وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    يتضمن "تنازلات".. تفاصيل مقترح الإحتلال لوقف الحرب    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    زيادة ب 4.5 ٪ في إيرادات الخطوط التونسية    جامعة التعليم العالي تؤكد تغييبها عن الإدلاء برأيها حول تنقيح القانون المنظم للتعليم العالي الخاص وتدعو إلى احترام مبدأ التشاركية    سجنان: للمطالبة بتسوية وضعية النواب خارج الاتفاقية ... نقابة الأساسي تحتجّ وتهدّد بمقاطعة الامتحانات والعمل    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    معرض تونس الدولي للكتاب : أمسية لتكريم ارواح شهداء غزة من الصحفيين    ''ربع سكان العالم'' يعانون من فقر الدم وتبعاته الخطيرة    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    سوسة: وزير السيّاحة يشرف على حملة تفقد لعدد من الوحدات الفندقية    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الذكاء الاصطناعي    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    عمار يطّلع على أنشطة شركتين تونسيتين في الكاميرون    توزر.. مطالبة بحماية المدينة العتيقة وتنقيح مجلة حماية التراث    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    الرابطة الثانية : نتائج الدفعة الأولى لمباريات الجولة السابعة إياب    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    أخبار الملعب التونسي ..لا بديل عن الانتصار وتحذير للجمهور    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من إنتفاضة العمّال بشيكاغو إلى قرار الأمميّة الثانية بباريس
غرّة ماي مابين سنتي 1886 و1889 بقلم د. عبدالله بن سعد
نشر في الشعب يوم 14 - 05 - 2011

من الأخطاء الشائعة عند الحديث عن انتفاضة العمّال بشيكاغو في غرّة ماي هو التأريخ لها بعام 1889 وقد دأب المكتب التنفيذي للإتحاد العام التونسي للشغل منذ سنوات على السقوط في هذا الخطأ وأعاد الكرة هذه السنة رغم تنبيهي إلى ذلك في السنة الفارطة حيث نقرأ في البيان الصادر بمناسبة غرّة ماي 2011 ما يلي: »يحيي النقابيون وعموم الشعب في تونس الذكرى المائة والثانية والعشرين لعيد الشغل العالمي» والصّحيح هو أنّ انتفاضة العمّال في شيكاغو حصلت في غرّة ماي من سنة 1886 وبالتالي فإنّنا نحيي الذكرى 125 وليس 122. فسنة 1889 هي السنة التي انعقد فيها المؤتمر الأوّل للأمميّة الثانية الذي قرّر أن تصبح غرّة ماي من كلّ سنة ذكرى يحييها العمّال في كلّ أنحاء العالم إجلالا وإكبارا لشهداء انتفاضة شيكاغو من ناحية ولمواصلة النضال من أجل تحقيق بقيّة مطالب الطبقة العاملة من ناحية أخرى.
لكن قبل التعريف بهذه المناسبة بأكثر اطناب ، لا بدّ من وضع أحداث شيكاغو في إطارها باعتبارها لم تكن حركة عفويّة ومعزولة عن النضال الفكري والسياسي والنّقابي الذي أرسى أسسه كارل ماركس وفريدريك أنجلس مؤسسي الاشتراكيّة العلميّة وخاصّة مؤسّسي الأمميّة الأولى سنة 1864.
❊ 1) الأمميّة الأولى ويوم العمل ذي 8 ساعات
مثّلت الرابطة الأمميّة للشغيلة أو الأمميّة الأولى أوّل منظّمة ثوريّة عالميّة للبروليتاريا.
ففي اجتماع عالمي دعا إليه كارل ماركس وفريدريك أنجلس وحضره العديد من العمّال الأنجليز والفرنسيين والألمان والبلجيكيين وغيرهم بمدينة اسانت مارتينز هولب بلندن للاحتجاج على قمع الثورة البولونيّة التي نشبت عام 1863 ، تأسّست الأمميّة الأولى يوم 28 سبتمبر 1864. وقد عيّن ماركس عضوا في المجلس العام وعضوا في اللجنة الدائمة المنبثقة عن المجلس العام ولفّ حوله بعض المخلصين من أعضاء المجلس أمثال السنرب وبدوبونب وبجرنغب وغيرهم للتصدّي لمحاولات بعض العناصر الإصلاحيّة أمثال امازينيب من أجل الاستيلاء على قيادة الأمميّة.
