في الصباح شتوي، تهيأ محمود للخروج الى العمل، بعد ان دخّن سيقارتين ولم يستطع ان يتناول من فطور الصباح شيئا حيث داهمته سعلات متوالية وأحسّ بضغط في صدره تحول بعد ثوان الى نوبة آلام. حاول التحكم في اعصابه للتغلب على آلامه ليخرج الى عمله لكن دون جدوى حيث أحس بعجز في قواه ولم يعد يستطيع كتم أوجاعه حين لاحظت زوجة على وجهه علامات التعب فسألته: لا بأس إن شاء الله؟ فردّ بصعوبة في النطق بحشرجة. صدري... صدري يا مفيدة يؤلمني! فنادت ابنها الأكبر ثم خاطبت بعلها: هل نأخذك الى الطبيب؟ فأجابها في نبرات متقطعة: أجل ... أجل لأني لا أستطيع الذهاب الى العمل ولا أقدر على مباشرة الشغل! فحسم ابنه الشاب الأمر: لنأخذه الى الدكتور الهادي فعيادته حيث يسكن قريبة منا جدا، انه عائد من فرنسا منذ سنة وهو ذو سمعة حميدة من حيث المهنة والأخلاق. خرجوا فورا الى العيادة فسار محمود ببطءٍ يسعل من حين الى آخر مستعينا بوضع يمينه على صدره وهو يتذكر: لما كنت يافعا تلميذا بالتعليم الثانوي فتخرج من المبيت عصر السبت او عصر الاحد مع صديقك عبد الحميد كان والده ميسور الحال يدلله، يزوده بالمال دون تحديد. صار عبد الحميد مدمنا على التدخين، يعرض عليك اثناء التنزه سيقارة فتعتذر لكنه يصرّ عليك فانخرطت في اللعبة تنفخ دون استنشاق الى ان تورّطت في تعاطي التدخين. لما أصبحت موظفا صرت مدخنا فلا تفارق جيوبك علبة اللفائف والوقيدة ثم تقدمت بك الايام اذ صرت كهلا فثقلت مسؤوليتك أبًا لعدة ابناء تنفق على الاسرة وتدفع كراء المسكن وتتولى بناء منزل وتتحمل مصاريف دراسة الابناء وحيث كانت الزوجة لا تشتغل فاضطرت الى القيام بشغلين، الاول رسمي والثاني اضافي، هنالك صرت تدخن بلا تحديد، بل صرت كلك دخانا، النيكوتين مبثوث في كافة خلايا جسمك. صارت السيڤارة في حياتك تطلب كأس شاي أو فنجان قهوة كما صار فنجان القهوة أو كاس الشاي يحبّذ السيڤارة. وأنت تغوص في أتعاب المهنة بين الدراسة والتصميم، بين التمهيد والانجاز... تجمع، تطرح... تضرب، تقسم، حيث تمتص غازات الحنظل، تتوهم طعمه حلوا، تتخذ ذلك العلقم حافزا ومنشطا لطاقتك. ذات ليلة عاكسك طعم الكرى فتطلعت الى وسيلة التوقيت ففاجأتك الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فامتدت يمناك الى علبة التبغ وبحثت يسراك عن الوقيدة فلم تعثر عليها وفتشت عنها في المطبخ لكن دون جدوى فهرعت بسرعة الى الشارع تنشد جذوة حيث لبثت تنتظر مرور مدخن الى ان فزت بالوقود. قبل ان تصل الى الطبيب اخذ ضميرك يعظ نفسك: يا محمود... طبيب النفس مولاها... ارحم نفسك... ارحم صحتك... أقلع فورا عن التدخين! لما وصلوا الى العيادة استقبلهم الطبيب بكل ترحاب ثم سأل محمود عن شكواه وخاصة عن التدخين وعن كمية الاستهلاك بعد ذلك فحصه فحصا دقيقا مع عرضه على المرآة حيث بدا له تأثير التدخين السلبي على الرئتين. قدم له الطبيب وصفة علاجية وأوصاه بأن يركن الى الراحة التامة مدة ثلاثة ايام ونصحه بالاقلاع فورا عن التدخين الذي هو سبب هذه الوعكة لأن التمادي في تعاطيه قد يعرضه للخطر. وانفجرت زوج محمود معقبة: الدخان يا دكتور... كم حذّرته من التمادي في استهلاك هذه الآفة... حياته صارت تبغا في تبغ... إني أخشى على صحته وهو لا يصغي الى نصيحتي! فعقّب الطبيب في ابتسامة عريضة: ما رأيك يا سي محمود في هذا العدو الذي تتخذه صاحبا؟ ردّ محمود في صوت متهدّج وبنبرة حزينة: لن أدخن ولو سيقارة بعد اليوم! ما ان سمع الشيخ صالح بوعكة محمود حتى هبّ مسرعها الى عيادته إذ هو عضو معه في جمعية المحافظة على القرآن الكريم. الشيخ صالح متخرج من جامع الزيتونة وهو أستاذ تربية متقاعد فصار عدل إشهاد وهو الإمام الخطيب بالمسجد الجامع بالحي ويترأس به جمعية المحافظة على القرآن الكريم. فقدم بعد صلاة العصر الى دار محمود حيث استقبل بحفاوة فجلس اليه يسأله عن أحواله وخاصة عن صحته وعن سبب هذه الوعكة. جاءت زوج محمود بكأس ماء وفنجان قهوة الى الشيخ وأعلنت: هذه الأزمة يا شيخ... هذه المصيبة الخبيثة من الدخان الخبيث! فخاطب الشيخ محمودا في هدوء ولطف مذكرا ناصحا: يا ابني محمود... إن الطيب والخبيث لا يتفقان إنك تصلي وتقرأ القرآن وتحفظ نصيبًا منه ومع ذلك تدخن... ممارسة لا تناسبك ولا تليق بك... المولى تبارك وتعالى يقول: وما يذكّر الا أولو الألباب وأنت تبارك الله صاحب فكر فكيف تنفق مالك في غير موجبه بل تضر به صحتك، ويقول جلّ شأنه: ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة كما يقول سبحانه: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين والله يشهد أنك عزيز عليّ مثل أبنائي فالرجاء كل الرجاء منك ان تقلع نهائيا عن التدخين! وعادت زوج محمود وبيدها علبة السڤاير فمدتها الى الشيخ وانفجرت مشتكية: ها هو الداء يا شيخ... ها هو الهمّ... ها هو العدّو...! فعقّب الشيخ: بالفعل... فالدخان مثل الشيطان، عدو للانسان وهو من الشيطان حسبما قبل: النظافة من الايمان والوسخ من الشيطان فالملعون هو الذي دفع بالانسان ان يحول الطيبات الى خبائث حيث صنع من العنب الخمر ومن التبغ الدخان. انفعل محمود فاختطف العلبة فرضّها وسحقها ورمى بها في المنفضة وخاطب الشيخ: أقسم لك يا شيخ ألا أدخن ولو سيڤارة بعد اليوم! ابتهج الشيخ وانشرح فمدّ يديه يدعو له بالشفاء ويدعو له مع أسرته بالخير والهناء والسعادة ثم استأذن فخرج مخلّفا روائح الكرامة والبركة.