحالتين، من الضروريّ الانفتاح على الآخر بالنقد والدراسة . تاريخا ولغة وآدابا وتفكيرا ... والابتعاد عن أساليب التكفير والردّة والخيانات، كما يحدث لمّا يحاول مثقّف حضور المؤتمرات العالميّة والثقافيّة، جنبا إلى جنب مع المثقف اليهودي مثلا .
أو تناول الفكر الماضوي بالنقد، بالمثل لما يعمل المثقف على نقد النظام القائم أو الوضع السائد . كل هؤلاء المثقفين تقع محاربتهم وفق ايديولوجيا منظمة ومحكمة الربط بين آليات قمعها واستبدادها . ودائما توظف هذه الآليات وتستخدم « بطريقة انتقاديّة ساخرة لتبرير أنواع من القمع السياسي غير المبرّر « ( 7 ) . وحال الحكومات في ذلك توظيف كل وسائلها وميكانيزماتها وأبواقها لتوضّح بشكل سافر ومشبوه أنذ ما تقوم به دائما هو « لحماية الوحدة أمام التهديدات التي تستهدف الجماعة « ( 8 ) بذلك ينخرط المثقف بطواعية حينا وبالقوة أحيانا كثيرة في النسق الواحد للحزب الواحد . ويمكن أن نشير هنا أنه لما يتعلق الأمر ب « العالم « العربي، يكفي استخدام مصطلح « الحزب « فقط . طالما أنّ « الحزب الحاكم « هو نفس الحزب الحاكم منذ حصول هذه الدول على استقلالها . ولم نسمع بحزب آخر دخل السلطة أو جرّبها . هذا إذا استثنينا التجربة الفلسطينيّة والجزائريّة .
الأولى في طريقها للسقوط، بتوالي الضغوطات الداخلية والعربية، وحتى الغربية التي لا يمكن أن تفهم الديمقراطية إذا اقترنت بأحزاب تصنّفها إرهابية .
والثانية وقع الانقلاب عليها بتعلّة أنّ الهويّة « مهددة بالهجوم والدمار « (9 ) وإن كان سعيد لا يدافع صراحة عن الإيديولوجيا السلفيّة . إلا أنّ التجربة الجزائريّة من الضروري إعادة قراءتها قراءة مغايرة، دون التعويل على مسلمات وأحكام مسبقة . وهذا هو دور المثقف وليس دور السياسي . فمن أدوار هذا المثقف « بالمعنى الجدلي والمختلف هو كشف وإظهار التنافس سالف الذكر، تحدي وهزيمة صمت مفروض، والسكون المطبق لقوّة غير مرئية حيثما استطاع وكيفما استطاع « (10) وفق فكر نقديّ وجدليّ يرى سعيد أن المثقف له ثلاثة أدوار يمكن تلخيصها في التالي :
1 إن التجربة الجزائريّة الأكثر ديمقراطيّة في العالم العربي، أُطيح بها لاعتبارات تصبّ في مجال « محاولة تغييب الماضي « . وإن كنا هنا لا ندافع على الأحزاب المغلّفة بسياقات دينية ماضويّة، إلا أنها تجربة من الضروري تناولها من الداخل . فالسياقات الفكرية للحكومات العربية المسنودة بالإيديولوجيا الأمريكية، من شأنها أن تطيح بأي تحول يعيد تجربة السلفي . ولعل المشهد السياسي الفلسطيني خير تجربة آنية قابلة لعكس هذه الفكرة .
