قليلا ما قرأت شيئا مذهلا عن المطر قبل 14 جانفي 2011 فقد كان الشعراء يكتبون عن الغثيان والجفاف والقحط والموت والسباخ لأن الاعوام كانت متشابهة حتى ان بعض الشعراء كتب شيئا بعيدا عن ألق المطر يوم السابع من نوفمبر 2010 : »لقد انتظر العالم بفارغ الصبر ذلك اليوم المبارك السعيد. فقبل حلوله بأيام زُيّنت الطرقات بالابيض والاحمر وعلقت اللافتات والاعلام ونُفِخت المزامير وقُرِعت الطبول ورنت الهواتف وحدث ما يجب ان يحدث عادة. ملايين الايدي التي تصفق في القاعات والشاشات... وملايين الأوراق السكرى تصفق تحت الاشجار وتذهب في الريح وليس ثمة من مطر يغسل تلك الأوراق«. (...) لكن حدث كل شيء فيما بعد بسبب المطر الذي أدمن الانحباس أعواما حتى جفت الينابيع والآبار وحلوق الناس وصدور النّساء... وعندما هطل المطر، هطل بقسوة لم يعرفها من قبل... كان مسكوبا بعناية وفاء لبيت أبي العلاء المعرّي: »والأرض للطوفان مشتاقة لعلّها من دَرَنٍ تُغْسَلُ« لقد حملت أمطار جانفي وفيفري ومارس 2011 أدرانا كثيرة وعلينا اليوم ان نكون مطرا يملأ قلوب الناس التي حررتنا من أدراننا، لكن كيف نكون نحن الشعراء والكتّاب أمطارا تغسل تعب الناس خمسين عاما... كيف نرد الجميل لأولئك الشهداء وعائلاتهم... 2 كلما سمعت كلمة »مطر« ارتعدت فرائصي وصفّقت أصابعي كأنها لم تصفق من قبل... لكني لا أعرف إحساس الناس بالمطر هذا العام... ما هو طعم المطر فوق جباه الناس وهم يتنفسون هواء الحرية لأول مرة، هواء حرية لن يفرّطوا فيها الى الابد حتى ولو كان المطر رصاصا مسكوبا... حذار أيها الشعراء سيطلقون الرصاص مرة أخرى! 3 يطرح المطر ألف سؤال فوق المباني والشرفات يتكلم المطر بقوّة ملايين الكلمات التي لا نفهمها. قمت في إحدى الصباحات مبكرا واضعا مطرية سوداء فوق رأسي، خائفا من المطر كعادة أهلي (وما خوفي منه الا بسبب زكام طويل الأمد). عبرت الشارع وسط قليل من الناس كانوا قد بدؤوا يتثاءبون كأنهم مصابيح فجر أو قطط ضيّعتها كؤوس المدينة. المقاهي فتحت أبوابها بعد... لم أكن أردد على شفاهي سوى كلمات بدر شاكر السياب في نبوءاته (ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع... مطر... مطر...) لا أعلم لماذا تذكّرت ملايين الضحايا من احتلال بلد عظيم ظلما وقهرا ووحشيّة، وتذكّرت شعراء العراق الذين تأسس على تجاربهم الشعر الحديث برمّته: بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، حسب الشيخ جعفر، حميد سعيد، سعدي يوسف، سركون بولص، خزعل الماجدي ودنيا ميخائيل. يتساءل المطر عن القموح والأرز والذرة... يتساءل عن النبات والأشجار والأنهار والجداول... كل شيء في الحياة يمنحه المطر... ولا أحد له فضل على العالم سوى المطر. لذلك فضّلت معجم الطبيعة والماء والبحر في كلّ قصائدي ومزجتها بأشياء من المطر. إن أصل العالم وأصل الشعر آت من الماء. لم أتذكّر سوى السيّاب في »ءأتعلمين أيّ حزن يبعث المطر«. 4 فكّرت آلاف المرات بالمزارعين الذين تحررهم الأمطار وبالصّبايا اللواتي سيحرّرهن المطر من ربقة عبودية أحمر الشفاه والمرايا والاصباغ البيضاء وكهرباء الهيروين وكيمياء الدّعارة. فكرت بكل ذلك وأنا أمرّ صباحا امام محلات فُتحت وأخرى سيمرّ يومُها دفعة واحدة، فكرت بكل ذلك، بينما شجرة لوز عارية تحت المطر لا يعنيها أبدا تُصلبَ في الماء طالما أنها كانت متأكدة تماما ان شيئا ما سيحدث بعد انتحار الناس امام مراياهم... لقد أصبح المطر مكانا مقدسا والناس قرآنا آخر لم تعرفه دساتير العالم !