البنك الأوروبي لإعادة الأعمار وشركة خاصة يوقّعان إتفاقيّة تمويل مشروع للطاقات المتجدّدة بفريانة    سليانة: توقّعات بتراجع صابة حب الملوك في مكثر    570 مليون دينار لدعم الميزانيّة..البنوك تعوّض الخروج على السوق الماليّة للاقتراض    عاجل/ أمريكا تستثني هذه المناطق بتونس والمسافات من تحذير رعاياها    سيف الله اللطيف ينتقل الى الدوري الهولندي الممتاز    نابل: اندلاع حريق بمخبر تحاليل طبية    اليوم.. حفل زياد غرسة بالمسرح البلدي    إتحاد الفلاحة : كتلة أجور موظفي إتحاد الفلاحة 6 مليارات و700 ألف دينار    اغتيال قائد في سلاح جو حزب الله بضربة للكيان الصهيوني    مراسل قنوات بي إن سبورت "أحمد نوير" في ذمة الله    البرازيل تستضيف نهائيات كأس العالم لكرة القدم    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 17 ماي    القصرين: وفاة شاب في حادث مرور    سيدي بوزيد: وفاة كهل وزوجته في حادث مرور    قابس: عدد الأضاحي تراجعت هذه السنة    بعد تسجيل الحالة الرابعة من نوعها.. مرض جديد يثير القلق    مباراة الكرة الطائرة بين الترجي و الافريقي : متى و أين و بكم أسعار التذاكر؟    إسبانيا تمنع السفن المحملة بأسلحة للكيان الصهيوني من الرسو في موانئها    حريق بمستودع بين المروج 6 ونعسان    الخارجية : نحو إبقرام إتفاقية مع الدول الإفريقية بخصوص المهاجرين .. التفاصيل    هام/ مناظرة لانتداب 34 متصرفا بالبريد التونسي..    يصنعون ''مواد المسكرة محلية الصنع القرابا'' و يقومون ببيعها بمدينة أم العرائس    اتحاد الفلاحة: أسعار أضاحي العيد ستكون باهضة .. التفاصيل    عاجل : الكشف عن مصنع عشوائي لتعليب المنتوجات الغذائية و الأمن يتدخل    كأس أوروبا 2024: كانتي يعود لتشكيلة المنتخب الفرنسي    انتخاب تونس عضوا بالمجلس الوزاري الإفريقي المعني بالأرصاد الجوية    تونس : 80 % من الشباب ليس له مدخول    ذهاب نهائي رابطة ابطال افريقيا : الترجي يستضيف الاهلي برغبة تعبيد الطريق نحو الظفر باللقب    النائب طارق مهدي يكشف: الأفارقة جنوب الصحراء احتلوا الشريط الساحلي بين العامرة وجبنيانة    روعة التليلي تحصد الذهبية في بطولة العالم لألعاب القوى لذوي الاحتياجات الخاصة    محيط قرقنة اللجنة المالية تنشد الدعم ومنحة مُضاعفة لهزم «القناوية»    الجزائر تواجه الحرائق مجدّدا.. والسلطات تكافح لاحتوائها    نجاح الأسرة في الإسلام ..حب الأم عبادة... وحب الزوجة سعادة !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    خطبة الجمعة...الميراث في الإسلام    اعزل الأذى عن طريق المسلمين    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    الشرطة الفرنسية تقتل مسلحا حاول إضرام النار في كنيس بشمال غرب البلاد    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    التوقعات الجوية لهذا اليوم…    الاطاحة بمنحرف خطير بجهة المرسى..وهذه التفاصيل..    الصحة العالمية.. استهلاك الملح بكثرة يقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    تفكيك شبكة في صفاقس، تقوم ببيع محركات بحرية لمنظمي عمليات الإبحار خلسة    انتاج الكهرباء في تونس ينخفض بنسبة 5 بالمائة مع موفى مارس 2024    توقيع إتفاقية قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسّسة بنكية محلية لفائدة تمويل ميزانية الدولة لسنة 2024    الناطق باسم وزارة الداخلية: "سيتم تتبع كل من يقدم مغالطات حول عمل الوحدات الأمنية في ملف المحامي مهدي زقروبة"    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دفاعا عن المجلس التأسيسي والجمهورية الديمقراطية الاجتماعية
بقلم: الحسين فالحي
نشر في الشعب يوم 13 - 08 - 2011

يختلف المهتمون بالشأن السياسي في تقييم ما حصل بتونس في 14 جانفي 2011، فمن ناعت للحالة بالثورة، الى ناعت إياها بالانتفاضة، الى متحدث عن مسار ثوري.