وقد تركّبت الأمميّة الأولى أساسا من الترديونيونات الأنجليزيّة أي المنظّمات الجماهيريّة الوحيدة للطبقة العاملة في انجلترا بعد انهيار الحركة االشارتيّة الحركة الشارتيّة ، التي كانت مطالبها موجزة بميثاق charte ، هي حركة جماهيريّة حقيقيّة اشترك فيها جموع العمّال البريطانيين وقامت بأعمال نضاليّة ومطلبيّة رائعة وقد دامت زهاء عشر سنوات من 1838 إلى 1848 .
كما كانت تتركّب من الجمعيّات العمّاليّة الفرنسيّة وخاصّة الباريسيّة التي كان لها دور بارز بقيادة افارلانب وبكاميليانب في أوّل تجربة ثوريّة فرنسيّة بإقامة سلطة العمّال من خلال كومونة باريس التي رأت النور في 18 مارس 1871. أمّا المكوّن المهمّ الثالث للأمميّة الأولى فهم العمّال الألمان عبر جمعيّة الشغيلة الألمان العامّة التي تأسّست سنة 1863 على أيدي افردينان لاسالب وقد كان لكارل ماركس دور بارز في انخراط الجمعيّة في الأمميّة الأولى . وفي أواسط سنة 1865 أنشأ أيضا فرع للأمميّة الأولى في بلجيكيا.
وهكذا وبعد تأسيس الفروع في البلدان المذكورة وسنّ النظام الداخلي للأمميّة، انعقد المؤتمر الأوّل في جينيف من 3 إلى 8 سبتمبر 1866 واشترك فيه 60 مندوبا يمثّلون 25 فرعا من انجلترا وفرنسا وبلجيكيا وألمانيا وسويسرا.
ورغم تخلّف ماركس عن حضور المؤتمر (بسبب انشغاله بتحرير مؤلّفه رأس المال) فإنّه أرسل مذكّرة إلى المؤتمرين تحت عنوان التبليغ إلى مندوبي المجلس العام المؤقّت حول مسائل شتّيب انتقد فيه بشدّة البرودونيينب الفرنسيين وباللاّساليينب الألمان الذين كانوا يلحقون ضررا جسيما بالحركة العماّليّة من ناحية وسطّر فيه برنامجا سياسيّا للحركة النّقابيّة العالميّة من ناحية أخرى.
وبعد جدال طويل ومناقشات ساخنة وافق المؤتمر على القرارات التي اقترحها ماركس والمتمثّلة خاصّة في التحديد الإلزامي ليوم العمل بثماني ساعات لجميع العمّال وتحديد خاص لعمل الأطفال وبحماية عمل النساء وإلغاء الضرائب غير المباشرة وغيرها من القرارات.
وهكذا كانت قرارات الأمميّة الأولى النبراس الذي أضاء طريق النضال أمام الطبقة العاملة في البلدان الرأسماليّة من أجل يوم العمل ذي 8 ساعات حيث أضرب عمّال المرافئ الأنجليز سنة 1866 وعمّال البرونز في باريس سنة 1867 وعمّال المناجم في بلجيكيا سنة 1868 وغيرها من الإضرابات.
على إثر ذلك تعرّضت الأمميّة الأولى إلى هجوم سياسي كبير لمحاولة ضرب التوجّه الثوري داخلها وتغليب التوجّه الإصلاحي الذي أصبح يقوده باكونين وغليوم.