الأدهى من ذلك، أن السياقات المذكورة ستقف بكلّ شراسة ضدّ أيّ فكر يعارض التوجه الإمبريالي، وسياسات الهيمنة الأمريكية . فالمثقف هنا وفق السياق النقدي الجدلي مطالب « بإعادة تشكيل التقاليد وصياغة تاريخ مبسط ومنفتح « (11)، ولا يكتفي بالرفض أو المقاطعة أو اجترار الفكر الإمبريالي باعتباره الحقيقة المطلقة . ومن زاوية مغايرة، يقع منع المثقف العربي من الخوض في أحداث تبدو ثابتة وإن اختلف الرواة في التفاصيل، مثل الفتنة الكبرى أو الخلافة أو ... بتعلات فقهيّة وقدسية . ويمارس الاستبداد على المثقف بتعلات وطنية وقوميّة . في حين أن التخلف والفقر والجهل والاستبداد بالسلطة هو السبب الحقيقي . حتى بات خطاب المثقف كما يشير إلى ذلك فوكو، خاضعا « لإجراءات معيّنة تتمثل وظيفتها في تجنب ما ينطوي عليه من مخاطر، وفي السيطرة على الأحداث العابرة وتفادي ما يمتاز به الخطاب من ماديّة باهظة «
2 المهمة الثانية للمثقف حسب إدوارد سعيد هيّ « بناء حقول من التعايش بدلا من حقول المعارك «(12). وهي من أهم الأدوار التي يجب أن نُشرك فيها المثقف الآخر. الآخر المنتمي لحضارات منتصرة ومتصدّرة سلم القوى العظمى . وهي مهمة تبدو أشدّ وأخطر من المهمة الأولى للمثقف. هذا الذي يجب أن يدافع عن مبادئ إنسانية شاملة، وليست قُطرية ك « القومية « و « الملكية « و « الكليانية « ... إنها قيم من الضروري أن تكون على رأس أولويات المثقفين، كالحرية والمساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية و ... وإن كانت هذه القيم خضعت لعمليات تجميل عديدة، تارة في المخابر الشيوعية، وأخرى في المخابر الإمبريالية / الاستعمارية ، وثالثة على طاولات التشريح الفقهيّة . يبقى دور المثقف، إماطة اللثام عن هذه القيم وتوضيح ما شابها من شوائب دينية أو استعمارية أو إيديولوجية . ومن المفارقات، أنّ كل الأنظمة تحشر في خطابها الرسمي كل هذه القيم والمبادئ الإنسانية وتدعي الدفاع عنها . فالدور الأهم حسب إدوارد سعيد، والمتمثل في « حماية وإحباط محاولة تغييب الماضي « (13)، من الضروري فهمه لا باعتبار الماضي الثابت والمقدس والميتافيزيقي .. بل باعتباره كمّا نظريا وماديا، يجب إخضاعه للفكر النقدي، لبناء تمثلات وسياقات فكرية تخدم مفاهيم « القومية « و « الهوية « و « الوطنية « . وبالتالي يردّ سعيد على الذين يميلون للعمل بتعبيرات وحدات زائفة، واستغلال تمْثيلات مشوهة أو مشيْطنة لجماعات منبوذة أو غير مرغوب فيها والترنم بأناشيد بطولية تستهدف جرف كل ما يقف في وجهها. وهي تمثلات دينية بالأساس، تُوظّف متكلسة ومشحونة بكمّ هائل من أسلحة التكفير. كحالة سليمان رشدي في « آيات شيطانية « وحيدر حيدر في « وليمة لأعشاب البحر « و .. فالمثقف العربي يحتاج إلى الرجوع إلى الهويّة للدفاع عن أشياء معلومة وليست زئبقيّة . فمن من المثقفين العرب يعرف كيف يتعامل مع الفقه ومع الأصولية ومع القرآن؟ وإن كان التعامل يحدث عادة وفق سياقي، الرفض والتبني . وفي كلتا الحالتين ينزلق السياق إلى مخاطر إيديولوجية مشبوهة . وهو ما يجعل اللائمة تعود بالأساس على المثقف العربي دون سواه . لأنّ المثقف الآخر / الغربي استطاع توظيف تاريخه . بمعنى ، وحسب سعيد « مراكمة الذاكرة « . ويمكن تباعا أن نستفيد من توظيف المثقفين اليهود للهولوكوست، وكيف استطاعوا أن يباعدوا سطور التاريخ عن بعضها لحشر مفاهيم للهولوكوست وتقديمها كحدث قرين « الذنب « . واستطاع كتاب مثل « بيتر نوفاك « و « نورمان فنكشتا ين «، أن يدافعوا عن هذا الحدث، كواقع ثابت لا يمكن تغييره . إنّ المقصود « بحقول التعايش السلمي « حسب إدوارد سعيد، ليست تلك المنابر المؤدلجة والمقدمة للاستهلاك الخارجي . كأن ندّعي ونتبنّى مفاهيم مثل « التسامح « و « الحوار « و « التفتح « و ... حتى نستطيع أن نفتكّ شهادات الشكر والولاء والطاعة .. وأننا بذلك شعب ينبذ « الإرهاب « ويدافع عن القيم الإنسانيّة . في الوقت الذي لم تقدّم ورقة عمل واحدة تحدد مفهوم « الإرهاب «، وعلاقاته بالنضال والمقاومة والدفاع عن النفس والجهاد و الانتحار و ... عدى ما قدمه بعض المثقفين التقدميين في الغرب .