ومن بين هؤلاء فريق يظهر التطاول على الآخرين، ويدّعي انفراده بصفة الثورية وقراءته الثورية للواقع التونسي.
ومشاركة منا في هذا الجدل القائم، رأينا ان نرد عليه معتمدين في ذلك منهجا يبدأ بتحديد من هو الثوري في علاقة بالحالة التونسية المتحققة بعد 14 جانفي 2011، وما يترتب عنها من استحقاقات.
فمن هو الثوري؟
الثوري في تقديرنا هو الذي ينظر الى الواقع في خصوصيته وفي صورته الموضوعية بعيدا عن الاسقاط والتعسف، ليحقق الوعي التاريخي المطابق له، فنتعامل معه من هذا الموقع متسلحا بأدوات التحليل العلمي، لانتاج معرفة أصيلة، متناسبة مع ذلك الواقع، نابعة منه، وليس ثوريا من يدّعي بالقول انه ثوري، بينما هو في واقع الأمر ليس مقلدا وصدى لغيره المبدع حقيقة لا مجازا، وشتان ما بين الاثنين، فالأول يحتهد والثاني يجترّ، الاول كادح والثاني كسول، خامل، وهل يستوي الكادح والكسول؟
حال الثاني هو حال من يستعير نظارة جعلت لغيره، ينظر بها، فلا يرى، وإن رأى فهو لا يرى المنظور اليه كما هو، بل ربما أوقعه ذلك في سوء التقدير المنظور اليه، فيسقط في مطبّ لم يكن يتوقعه.
وعليه، فان من الخطل في الرأي، اخضاع الواقع التونسي الى نظرية ثورية، صيغة منذ حوالي مائة عام، والتعامل معه بوصفات جاهزة، فالامر لا يستقيم بجميع المقاييس ونتيجة ذلك وخيمة لانها تفضي حتما الى الغاء ذلك الواقع واصدار أحكام في شأنه هي الى باب الاوهام أقرب.
لا خلاف في ان لينين قائد ثوري عظيم، لكنه صاغ نظريته الثورية ضمن سياق تاريخي محدد، صادرا في ذلك عما هو مهيمن من الظواهر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المؤثرة عالميا في ذلك الظرف، بحيث لم تستوعب كل ما هو خصوصي من التجارب والاوضاع خصوصا اذا أخذنا في الحسبان مبدأ التطور المتفاوت بين هذا البلد او ذاك.
وخير ما نستدل به على هذا الأمر، ما توجه به لينين نفسه من نقد صارم لمناهضي النضال البرلماني، وهذا قوله: »يقولون ان البرلمانية قد ولى عهدها تاريخيا« وهذا صحيح من ناحية الدعاية، ولكن كل واحد يعلم ان الشقة بعيدة جدا بين هذا الامر، وبين التغلب عليه عمليا، إن البرلمانية قد ولى عهدها تاريخيا من وجهة نظر التاريخ العالمي، أي ان عهد البرلمانية البرجوازية قد انطوى، وعهد دكتاتورية البروليتاريا قد بدأ، هذا ما لا جدال فيه، بيد أن المجال التاريخي العالمي يحسب لعشرات السنين، أما عشر سنوات أو عشرون سنة أسرع او أبطأ، فهي من وجهة نظر التاريخ العالمي توافد لا يمكن حسابها حتى بصورة تقريبية ولهذا السبب بالذات يكون الاستناد الى المجال التاريخي العالمي فيما يخص مسألة السياسة العملية خطأ نظريا في منتهى الرّعونة (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية ط. دار التقدم بموسكو ص 45).