وبانعقاد المؤتمر الخامس للأمميّة في لاهاي من 2 إلى 7 سبتمبر 1872 )وهو المؤتمر الأخير) انتصر الخطّ الثوري بنشر التقرير الذي أعدّه ماركس ولافارغ تحت عنوان احلف الديمقراطيّة الاشتراكيّة وجمعيّة الشغيلة العالميّة كما اقترح ماركس في نفس المؤتمر نقل مركز المجلس العام للأمميّة الأولى إلى أمريكا حيث كان يقود فرع الأمميّة هناك الاشتراكي الألماني أ. م . سورجب المقيم في مدينة نيويورك وذلك بغرض الحدّ من تأثير الخطّ الإصلاحي الموجود بقوّة في أوروبا. كما صادق المؤتمر على قرارات إجتماع لندن المنعقد في 1871 حول تشكيل حزب سياسي مستقل للبروليتاريا في كل بلد من البلدان يكون بديلا وعارضا للأحزاب القائمة.
إلاّ أنّ الأحداث والتطوّرات التي جدّت في أوروبا ومنها خاصّة الحرب الأنجليزية الإيرلنديّة التي اندلعت سنة 1867 والحرب الفرنسيّة البروسيّة سنة 1870 1871 وخاصّة إنهزام كومونة باريس أثّرت سلبا على عمل ونشاط الأمميّة الأولى وهو ما أدّى إلى حلّها سنة 1876. وقد كتب ماركس في هذا الخصوص متوّجها إلى أ. م. سورجب قائلا :»إنّي أرى من المرغوب فيه بصورة لا تقبل الجدل ، وبالنظر إلى الوضع في أوروبا نبذ التنظيم الشكلي للأمميّة إلى المؤخّرة بصورة مؤقّتة. فإنّ الأحداث والتطوّر المحتوم وتفاقم الوضع ، كلّ ذلك سيأخذ على عاتقه بعث الأمميّة بشكل محسّن«.
لكن رغم ذلك يمكن الجزم بأنّ الأمميّة الأولى حقّقت مهمّتها التاريخيّة حيث ساهمت في نشر الأفكار الماركسيّة لدى العمّال في البلدان الرأسماليّة. لقد كانت للأمميّة الأولى بحق أهميّة بالغة جدّا في تاريخ الحركة العمّاليّة العالميّة حيث كانت منطلقا لتكوين أحزاب اشتراكيّة عمّاليّة عتيدة: حزب العمّال الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام 1869 ، الحزب الاشتراكي العمّالي الأمريكي عام 1877 ، حزب العمّال الفرنسي عام 1879 وغيرها.
وقد كتب لينين متحدّثا عن الأمميّة الأولى: »إنّها لا تنسى وستكون خالدة في تاريخ نضال العمّال من أجل تحرّرهم. فقد وضعت أسس بناء الجمهوريّة الإشتراكيّة العالميّة الذي من حظّنا أنّنا نبنيه الآن«.
❊ ماذا حدث يوم غرّة ماي 1886؟
كما سبق وأن ذكرنا فإنّ إنتفاضة العمّال في شيكاغو لم تكن عفويّة ولا معزولة عن الحركيّة التي شهدتها الحركة النقابيّة منذ بداية القرن 19 حيث بداية تشكّل الوعي النّقابي والنضج الفكري والسياسي الذي ساهمت فيه بصفة مباشرة النصوص الأولى التي أصدرها ماركس وأنجلس حول النقابات والتي مثّلت النصوص الرئيسيّة التي ارتكزت عليها قرارات الأمميّة الأولى 1864 1872والسنوات الأولى للأمميّة الثانية قبل أن تنحرف 1889 1910 (أنجلس: وضع النقابات الكادحة في أنقلترا : سنتي 1844 1845 ، عناصر نقد للإقتصاد السياسي : سنة 1844 ، التضامن مع عمّال البلدان التابعة: سنة 1872 النقابات : سنة 1881 ، ماركس : تتويج المنظمات والمطالب الإقتصاديّة بهدف الإستيلاء على السلطة السياسيّة : سن 1864 ، أنظمة الأمميّة الشيوعيّة : سنة 1864 ، قرار الرابطة الأمميّة للشغيلة حول النقابات : سنة 1866 ، العمل التعاوني : سنة 1866 ، حول الطابع السياسي للنضالات النقابيّة : 1871 ، نقد الحدود النقابيّة : سنة 1874 ، النقابات والإضرابات : سنة 1868 ، إلخ)
وقد كان تأثير هذه الكتابات واضحا لدى أغلب القيادات النّقابيّة الأمريكيّة حيث بدأت الحركة النّقابيّة الأمريكيّة تقطع مع الفوضويّة النقابيّة والتريديونيونية الليبرالية الأنقليزية والانحراف اللاّسالي التي كانت طاغية قبل ذلك التاريخ وبدأت تعمل على تنظيم العمّال داخل نقابات في مختلف القطاعات من ناحية والدفاع عن مطالبها وحقوقها بكل نضاليّة وروح كفاحيّة من ناحية أخرى.
