اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    فاطمة المسدي: ''هناك مخطط ..وتجار يتمعشوا من الإتجار في أفارقة جنوب الصحراء''    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    توقّف نشاط بطاحات جزيرة جربة والاقتصار على رحلة واحدة لتأمين عودة التلاميذ    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    جبل الجلود: الإطاحة بمروج مخدرات بمحيط المؤسسات التربوية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    الكاف: ظهور الجليد الربيعي اضرّ بالأشجار المثمرة في بعض المناطق    خلال 24 ساعة فقط.. وفاة 21 شخصًا    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    قرار قضائي بتجميد أموال شركة بيكيه لهذا السبب    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    حرفاء يصعدون الميترو عبر فتحة البلّور: شركة نقل تونس توضّح    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    كانت متّجهة من العاصمة الى هذه الجهة: حجز مبلغ مالي على متن سيارة اجنبية    اليوم النظر في شرعية القائمات الثلاث المترشحة لإنتخابات جامعة كرة القدم    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواصل التحضيرات بجنوب إفريقيا    شهداء وجرحى في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة بقطاع غزة..    تحول جذري في حياة أثقل رجل في العالم    الاتحاد الأوروبي يمنح هؤلاء ''فيزا شنغن'' عند أول طلب    جنوب إفريقيا تدعو لتحقيق عاجل بالمقابر الجماعية في غزة    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    اختناق عائلة متكونة من 6 أفراد بغاز المنزلي..    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    التمديد في مدة ايقاف وديع الجريء    توقيع اتفاقية تعاون بين وزارة التشغيل وبرامج ابتكار الأعمال النرويجي    %39 زيادة رصيد الخزينة العامة.. دعم مكثف للموارد الذاتية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    لطفي الرياحي: "الحل الغاء شراء أضاحي العيد.."    الحماية المدنية: 21 حالة وفاة و513 إصابة خلال 24 ساعة.    أمام وزارة التربية: معلمون نواب يحتجون حاليا ويطالبون بالتسوية العاجلة لوضعيتهم.    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    بطولة كرة السلة: برنامج مواجهات اليوم من الجولة الأخيرة لمرحلة البلاي أوف    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الطقس اليوم: أمطار رعديّة اليوم الأربعاء..    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا وسهلا
قصّة بقلم: خليفة شوشان
نشر في الشعب يوم 24 - 04 - 2010


...وكان كبير الجلاّدين له عينان،
كبيتي نمل أبيض، مطفأتين،
وشعر خنازير ينبت من منخاريه،
وفي شفتيه مخاط من كلمات كان يقطّرها في أذنيّ،
ويسألني من أنت ؟؟
خجلت أقول له: قاومت الإستعمار فشرّدني وطني..
«مظفّر نوّاب»
❊ ❊ ❊ ❊
كنت وحيدا كآدم يوم استخلف في الأرض..حزينا وكئيبا وبي رغبة في الصراخ والشتم..
تجاوزت باب السجن الحديدي الثقيل على اللّه والأمّة والشعب..
الدنيا في الخارج على حالها لم تتغيّر، لذلك تردّدت في الخروج، فلم أكد أدرك أمن السجن خرجت أم الى المنفى الكبير دلفت؟
على بعد خطوات من سور السجن العتيق الممتدّ كقلعة رومانيّة، استوقفني متسوّل في ريعان شبابه.. سألني صدقة لوجه اللّه، فسألته سيجارة وأجرة حافلة لوجه الإنسان.. ضحك .. ناولني علبة سجائره، ووهبني خمسة دنانير.. أخجلني كرمه..فانسحبت بسرعة مختبئا بين العابرين..
هاتفت وضّاح.. مرّ على افتراقنا سنوات.. كنّا لا نفترق إلا للنوم، أو لعلّي قصدت القول ليستمتع كلّ منّا بكوابيسه الخاصة..أخبرني بأنّه عاد منذ أسبوعين إلى ديارهم بعد أن نجح في الحصول على عمل بإحدى شركات الحراسة الليليّة بعد أن أجري له اختبار في السهاد وقلّة النوم- الحمد لله - أنّه كان اختبار ضمن الاختصاص..