فأن تكون ثوريا معناه ان تتغلغل في صميم واقعك وتنخرط في معمعان النضال به، لتدرك حقيقة ما يجري فيه عندها فقط يكون لتنظيرك معنى يرفعك الى منزلة الثوري المبدع.
وتبسيطا للفكرة نقول، ان تثوير الواقع لا يكون باستعارة نصوص ونظريات صاغها أفراد مبدعون لواقع غير واقعنا، وفي ظروف غير ظروفنا، وانما يكون بتمثل ذلك الواقع في صورته الموضوعية وابداع النظرية التي تناسبه، بالاستئناس بالمكتسبات التي خلّفها الفكر الثوري الانساني الخلاّق، أما عكس ذلك، فلن يفضي الا الى الانعزال والتقوقع واطلاق الشعارات الجوفاء التي لا تغني عن العمل في شيء.
ما كنت لأتطرق الى هذا الامر، مع الاعتراف انني لست من الراسخين في العلوم الثورية لولا ما قرأته في مقال بامضاء السيد عبد الله بن سعد الاستاذ الجامعي الباحث، نشرته جريدة الشعب في عددها 1135 الصادر يوم 16 جويلية 2011، تحت عنوان: »المطلوب منوال تنمية أم اختيارات اقتصادية جديدة لتونس الغد؟ القطاع الفلاحي أنموذجا (الحلقة الأولى)«.
حاول صاحب المقال ان يثبت ان ما حصل في تونس أخيرا هو انتفاضة لا ثورة، الى جانب تطرقه الى وجود خطين في تونس، ارتباطا بانتفاضة 14 جانفي واستحقاقاتها، خط ثوري يمثله صاحب المقال ورفاقه المخلصون للماركسية الليبينية ونظريتها الثورية الصافية، وخط اصلاحي تمثله جميع الاطياف السياسية الأخرى التي جعلت سقفا لها الحصول على موقع في المجلس التأسيسي المشكوك في أجواء انتخاباته أصلا، اي من نعتهم صاحب المقال بمغلبي »الموقع على الموقف« ملاحظا ما سيلحقه الانخراط في هذا التوجه الاصلاحي من افساد وحَرْفٍ لوعي الشعب والطبقة العاملة تحديدا حيث يقول: »نحن نرفض الدفاع عن السياسات الاصلاحية التي هي تمرير ممنهج لسياسة الامبريالية والبرجوازية في صفوف العمال والكادحين في القطر«.
إن ما قدمه صاحب المقال هو بمثابة رسم خط التباين بين الطرح الثوري المتشبث بالشرعية الثورية، فالطرح الاصلاحي المحسوب ضمن قوى الثورة المضادة، غير اننا وان اتفقنا معه في بعض الامور، فاننا لا نتفق معه في بعضها الآخر.
ما نتفق معه في التقييم الذي أبداه في شأن أحداث 14 جانفي في تونس وخاصة تأكيده ان ما حصل هو انتفاضة لا ثورة، ذلك ان مؤسسات النظام ظلت قائمة، من أجهزة قمعية، وادارة بيروقراطية فاسدة، وقوانين زجرية مجحفة، وكذلك ما يتعرض له المسار الذي أفرزته حركة 14 جانفي في محاولات التفاف عليه واجهاض له، والسؤال المطروح: لماذا لم تحقق الحركة أهدافها الثورية الوطنية، باسقاط النظام القائم وتصفية أسس الوجود الامبريالي في تونس؟ أيعود ذلك فقط الى خيانة الاحزاب ونزوعها الى المطالب الاصلاحيّة، أم الى أمر آخر كذلك؟ يتبين من كلام صاحب المقال انه يتبنى الرأي الأول، اذ ينحو باللائمة على الاحزاب التي اثرت الموقع »على الموقف« دون تسميتها، حيث يقول: لكن لومنا موجه الى من اختار مقولة: »الجمهور عايز كده« فهؤلاء »المهرولون« نحو المجلس، المغلّبون »الموقع على الموقف« والباحثون عن بعض المقاعد في مؤسسات الدولة في ما يسمى بالتداول السلمي على السلطة تحت مظلة الامبريالية، ساهموا بشكل مباشر في كبح جماح الانتفاضة كي لا تتحول الى ثورة، دون ان ننسى طبعا البيروقراطية النقابية التي لعبت دور مطفئ الحرائق.
