ترتفع بعض الأصوات في الآونة الاخيرة لتطرح مسألة الهوية وكأننا نعيش حالة استعمارية او تفكّكا عرقيا أو اثنيّا وثقافيا صار من الضرورة اثناءها الهرولة الى طرح السؤال »من نحن؟«. انّ هذا السؤال أيّا كانت منطلقاته و»حسن نوايا« طارحيه وجهلهم الاكبر بحقيقة أبعاده وغاياته يعدّ من الاسئلة الباعثة على الاحراج بل الغرابة سواء في هذه المرحلة او في غيرها فهويتنا نعيشها كل يوم كما نعيش ثقافتنا ولعلّ من اطرف التعريفات للثقافة وهي تعدّ بالعشرات تعريف مفاده »انّ الثقافة هي ما يبقى لنا بعد ان نكون قد نسينا كل شيء« والمسألة واضحة لا تحتاج إلى تأويل او تدقيق او استقراء وتمحيص ذلك انّ هذه الثقافة ظاهرة في ممارساتنا اليومية ننهض بها وتنهض بنا دون ان نتساءل عن كيفياتها وتجلّياتها. لقد ظهرت أخيرا بعض القراءات لما حدث في المتلوي بصوفه نتاج اشتعال رماد بارد قديم هبّت عليه رياح النعرات القبليّة والعروشيّة التي اعتقدنا أنّّ تمّ تجاوزها خاصة أنّ المنطقة كلّها معروفة بشهامة أهلها وبنضالهم ضدّ المستعمر وببطولاتهم وبدورهم الفاعل في الحركة الوطنيّة دون ان نطرح بورقيبيّة هؤلاء او يوسفيّة أولئك وأيّا كانت اسباب هذه الصراعات التي خلّفت المآسي واللّوعة في قلوب التونسيين جميعهم فقد هدأت الامور وكان يجب ان تهدأ بعد تدخّل الحكومة وبعد ان كانت الكرة ترمي في ملعب »الكبّانيّة« أو في ملعب مراكز القوى من العهد السيء ذكره او لدى بعض المحسوبين على الاتحاد الجهوي للشغل ولكنّ تلك مسألة أخرى. ان المسألة التي تحرّك لها الشارع التونسي هذه الايام وما يزال هي قصّة الفيلم الحدث الذي اصطلح على ترجمة عنوانه ب »لا اللّه لا سيدي« أو »لا الله ولا سيّد« أو »لا اللّّه لا شيء« وهو الذي كان له الصدى الواسع والانتشار السريع في وسائل الاعلام التونسية والعربية والاجنبية وفي المقاهي والساحات العامة وعلى الارصفة وعلى الشواطئ وفي الجلسات النّسائيّة المسائيّة في الارياف النائية وفي المحطات وفي المترو والقطارات والحافلات وسيارات الاجرة وفي محطّات الوقود ودكان عمّي »حميدة« وعمّ »صالح« وكلّ أعمامي وأخوالي واخوتي واخواتي وبذلك حقق الفيلم نجوميّة ما كان يحلم بها »التيتانيك« أو »أبي فوق الشّجرة« أيّام زمان!! وقد صارت مخرجة الفيلم اكثر نجوميّة من »مارادونا« الذي سجّل هدفا يدويّا ممتازا أهّل منتخبه للمرور الموالي ثم الفوز ببطولة العالم في كرة القدم طبعا امام غيظ القارات كلّها وحسرة الانقليز وحقدهم على الارجنتين وطاقم التحكيم ومازالوا! فهل هي حريّة التعبير والحقّ في الاختلاف إلى درجة الخلاف على حدّ تعبير »درّيدا« وهو الاختلاف داخل الاختلاف ام هي ردّة للشعار القديم ومراودة باسم النّزعة الاحيائيّة لمقولة »خالف تعرف« والسعي الى كسب رخيص بصيغة الجمع ام هو ما اصطلح على تسميته بالمؤامرة والدّسائس لصالح هذه الجهة او تلك او لاثارة جهات معيّنة تتصوّر ان لها ثقلا في الساحة لا يُضاهى وتفخر بأموالها وعدد منخرطيها وتعدّ نفسها الوصيّة على الهويّة وعلى الدّين وهي المتكلّمة باسمه والساعية الى احتكاره؟ انّ من يعجز عن جلب اهتمام الاخرين بانجاز عظيم يمكن ان يثير اهتمامهم بالجري عاريا في ساحة عامّة. وكثر همّ الذين يدخلون التاريخ او مجموعة »غينس« على طريقتهم فهذا بطل في أكل أكبر كميّة من الديدان وهذا بقي مزطولاً مدة من منافسيه في بيت ثلجيّ بحجم صندوق ضيّق وخرج مقرورا مرتعشا كقرد مبلول تحت هتاف المعجبين وتصفيق المتيّمات بصاحب الانجاز العظيم وذاك افضل لافظي نوى البطيخ في مهرجان اعدّ للغرض! فهل نحن في تونس اليوم في حاجة الى »جرأة« من هذا القبيل من خلالها نطرح هذه القضايا المفتعلة التي تنسب خطأ الى اللائكية؟ وهل نحن نعيش حالة من الترف الفكريّ والمادي والفراغ الوجداني والخواء الروحي والتصحر الذوقي والانبتات التاريخي تشرع لنا طرح مسائل الالحاد والتباهي بها شارة حداثة عرجاء على صدورنا أو اقتناعاتنا او افلامنا وعناوينها الفجّة العنيفة الصادمة كما تتباهى فئات من مجتمعنا بأنّها تؤدي صلواتها وتعلن اختلافها في الهيئة والسّحنة واللّباس وتحرص في كلامها على التفخيم والغنّة والقلقلة والامالة والضغط على مخارج الحروف والخطاب مفرغ الدّلالة او يكاد؟ ان حرية التعبير مطلب اساسيّ وحقّ مقدّس به تكرّس انسانية الانسان ومواطنته وبه تقاس حضارة الشعوب وعقلانيتها ومنزلتها لكنّّه من نافلة القول التذكير بأن الحرية قرينة المسؤولية تلازم كل منهما الاخرى وتنبثق عنها وان الكلمة عقد واختيار و»في البدء كانت الكلمة« وانّ تاريخنا القريب يزخر بهؤلاء الذين حرّكوا البرك الساكنة في مجتمعاتهم وسعوا الى تقويض طمأنينة البله فيها عبر ابداعات حمّالة لفكر جريء يحثّ على الانخراط الفاعل في العصر وتعديل الساعة على منجزاته والمشاركة فيها بثقل نستحقه حتى لا نبقى مجرّد »لوحة فولكلورية لتسلية السّياح« ونجترّ جملة من الثوابت الوهمية بدعوى قداستها وقد لا يكون تحت القبّة شيخ اصلا. لقد كتب »طه حسين« العائد طازجا من فرنسا والمتشبّع بآليات البحث ومناهجه في جامعاتها كتابه »في الشعر الجاهلي« (1) في بداية عشرينات القرن الماضي متأثرا بالمنهج الديكارتي القائم على العقلانيّة والشك المنهجي والتخلي عن الافكار المسبّقة فطرح قضيّة انتحال الشعر الجاهلي ومدى صحّة نسبه حتى فهم من ثنايا الكتاب وفصوله انّ المؤلف يغمز الى الشكّ في القرآن فحوكم الكاتب لجراءته على المقدّسات وانبرت الاقلام الرسمية متصدّية لهذا »الملحد البغيض« الذي خدش مشاعر المسلمين ولوّث المؤسسة الدينية ورموزها وانصبغ بمقولات الكفرة وفلسفاتهم وصودر الكتاب ثمّ أفرج عنه لينشر بعد تنقيحه تحت عنوان جديد »في الادب الجاهلي«. ولاقى »علي عبد الرّازق« المصير نفسه تقريبا مكافأة له على كتابه الشهير »الاسلام وأصول الحكم« (2) الذي يفصل فيه بين الدين والدولة بل ينزع عن الخلافة الصبغة الدينية، وهو في الاصل قاض بمحاكم مصر الشرعة منذ 1915 تطرّق إلى البحث في تاريخ القضاء الشرعي فعاد به الى حكم الخلافة وتطرق إلى الخلافة والملك ولثورة المسلمين على الخلافة وللخلافة الاسميّة في مصر أيّام الظّاهر بيبرس ثمّ الجراكسة واخيرا العثمانيين والحقيقة ان المسكوت عنه او المضمر هو الرد على المؤسسة الدينية التقليدية التي تبارك توق الملك فؤاد إلى ان يكون خليفة للمسلمين اثر إلغاء »مصطفى كمال أتاتورك« نظام الخلافة في تركيا (3) فكان لابدّ ان يكون من المغضوب عليهم وان يجرّد من شهاداته العلمية وان يكون غرضا لسهام الرجعية والاقلام