❊ ❊ ❊ ❊
غادرت بيت عيّاش، الذي كان مكان نقاهتي بعد السجن.. وصلت قبل الموعد الذي حدّدته مع وضّاح بساعتين، تجوّلت في شوارع العاصمة أقرأ وجوه العابرين وأتصفّح عناوين الكتب في مكتبة المشّائين بالدبّاغين.. كنت أبحث عن كتاب أهديه لوضّاح، أعرف شغفه بالقراءة، كان لا يقوى على مقاومة هذا »النزوع المرضي« حتّى أنّه لا يستطيع منع نفسه من السطو على الكتب، وبلا استحياء يسمّي ذلك »إعارة طويلة الأمد« على شاكلة قروض البنك الدولي لدول العالم الثالث وإذا لامه الأصدقاء استفتى عقله وخرج علينا بفتوة تبيح السرقة المعرفيّة مؤولا الحديث الشريف »من كتم علما، ألجم بلجام من نار« كان يصرخ فينا ألا تعتبر أسعار الكتب المشطّة كتمانا مقنّنا للعلم؟، »ألا يعتبر ذلك مود بمن كتم وسعّر إلى النار حيث ينتظره لجام الخالق ليشوي لسانه وأصابعه«. وعندما نسأله وما دخل الأصابع؟ يبتسم بسخرية وهو يقول بازدراء: »نسيت أنّكم نصّانيون تقفون عند الظاهر وتنكرون المقاصد، ألم ينزّل النصّ على عهد المشافهة حين كان العلم يؤخذ عن اللسان لا عن القلم، أمّا اليوم فقد أصبح الكتاب هو فاتحة العلوم، فصار علينا أن نضيف إلى الحديث الأصابع التي تطبع الكتب ولا نكتفي باللسان«.. كنّا نناكده بأن نردّد في شكل جوقة »اللّهمّ زدنا علما«. فكان يحتدّ و يصرخ: »والله انتم سبب تخلّف هذه الأمّة والواقع على ما أقول شهيد«..
وقع اختياري على رواية عبد الرحمان منيف »حين تركنا الجسر«، ربّما كان اختياري اعتذارا منّي له على رواية »شرق المتوسّط« التي استعرتها منه قبل دخولي السجن، كان اختيارا استراتيجيّا موفّقا حافظت فيه على المبدأ نبل الغاية، أمّا التكتيك الذي اعتمدته فاختيار رواية صغيرة الحجم قليلة الصفحات وهو ما جعل البائع المشغول بمعابثة الفتيات لا يغالي في الثمن، أضف إلى كلّ ذلك أنّ موازين القوى الماديّة ليست في صالحي، فكلّ ما في جيبي لا يتجاوز بضعة دنانير..
شعرت بالإرهاق فما زالت ساقايا جديدتي عهد بالشارع، وقد كان السجن أورثني جسدا نحيلا لا يقوى على المسافات الطويلة، فما بالك والشمس تكاد تحرق الرؤوس.. هرعت إلى مقهى العابرين.
وصلت المقهى أخيرا..جلست في الفناء الخارجي تحت شجرة التوت الوارفة الظلال التي تتوسّط الطاولات الخشبيّة المتهالكة التي فعل فيها المناخ المزاجي فعله.. كان الخريف على الأبواب، والشارع العريض الذي يمرّ أمام المقهى بدأ يستعيد بعض عافيته بعد خمول الصيف وهجرة المصطافين إلى البحر من استطاع إليه سبيلا..
❊ ❊ ❊ ❊
كنت وحيدا ..والوحدة قرينة الحزن والمعاناة وضرّة الأمل، خاصة إذا ماستعصت وطالت غيبتها..