ما يجب ملاحظته في هذا الشأن، أن القراءة العلمية المتأنية، لا تكتفي بهذ التسفير، فهناك اسباب موضوعية تجاهلها صاحب المقال، يمكن اجمالها في ان الثورة الوطنية الديمقراطية في تونس في منتصف جانفي 2011، لم تنضج ظروفها أصلا ولم تتهيأ شروطها الموضوعية واسبابها، باعتبار تأخر واقع الصراع الطبقي في تونس، ورجحان ميزان القوة لصالح النظام القائم واسياده الامبرياليين فالمسألة اذا ليست متعلقة بشهوة الاحزاب ورغباتها، مع الاعتراف بوجود احزاب اصلاحية فعلا، بقدر ما هي متعلقة بالشروط الموضوعية التي اشرنا اليها، ولنفترض ان الاحزاب غير الاصلاحية كانت مستعدة لدفع مسار الانتفاضة حتى تتحول الى ثورة، فهل كان بامكانها ان تعوض الجماهير في هبتها، تلك الجماهير التي تحركت بصورة عفوية تحت وقع الاحساس بالألم والظلم والتهميش في ظل حكم بن علي، لكن حماسها سرعان ما خبا لافتقارها الى الوعي الطبقي الحقيقي، والقيادة التاريخية القادرة على تأطيرها وقيادتها في اتجاه تحقيق أهدافها الوطنية والاجتماعية.
اذن التحليل في هذه النقطة يفتقر الى الدقة، بما انه ربط حالة الالتفاف على الانتفاضة بضيق أفق الاحزاب وخيانتها المبادئ الثورية التي يؤمن بها صاحب المقال »ثورة المهرولين الى المجلس التأسيسي« من يعنى بالتحديد؟ لقد استخدم كلمة »مهرولين« معرّفة دون تخصيص مما يبعث على الاعتقاد انه يقصد كل الاحزاب التي تبنت الانخراط في هذا الخيار، اي خيار المجلس التأسيسي، دون تمييز بينها وهذا غير مقبول من استاذ جامعي باحث، لأنه من غير المعقول حشر الجميع في سلة واحدة، ففي ذلك تجنٍّ على البعض، وأرى نفسي معنيا بتقديم توضيحات في هذا الخصوص بصفتي عضوا في الهيئة التأسيسية لحركة »الوطنيون الديمقراطيون«.
لا يخفى على متتبعي الشأن السياسي في تونس، ان حركتنا كانت من الحركات الدافعة في اتجاه تبني مطلب المجلس التأسيسي، في اعتصامي القصبة، وكان من الطبيعي ان تدافع عن هذا الخيار بعد ان تم اقراره والتوافق عليه، لا كهدف اقصى تنشد تحقيقه، وانما كمحطة على درب النضال في سبيل انجاز مهمة الثورة الوطنية الديمقراطية، ذات الافق الاشتراكي التي لم يتهيأ من اسبابها شيء يذكر كما أسفلنا القول وهي تعتقد راسخ الاعتقاد ان الدفع في هذا الاتجاه ليس التفافا على الانتفاضة من منطلق فهم محدد لهذه الحالة التي تحققت في تونس بعد 14 جانفي 2011، حيث ترى حركتنا ان انتفاضة الشعب التونسي قد فتحت أفقا ديمقراطيا حقيقيا، لم يكن موجودا قبل ذلك التاريخ لكن هذا الأفق بات مهددا من قوى الردة في المجتمع، وعليه فمن واجبها الدفاع عنه، أمام ما يتعرض له من تهديدات كثيرة بالاشتراك مع باقي القوى الوطنية والديمقراطية. دون ان يعني ذلك في شيء تنازلا عن المبادئ والاهداف البعيدة التي تؤمن بها حركتنا، فالمجلس التأسيسي والانتخابات الحرة المكرسة لارادة الشعب ليست تراجعا عن الثوابت التي تعتقدها الحركة، وتكون تراجعا لو أنها دعت اليها في ظل نظام سياسي اجتماعي أرقى، اي نظام تكون فيه السلطة بيد العمال وحلفائهم اما والحالة على ما وصفنا، فمن الرعونة وعدم الثورية، مقاطعة المسار الذي يشكل على الارض، وساهم في تشكيله ميزان قوى معين، بدعوى ان في ذلك تساهلا في المبادئ وتنكرا للنظرية الثورية، وهكذا وباسم ضرب من الهلامية الثورية الفاقدة جذورها في الواقع، تُزْدَرى مطالب السواد الاعظم من الشعب التونسي وتُرْمَى قوى وطنية ديمقراطية مناضلة بوصمة التآمر والخيانة والضلوع في مخطط المبزع والسبسي، أو لم يكن المجلس التأسيسي مطلبا رفعه المعتصمون في القصبة!؟