وقد توّجت هذه الحركيّة السياسيّة بأن قامت طليعة العمّال في أمريكا والتي كانت متواجدة بصفة خاصّة بمدينتي نيويورك وشيكاغو بتأسيس الحزب الإشتراكي العمّالي الأمريكي تطبيقا لقرار المؤتمر الخامس للأمميّة الأولى. وقد لعب هذا الحزب الذي لعب دورا طلائعيّا في تأطير النضالات وتأسيس النقابات وتكوين الكوادر النقابيّة .
وكان قرار المؤتمر الرابع للإتّحاد الأمريكي للعمّال (American Federation of Labor) ، حيث كان تأثير الحزب الإشتراكي العمّالي الأمريكي واضحا فيه ، المنعقد سنة 1884 والداعي إلى فرض يوم العمل ذي 8 ساعات في ظرف سنتين خير تجسيد لما ذكرنا بإعلان الإضراب العام يوم غرّة ماي 1886.
والسّؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا وقع الإختيار على غرّة ماي دون أيّ تاريخ آخر؟
إنّ إختيار هذا اليوم ليس إعتباطيّا ولا عفويّا بل هو يتزامن مع إنطلاق السّنة المحاسبيّة (L'année comptable) للمؤسّسات الصناعيّة بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وما يعنيه ذلك من رمزيّة مقصودة من طرف النقابات وكأنّها تقول بصفة غير مباشرة للبورجوازيّة الن تحقّقوا الأرباح على حسابنا.
هكذا إذا نفّذ إضراب عام في مدينة شيكاغو، حيث كان التأثير اليساري كما ذكرنا كبيرا على النقابات ، يوم غرّة ماي 1886 وقد شارك فيه حوالي 300 ألف عامل ولئن حقّق هذا الإضراب الشامل ، الذي حصل بدون مواجهات ، مطلب العمّال في يوم عمل بثماني ساعات لحوالي 180 ألف عامل من المهن الإنشائيّة ، فإنّ بقيّة العمّال واصلوا النضال خلال الأيّام الموالية لتحقيق مطلبهم المشروع.
فقد دخل عمّال شركة اماك كورميك هارفسترب (أكبر الشركات الصّناعيّة في شيكاغو) يوم 3 ماي في إضراب عام واجهته قوات البوليس بالحديد والنار وهو ما أدّى إلى سقوط 3 مضربين كانوا أوّل شهداء الطبقة العاملة الذين خطّوا بدمائهم صفحة مضيئة من تاريخ نضال الطبقة العاملة الطويل من اجل التحرّر والإنعتاق . وكانت لهذه الأحداث أثرها البالغ على كلّ عمّال شيكاغو الذين هبّوا للمشاركة في مظاهرة كبيرة يوم 4 ماي للتنديد بتدخّل البوليس وتنفيذ هذه الجريمة البشعة ضد العمّال بإيعاز من أرباب العمل. ومن جديد تقترف جريمة أخرى عبر مؤامرة بين أرباب العمل والبوليس حيث قام شخص مجهول بإلقاء قنبلة وسط المتظاهرين الذين كانوا ملتحمين مع البوليس فسقط العديد من العمّال وكذلك رجال البوليس وقد إستغلّت الطبقة البورجوازيّة الحاكمة هذه الأحداث لتحاول ضرب هذه الحركة الإحتجاجيّة المتصاعدة عبر إيقاف ومحاكمة العديد من القادة النّقابيين اليساريين.