لو عاش الزمن العربيّ الهارب عن كلّ تقويم إلى مهالك هذا القرن الجديد لعدّل حكمته، هذا ما قاله لي وضّاح وهو يودّعني منذ خمس سنوات بعد ليلة صاخبة تواصل فيها الجدال بيننا إلى الفجر.. لم أكن في تغريبتي الطويلة التي عشتها في هذه المدينة أرتاح لأحد كما كنت أرتاح لوضّاح ..فعندما كانت تنتابني حمّى الضيق و يجتاحني الحنين إلى قريتي الصغيرة حيث الأهل والأحبّة.. كنت أسرّ إليه بوجعي فيقول: »سبحان الله، أنت غريب يا رجل ..ألم تحدّثني آخر مرّة عدت فيها من زيارتك إلى الديار أنّك كدت تجنّ من الروتين القاتل؟.. ألم تجزم لي بأنّ البقاء هناك لأسبوعين كاملين يعدّ انتحارا بطيئا..لا سياسة ولا بوليس سياسي ولا مناوشات ولا مناقشات ولا سهر ولا تسكّع..بالإضافة إلى حالة التصحّر الأنثوي والكسوف الإستيطيقي.. ألم تكن تقول لي ضاحكا أنظر إلى رقبتي وكرشي البارز ..ألا يصحّ فيّ قول الشاعر تكرّش حتّى عاد بلا رقبة.. تصوّر يا وضّاح لو بقيت هناك مدّة سنة بتمامها وكمالها.. تأكّد أنّ الأمن الغذائي العربي سيغدو مستحيلا .. وكنت تختم الحديث بقولك القاطع لا فرق بين الريف والمدينة في هذا الوطن .. فقط اختلاف في التفاصيل، فشعار المدينة هو الأمن مقابل الغذاء أمّا شعار الريف فالصمت مقابل الغذاء، جوع في البطن هنا وجوع في العقل هناك..
وضّاح حكاية تمشي على قدمين..رجل لا ككل الرجال ..يتقن الصمت ويحترف الاستماع ..لا يغضب وان غضب حسّسك بأنّ الأرض دخلت في مدار آخر وقرّرت العصيان الفلكي..كان يكبرنا جميعا ورغم فارق السنوات الضئيل بيننا كنّا نعدّه شيخنا وإمامنا.. لعلّ طفولته القاسية كأيّام الأمّة قد اختصرت فيه سنين العمر و عتّقت تجاربه..وصهرته معدنا صلبا لا يلين..علّمنا الصبر وشرف التواضع وفضيلة الثقة وعزّة النفس.. وغرس فينا بذور الرفض والعناد والكبرياء والموت واقفين كنخل بغداد..
❊ ❊ ❊ ❊
مازلت أتذكّر يوم التقيته لأوّل مرّة.. كان بسيطا حدّ الخرافة، حزين الملامح يستدعي في داخلك رغبة لا تقاوم في البكاء ..أذكر حين بحت له بهذا الإحساس، ابتسم وقال: »قد يكون ما أحسست به انعكاس لحسّك المرهف وإنسانيّتك المبالغ فيها، هذا احتمال ..أمّا الاحتمال الثاني فأراه يعود لأسباب جينيّة فسلالتنا ميّالة بطبعها إلى الحزن وهو ما انطبع على وجوههم رجالا ونساء.. يصمت ثمّ يواصل لعلّ جدّنا الأوّل كربلائيّ الهوى«..
يومها كنّا ثلاثتنا في غرفة بالمبيت الجامعي أنا وعيّاش وعزيز ..كانت علاقتنا قد أينعت وأثمرت منذ أشهر قليلة حيث جمعتنا الصدفة في نادي السينما كنّا نتابع شريطا سينمائيا بعنوان »الطريق إلى ايلات« ولم نتمالك أنفسنا عندما انفجرت البوارج الصهيونيّة على الرصيف.. صفّقنا بحرارة وهتفنا تسقط إسرائيل، انتقلت العدوى إلى بقيّة الطلاّب.. انتهى الطريق إلى ايلات بعد أن مدّ جسرا بين ثلاثتنا ..وبدون مقدّمات قفز إلى رؤوسنا السؤال الملعون مالعمل؟ أين؟ ومتى؟ وكيف؟ أمّا لماذا فالواقع كان خير جواب، وعلم الكيان الصهيوني لم يجفّ طلاؤها وهو يرفرف في سماء الوطن..