إن بناء هذه الحقول من التعايش، تفترض وجودنا على نفس مستوى الارتفاع، ونفس القابلية للتعايش والتحاور .لذلك لا بدّ من مرحليّة ما، لنصل إلى تلك المستويات . كأن نقدّم مفاهيمنا ونتاجنا الثقافي وحقائقنا وآرائنا من الآخر ومن أنفسنا معوّلين على الفكر الجدلي والنقدي، مع التشديد على « الحاجة إلى إعادة توزيع الموارد « انطلاقا طبعا من الواقع العربي الراهن، قبل أن نمرّ إلى الآخر. باعتبار هذا الأخير قد أدرك مرحلة التراكم الأخيرة، بمعنى إدراك سقف الإمبرياليّة . فيما لم تدرك الاقتصاديات العربية، والسلطة تباعا حتى مرحلة فهم الرأسمالية .ويبرر إدوارد سعيد دفاع المثقف عن إعادة توزيع الثروة، باعتبار أنّ السلام لا يمكن أن يتحقق فعليا ولا نظريّا دون أدنى حدّ من المساواة . أما الدور الأهمّ للمثقف، والذي يستدعي حضوره ضمنيا في الأدوار السابقة واللاحقة ( باعتبار إيماننا بوجود أدوار أخرى )، هوّ « المزيد من لجهد والشجاعة والعمل والمعرفة « . حتى يمكن وفي ظل التأويلات الخطرة والفوضويّة تفكيك مفاهيم مثل « الحرية « و « السلام « و « والإرهاب « و « النضال « ... كل ذلك بغرض « وضع الحقيقة المفقودة في علب الأشياء، بدلا من كتابة مقالات عفا عليها الزمن من أجل « ليبراليين « تحثّ على مزيد من الدمار والموت ضدّ مدنيين بعيدين «(14) . وهذه الشجاعة في القول تستدعي من المثقف أن ينتبه إلى مفهوم « الحرية «، ووضعه على طاولة التشريح، لتفكيكه وتحديد مقارباته .
مفهوم « الحرية « فقط، يمكن أن يمنح المثقف قدرة هائلة على القول والمراوغة والنقد والهجوم . بما يمكن أن يخلق ثورة إجتماعية ضدّ « قوى ونزعات وآليات تعمل من وراء الفرد العاقل والحرّ من غير علمه، وعلى نحو يتخطّى إرادته وسيطرته « (15).
بهذا فقط، يمكن أن نطرح فكرا تقدميا موجها للآخر بغرض إقصاء المسلمات من ذهنيّة المثقف الآخر . الذي توفّر على كمّ هائل من المعلومات والصور عن الشرق لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير أرضيّة نظرية للهدم والسيطرة . غير أن الفكر الشرقي لا يمكن أن يتبنى الفكر النقدي أو يعمل على تثبيته . ذلك أن كاتبا مثل الو اسطي ( كاتب تونسي ) يعتقد أنّ « فكرة حقوق الإنسان تنتمي إلى الفكر الغربي، وتبنّيها يعني التشبه بالغرب « .إنّ المثقف العربي وقد وجد نفسه في بركة من التناقضات والهزائم والانكسارات المتعددة والمتكررة، لم يجد المنهج ولا الوسائل ولا الأدوات التي يشرع بواسطتها في فكّ رموز الراهن . فهو يراوح بين حكومات استبداديّة وفقر مدقع و دول مثقلة بالديون وتبعيّة وفقدان الحريات والتداول على السلطة . يوازي كلّ هذا نظم تعليم متخلفة لا تراهن على النقد والاختلاف . « ومع ذلك أخذ الكاتب في السنوات الأخيرة من القرن العشرين المزيد والمزيد من صفات المثقف المعارض في مجالات مختلفة مثل قول الحقيقة أمام السلطة، والعمل كشاهد على الاضطهاد والمعاناة، وتقديم صوت مختلف في الصراع مع السلطة «(16) . رغم ما يخضع له المثقف، وما زال من قمع وإقصاء فاق ما عاناه من قبل العسكرة الاستعمارية
------------------------------------------------------------------------
هوامش :
1 مفهوم ساقه بامتياز عصمت سيف الدولة بقوله : « كل تنوع كمّي يؤدي إلى تراكم كيفي «.
2 يعدّ « ألفراد سوفي « أول من أطلق مصطلح العالم الثالث سنة 1952 ، على الدول المستعمَرَة أو التي لا زالت تخضع للإستعمار .
3 مذهب من يقول بوحدة الوجود، أي بوحدة الله والطبيعة .
4 أطياف ماركس، جاك داريدا لندن 1994 ، ص 85 .
5 إدوارد سعيد : الدور العام للكتاب والمثقفين مجلة الكرمل، العدد 68، ص 10 .
6 ليلى غاندي ، مقال « ادوارد سعيد ونقاده « ، الكرمل، عدد 81 ص 51 .
7 نفس المصدر السابق، ص 19 .
8 نفس المصدر السابق، ص 19 .
9 نفس المصدر السابق، ص 19 .
10 نفس المصدر السابق، ص 18 .
11 نفس المصدر السابق، ص 23 .
12 نفس المصدر السابق، ص23 .
13 نفس المصدر السابق، ص 23 .
14 نفس المصدر السابق، ص 24 .
15 علي حرب: « مسألة الحريّة مساحة اللعبة وازدواج الكينونة «، مجلة عالم الفكر، العدد 3 ،المجلد 33 ، مارس 2005 ، ص 10
16 إدوارد سعيد : الدور العام للكتاب والمثقفين مجلة الكرمل، العدد 68، ص 12 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.