المأجورة. وقد حوكم الاستاذ »صادق جلال العظم« عن مقالات له صدرت في كتابه »نقد الفكر الديني« سنة 1970 لانّه في عرف جلاديه يبثّ الفتنة ويحرّض على النّعرات الطّائفيّة ويزدري الديانات السماويّة لكن »العظم« كان محظوظا اذ برىء من التّّهم الموجّّهة ضدّه وضدّ الاستاذ »بشير الدّاعوق« المدّعى عليه هو أيضا بوصفه النّاشر المشترك في الجريمة وبوصفه صاحب دار الطليعة ببيروت. وقد كان »الطاهر الحدّاد« تعرّض لهجمة شرسة من المتزمتين والرجعيين البائسين اوان صدور كتابه »امرأتنا في الشريعة والمجتمع« (4) حتى أنّ احدهم يكتب عن »الحداد على امرأة الحدّاد« ويندفع اخر متحمسا مدجّجا بالموضوعية والعقلانيّة ليكتب ما أسماه »دفعة على الحساب قبل أن يقرأ الكتاب«! ولعلّ من أواخر هذه المهازل السوداء ما تعرّض له الاستاذ »نصر حامد أبو زيد« من حملة شعواء ضدّّ وضد مجموعة من كتبه مثل »مفهوم النص« و»الاتجاه العقلي في التفسير« و»نقد الخطاب الدّيني« و»الإمام الشافعي وتأسيس الاديولوجية الوسطيّة« وغيرها لقد شهّر بالرجل في المساجد واتّهم بالردة والكفر إلى حد رفع قضايا ضدّه تطالب بتطليق زوجته منه لانّها لا تحلّ لكافر كلّ ذلك لانّ الرجل مارس الفكر باسم العقل والوعي والحريّة والسعي إلى قراءة التراث قراءة مسؤولة والحقيقة أنّ كتابات »أبو زيد« تدور »على ثلاثة محاور دراسة التراث دراسة نقدية ونقد خطاب الاسلام السياسي لانّه يحوّل الدين إلى مجرد وقود في المعارك السياسية والمحور الثالث هو محاولة تأصيل وعي علميّ بدلالة النصوص الدينيّة«(5). إن لهؤلاء التنويريين او النّورانيين الأبطال من الجرأة والصدق والوطنية والدراية ما به يقفون في مواجهة القيم المضادة فيفتحون الأبواب المغلقة ويدشّنون مسالك جديدة للمعرفة والنّضال والحريّة فاذا كان لهم تبعا لذلك ما يشفع لذكرهم واستمرارهم في ذاكرة الثقافة العربيّة فهل للفيلم الفضيحة ما عليه يستند من رؤية فكريّة صادقة وصريحة وما به يراود الخلود ويحظى بالذكر حتّى يلقى هذا الانتشار الاعلامي الكثيف ام هي مجرّد عاصفة في فنجان لم تبق منها سوى الادانة للمخرجة النّزقة والتشهير بوزارة الثقافة التي صرفت مئات الآلاف من الدنانير حتى يكون هذا الوليد المشوّه؟ وهل سيكون للصّراع او الحوار؟ بأسلحة خشبيّة من جدوى على تونس وابنائها بهذه »الابداعات« الباهتة وبالرّدود عليها ب »أجوبة« صفراء جاهزة في هذه المرحلة الانتقاليّة؟ انّ الطرح الواعي المسؤول لهمومنا الحارقة والمستجيب لطبيعة المرحلة هو الكفيل باستنفار الهمم لخدمة القضايا الوطنية الجادة في مختلف فروعها وانّ النقد العلمي الصارم الرافض للرّداءة وللشّطحات الهستيرية باسم الفنّ والحرية والابداع الفالصو هو وسيلة الاقلاع بتونس العظيمة الى المنشود الذي قامت الثورة من أجله اما النغمة النّشاز التي لا تلزم الا أصحابها فإنذار كاذب وشاهد ادانة ودلالة على التخلّف عن السّرب علاوة على أنّها علامة انعدام ذوق. ❊ كمال البلطي الهوامش: (1) صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 1926 (2) صدر سنة 1925 (3) ألغيت الخلافة في تركيا سنة 1924 على يد أتاتورك (4) صدر بتونس سنة 1929 (5) نصر حمد أبو زيد التفكير في زمن التكفير سينا للنشر الطبعة الأولى 1955 ص 23.