اقتحم علينا طاهر وناصر الغرفة بطريقة زوّار الليل، أشهروا أصابعهم مسدّسات، صرخ ناصر »بطاقات التعريف«.. في حين دخل طاهر في هستيريا سعال مصطنع وقال وهو يفتح النوافذ على مصراعيها: »إمّا أنّ مصنع التبغ بالقيروان سيقفل أبوابه قريبا و إمّا«..
قاطعه عيّاش:»قل السلام عليكم يا رجل«.
ردّ طاهر: »قل هي الحرب علينا، فعن أيّ سلام تتحدّث؟ لقد كرهت هذه الكلمة منذ أوسلو اللعين«
ضحكنا جميعنا ..أمّا عيّاش فاستأنف الحديث: »ماذا تخرّف يا رجل حكوماتنا العربية أذكى من أن تغلق مصانع التبغ ..قد تقفل ما تبقّى من المساجد، وكذلك المدارس والمعاهد والكلّيات والمستشفيات.. »وفمك السليط«..أضاف عزيز: »نعم نسيت.. استدرك عياّش ..لكنّها لن تفكّر مجرّد التفكير في إغلاق ثلاث قطاعات حيويّة..أتعرف ماهي يا عبد الناصر زمانك؟ معمل التبغ بالقيروان، ومعمل الجعة بقرمبالية، والسجون والمعتقلات«..
قاطعه طاهر: »لا يا سادات زمانو .. بل فم وضّاح اليمن.. وبقفزة عسكريّة مرفوقة بتعظيم سلام« فتح الطاهر الباب صفّق ثلاث، ثمّ انحنى يستقبل الضيف ..دخل علينا .. لم يكن على ملامحه أيّ علامة فارقة ..نحيف الجسم يميل إلى هزال من شدّة الطول ..أسمر البشرة تعلو وجهه صفرة خفيفة ..في عينيه ضلال تنمّ عن تعب وإعياء جيني متأصّل ورثه عن سلالته المعدمة .. له شارب خفيف كأنّه مرسوم بقلم رصاص ..ولحيته مشروع غير قابل للاكتمال .. كانت سترته الخضراء العسكريّة تقطر ماءا بفعل الأمطار وكان وجهه ممتقع بفعل البرد .. وقف عيّاش ترك له مكانه وناوله فوطة ليجفّف شعره، لم يترك له الوقت ليجفّ، ارتمى عليه ضمّه إلى صدره معانقا وهو يسأل: »يا الّلّه يا مجمّع الأحباب!! وضّاح بلحمه ودمه!! قلّي بربّ الكعبة والقدس الشريف، أين اختفيت كلّ هذه المدّة؟ مضى على بداية السنة السياسيّة أقصد الدراسيّة ثلاثة أشهر ولا أثر لك ..ظننّاك »رحت فيها« مع العبادلة الجدد ..فقد سمعنا أنّ قريتكمسجنت عن بكرة أبيها..
بعد أن حيّا وضاّح الجميع وسأل عن أحوالهم التفت إلى طاهر وقال »لا تخف يا الطاهر لم أكن في منزلنا ولا في السجن ..ظروف ..ظروف ..لا يهمّ ها قد التقينا«.. »ظروف .. ظروف ..حتّى أنت يا وضّاح أصبحت تتعلّل بالظروف؟« ألست أكثر من علّمنا أنّ الإنسان أقوى من ظروفه؟ .. »عندما يكون إنسانا فعلا يا سليل الإقطاع«..