فقد وقع الحكم على 3 قادة نقابيين بالسجن المؤبّد و5 آخرين بالإعدام بتهمة إغتيال رجال الأمن ورغم عدم كفاية الأدلّة فقد وقع إعدام هؤلاء العمّال شنقا يوم 11 نوفمبر 1886.
وقبل إعدامه قام القائد النقابي اأوغوستان سبايسب بتحدّي جلاّديه بقولة مشهورة كتبت فيما بعد على حائط مقبرة اوالدهايمب بشيكاغو حيث قال »سيأتي اليوم الذي يكون فيه صمتنا أقوى من الأصوات التي تخنقونها اليوم«.
ورغم القتل الوحشي والأحكام الجائرة لم تتمكّن البورجوازيّة من تحقيق هدفها المتمثّل في ترهيب العمّال وقياداتهم النّقابيّة بل لم تزد هذه التضحيات العمّال إلاّ تمسّكا بالنضال لتحقيق مطالبهم والدّفاع عن حقوقهم وكسر أغلالهم ونفض الغبار والذل والمهانة عنهم.
❊ ماذا قرّرت الأمميّة الثانية ؟
إنّ الأمميّة الثانية التي كانت تمثّل الإتّحاد العالمي للأحزاب الإشتراكيّة قد تشكّلت في عهد كانت الرأسماليّة تتحوّل فيه من رأسماليّة ما قبل الإحتكار إلى إستعمار. كما تزامنت أيضًا مع إنتشار الماركسيّة داخل الحركة العمّاليّة في غمرة النضال ضدّ شتّى التيّارات الإنتهازيّة.
فقد حاول ممثلو التيارات الإنتهازيّة في حزب العمّال الفرنسي (الإمكانيّون) وممثّلو الإتحاد الإشتراكي الديمقراطي في إنجلترا أخذ المبادرة لإنشاء الإتحاد العالمي للأحزاب الإشتراكيّة وبالتالي الإستيلاء على قيادة الحركة العمّاليّة العالميّة. وعند إدراك أنجلس لما يمثّله ذلك من خطر على الحركة العمّاليّة العالميّة ، عرض على الماركسيين الفرنسيين والألمان أخذ المبادرة لإنشاء الأمميّة الثانية وبالتالي قطع الطريق أمام الإنتهازيين والإصلاحيين.
ولتجسيد مقترحه نظّم الماركسيون مؤتمرا في باريس في 14 جويلية 1889 جرى في نفس الوقت الذي كان يجري فيه مؤتمر مواز عقده الإصلاحيّون. وفي الوقت الذي مني فيه مؤتمر الإصلاحيين بالفشل الذريع ، شكّل المؤتمر الذي نظّمه الماركسيون الأمميّة الثانية.
وكان لوجود أنجلس (في غياب ماركس المشغول بمؤلّف رأس المال) دور كبير في توجيه أعمال هذا المؤتمر من الناحية الفكريّة التي تميّزت بنضال حاد بين الماركسيين من جهة والفوضويين وبعض الإمكانيين الذين كانوا حاضرين في هذا المؤتمر والذين كانوا جميعا يعارضون وينبذون النضال السياسي من ناحية أخرى.