أعجبنا باللقب الذي وسم به وضّاح طاهر نكاية فيه .. فهو لا يترك أحدا لحاله.. لا يكلّ من السؤال والنبش في أسرارنا الشخصيّة ويفاجئنا بتحقيق مفصّل »شوهد زاهد في اليوم المعلوم لدينا وفي ساعته يتبادل إبتسامة خجولة مع فتاة جميلة يرجّح ونظرا لعدّة إعتبارات أحتفظ بها لنفسي أن تكون من أصول إسبانيّة عربيّة.. أمّا عزيز فقد ضبط متلبّسا بجرمه وهو يتناول بيتزا لا يقلّ سعرها عن دينارين كاملين، وهو مطالب بالإجابة عن سؤالنا المشروع من أين لك هذا المال؟، ونأتي الى نبيل الذي انتقل فجأة للإقامة في الضاحية الشماليّة الراقية بدون سابق إعلام«.. كانت فرائسنا ترتعد ونحن نستمع الى تقاريره الدقيقة، فنحن لا نعلم أيّ الحماقات سيكشفها..؟ كانت تلك هوايته المفضلة الى جانب الشغب وتعكير صفو النظام العام التي يسمّيها عادة»بالاستخبار لتقوية الجبهة الداخليّة«..
أراد عزيز كعادته كسر الحواجز النفسيّة فقدّمنا للضيف، ثمّ استأنف الحديث: »مع احترامي لضيفنا العزيز، أظنّ بأنك يا أخ طاهر قد نسيت قطاعا هاما لم تشر إليه ولا يمكن إغلاقه«..
ردّ طاهر بجدّيّة مفتعلة: »لا تقلّي مؤخرتك«؟؟
غرقنا في هستيريا من الضحك حتّى سقط عيّاش من على مقعده وهو يرفس برجليه ممسكا بطنه من شدّة الضحك: »فعلا يا طاهر هي قطاع هام ولكن لسوء حظّك تبقى قطاعا خاصا لا دخل للدولة فيه«..
بدا على عزيز الارتباك وهو يستأنف حديثه: »هذه قطاعات هامشيّة يا أحمق ..أنا قصدت قطاعا تعرفه جيّدا وأضنّك من حرفائه الأوفياء.. فهل يمكن لحكومتنا الحداثويّة أن تقفل المواخير؟
..زعق طاهر إلاّ هذه يا عزيز.. أقسم بشرف الإقليمية التليد أنّها لو فعلتها لأعلننّها فتنة لا تبقي ولا تذر، تحرق الأخضر واليابس .. هذا يا رجل خطّ أحمر وقطاع حيوي لا يمكن العبث به ..أتفهم ؟ هل تريد أن تخرب البلد؟ وهذه القنابل الموقوتة من الشبق التي تجوب البلاد لاهثة وراء سياط الجنس.. قلّي بربّك من سيبطل مفعولها ..
أمسك عياش بيد الطاهر وصرخ بأعلى صوته: »سأكون أوّل الثائرين معك يا رفيق، فالقضيّة لا يمكن السكوت عليها..
❊ ❊ ❊ ❊
تكلّم وضّاح بلا مقدّمات.. كان صوته واضحا وحازما ونبراته عميقة مؤثرة: »يا إخوة ما تقولون في غاية الأهميّة، لأنّه ببساطة مشكل وكلّ مشكلة هو إعاقة للتطوّر ..ولكنّنا إن تجاوزنا الرؤية الفرديّة للمشكل وترفّعنا عن تذييته، سنكتشف أنّه مشكل اجتماعي يشترك فيه الجميع ..لكنّ المشكل الذي يزعجني حقا أن تتحوّل الأمّة إلى بغيّ والوطن إلى ماخور يمارس فيه البغاء الجسدي والسياسي والثقافي والاقتصادي ..مضاف إليه البغي والظلم والاستبداد والفساد..أليس هذا ما يستحقّ هبّتك العنتريّة يا طاهر«..
هزّ طاهر رأسه موافقا: »كان مزاحا يا وضّاح أنت تعرف أنّنا تعلّمنا الدرس وصارت الرجولة عندنا أكبر من خصيتين وقضيب، وأصبحنا ندرك أنّ الطريق إليها أبعد من ركعة شبق فوق سجّاد أنثى«..
أضاف وضّاح لا شكّ فيما قلت يا طاهر، وأضيف علام في قولك من حكمة الرجال بأن أقول: »أن تفقد رجولة بدائيّة غرائزيّة فذاك بدء الطريق إلى وصال لا ينفصم مع رجولة أنطولوجيّة خالدة لا تبدّدها الطبيعة والخطوب ..ففي الوجود يا صحبي مساحات من العذريّة يجب أن نخترقها وللواقع حجب من الغنج تستأهل أن نمزّقها وعلى الأمّة أصفاد غشاوات تستحقّ رجالا لفضّها..
كانت كلمات وضّاح مربكة في بساطتها وعمقها، نقلتنا إلى ذرى بعيدة من التداعيات والهموم الكاوية ..صمت وضّاح.. فعمّ الغرفة هدوء رهيب، فابتسم وكأنّه أدرك ما فعلته كلماته فينا، وبتواضع العظماء أراد أن يخرجنا من دهشتنا فقال: »قد أكون بالغت -بعض الشيء بدعوتي إلى رجولة أنطولوجيّة لكن أعذروا جهلي فلست خبيرا بعالم النساء، ولعلّ في قولي بعض المثاليّة، أليس هذا ما تظنّ يا عيّاش الأشقر«.
ضحك عيّاش وكأنّه أحسّ بما يهمس إليه وضّاح فعلّق: »لو علمن بجمال روحك يا وضّاح لعرفنّ بأنّك سيّد الرجال«
يومها كانت ولادتي الثانية، سهرنا مع وضّاح حتّى الفجر، اكتشفنا فيه الشاعر والروائي والفنّان، كان يحفظ النكات ويبدع في حكايتها ..حكى لنا أحلامه و أماله، وآلامه وإحباطاته.. حدّثنا عن أرضهم التي اغتصبها عمّه بعد وفاة والده، وعندما سألناه ماذا سيفعل؟ قال ساخرا: »سأضيفها إلى أراضي الأمّة المسلوبة«..
❊ ❊ ❊ ❊
نبّهني صوت قطار الثالثة ظهرا، وقطع عليّ شريط الذكريات الحلوة بطعم الشهد الجبليّ..
تأخرّ وضّاح عن موعده، مرّ العابرون ولم يكن منهم .. انتابني قلق وكأنّي لم أبرح السجن بعد..تكالبت عليّ الثواني واللحظات لتشكّل سحابة من الهمّ الثقيل تعتصر صدري وتكاد تطبق على أنفاسي..عاودني ذاك الشعور الغريب باليتم، وحين هممت بالهروب الى مرابع الطفولة حيث ينبت قبر ذلك الرجل الفقير المكابر، وصل وضّاح تبعثرت كلّ الكآبة وتلاشت كسحابة صيف كاذبة.. لم يتغيّر الشقيّ، فقط ازداد نحولا وسمرة وثباتا..
غريب أمر هذا الرجل لم تغيّر السنوات فيه شيئا، ما زال على عهدي به سريع الحركة متوثّبا عجولا. وكأنّه يدير عقارب الزمن في ساعة عمرنا الكسيحة.. تعانقنا طويلا، ضممته إلى صدري ..وبكيت بحرقة المنفي يعانق وطنا بعد فراق طويل.. حاول وضّاح أن يستجمع تماسكه المعهود ليبدو أمامي صلبا عابرا للمشاعر.. لكنّ دمعة منه سقطت فأشعلت حرائق من الشجن وصحار من الأحزان الثاوية في محّارة القلب وزمرّدة الروح.. مسح أحزانه.. واستأنف الحديث وكأنّه يحاول عبثا أن يمحو السنوات التي مرّت على افتراقنا..
تحدّث وضّاح:
وأخيرا تيقّنوا أنّك لا تصلح لشيء عندهم، فرموا بك خارج السجن..
لم أجبه كنت متشنّجا، ورغبتي في الشتم لا تقاوم.. حضور وضّاح جعلني أطلق العنان لغضب لطالما انحبس في صدري طيلة أيّام السجن ولياليه ..فلم يرد أن يفسد عليّ مواويل الشجن وطقوس الحزن..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.