وكانت قرارات المؤتمر صفعة للفوضويين وحلفائهم الإمكانيين حيث إتّخذ جملة من القرارات المهمّة مثل ضرورة تعزيز الحركة العمّاليّة الجماهيرية وتشكيل أحزاب سياسيّة بغية النضال السياسي وإستيلاء البروليتاريا على الحكم وبيّن أنّ هدف الحركة العمّاليّة النهائي هو الاشتراكيّة كما قرّر المؤتمر مواصلة النضال في سبيل يوم العمل من 8 ساعات وفي سبيل زيادة أجور العمّال والغاء نظام الدفع عينا الذي كان سائدا. أمّا أهمّ قرار تاريخي إتّخذه المؤتمر الأوّل للأمميّة الثانية فهو الاحتفال السنوي بغرّة ماي وقرّر أن تنظّم الطبقة العاملة في مختلف بلدان العالم في هذا اليوم التظاهرات تحت شعار التضامن البروليتاري.
وتطبيقا لهذا القرار تظاهر العمّال في معظم البلدان الرأسماليّة في غرّة ماي 1890 تحت شعار موحّد ومطالب موحّدة وتواصل احياء هذه الذكرى المجيدة إلى يومنا هذا.
غير أنّ ما يجدر التذكير به هو أنّ تجذّر احياء ذكرى غرّة ماي في أوروبّا تسبّبت فيه مجزرة أخرى ارتكبتها البورجوازيّة عبر أجهزتها القمعيّة في مدينة فورميي الفرنسيّة.
ففي الوقت الذي خرج فيه العمّال في هذه المدينة الصناعيّة الموجودة شمال فرنسا يوم غرّة ماي 1891 في مظاهرة سلميّة قام البوليس بإطلاق النار على المتظاهرين فقتل من بينهم 10 عمّال وعاملات منهم 8 سنّهم أقلّ من 20 سنة وكانت إحدى الشهيدات )العاملة ماري بلوندو) تلبس يافطة بيضاء اللون وتحمل في يديها باقة ورد من زهور églantine.
ما دمنا نتحدّث عن فرنسا فانّنا نذكّر بأنّ العمّال لهم طقوسهم في الاحتفال بهذه الذكرى ففي البداية أي سنة 1890 كانوا يرفعون خلال المظاهرات مثلّثا أحمر اللون ذو أضلع متساوية وهو يرمز إلى تقسيم اليوم إلى ثلاث أوقات متساوية 8 ساعات للعمل ، 8 ساعات للراحة و8 ساعات للنوم. وبداية من سنة 1892 عوّضوا المثلّث بزهرة églantine التي كانوا يحملونها احياءا لذكرى العاملة التي سقطت في العام 1891 برصاص البوليس.
لكن منذ سنة 1907 أصبحت زهرة muguet ، رمز الربيع في باريس ، التي تكون ملفوفة بشريط أحمر اللون هي رمز غرّة ماي في فرنسا.
هكذا إذا مثّلت غرّة ماي بداية نضالات الطبقة العاملة في العالم فنظّمت الاضرابات والمظاهرات وقادت الثورات إلى أن تمكّنت من اسقاط القيصريّة الظلاميّة في روسيا سنة 1917 وأقامت أوّل سلطة عمّاليّة فأعلنت فورا إقرار يوم العمل ذي 8 ساعات وذلك بصورة قانونيّة واجباريّة .
ملاحظة أخيرة حول اقرار غرّة ماي عطلة خالصة الأجر ، فأوّل دولة في العالم أقرّت ذلك هي روسيا السوفياتيّة عبر قرار اتّخذه لينين في شهر أفريل عام 1920 بينما إنتظرت أوروبا أكثر من 20 سنة لاتخاذ هذا القرار وذلك بفرنسا في شهر أفريل 1941.
قابس في 1 ماي 2011
الهوامش:
1) ك. ماركس ف. أنجلس: في الحركة النقابية.
ترجمة طلال الحسيني وصونيا الخوري طعمة، دار الطليعة بيروت، 1975.
2) ف. إ. لينين: عن النقابات:
دار التقدّم موسكو 1989.
3) ي. باخ، أس، غالكين و ب ن بونوماريف: الامميات الثلاث (عن الموسوعة السوفياتية الكبرى).
ترجمة المحامي إلياس شاهين، دار الفارابي بيروت 1955.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.