إن حركة الوطنيون الديمقراطيون تتعاطى السياسة على أنها فن الممكن والمتاح، ولذلك فالواجب يدعوها الى الانخراط في مطالب جماهير شعبنا والدفاع عنها، وهي تعلم كل العلم انها اثناء الممارسة النضالية ليست بمعصومة من الخطأ غير انها تمتلك الجرأة على نقد نفسها ومصارحة شعبها وتصويب مسارها.
واذا كانت قد رفعت بعد 14 جانفي مطلب الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية وهو الشعار الذي ازدراه صاحب المقال وازدراه من قبله السيد جمال الازهر في مقال له منشور بجريدة الشعب، فلإيمانها انه مطلب متقدم بالقياس الى ما كانت عليه تونس من استبداد ومصادرة لارادة الشعب واغتيال للحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية وبالاخص اثناء حكم بن علي الذي طالما تحدث عن النظام الجمهوري وقيمه وقوانينه ومؤسساته وعن الانتخابات الحرة والعطف على الطبقات الاجتماعية المفقرة المحرومة، لكن شيئا من ذلك لم يكن في الواقع، زيف في زيف، ففي عهده شاهدنا عصابات تحكم وتطوع القوانين خدمة لمصالحها وتزوّر الانتخابات، وتعتدي على الممتلكات، وتبيع الوظائف العمومية، وتجرد المعارضين من حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث لا نظام جمهوري، ولا قانون، ولا مؤسسات ولا مساواة اجتماعية، فهل يكون من الجرم وخيانة المسار الثوري، اذا رفعت حركتنا ذاك الشعار، تفاعلا مع نبض شعبنا الذي عانى لفترات طويلة من الاستبداد والظلم والقهر والحرمان من الحقوق؟
إن اقامة نظام جمهوري حقيقي، تكون السيادة فيه للشعب، عبر نظام انتخابي حرّ ويقوم على مؤسسات وقوانين تصون حقوق الافراد، سياسية كانت او اقتصادية او اجتماعية... مثل حق الشغل، وحق العلاج، وحق التعليم، بما من شأنه ان يرتقي بالمستوى المادي والمعنوي للسواد الأعظم من الشعب ويحفظ كرامة الفرد، خير ألف مرة من الحديث عن المبادئ الثورية معلقة في الهواء، وعن ثورة قد لا تأتي قريبا لتحل جذريا المشاكل القائمة، هل يجوز الحديث عن ارتداد في واقع الحال؟ كلا لأننا لم نكن نعيش في ظل نظام سياسي واجتماعي أرقى، وما قاله لينين في كتابه مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية، كفيل بتوضيح الموقف وتبديد الشبهات.
وعلى هذا الاساس فان ازدراء الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية يقول صاحب المقال: »فمن المطالبة باسقاط النظام، اصبح الحديث اليوم عن تأسيس جمهورية ثانية هي الجمهورية الديمقراطية أو الاجتماعية أو المدنية أو لست أدري ماذا! يصبح غير ذي معنى، بعد الذي قدمناه من الدلائل، وأمرا متجاوزا بحكم طبيعة الاشياء، وكذلك الشأن بالنسبة الى الموقف غير المتماسك الذي أبداه صاحب المقال بشأن المجلس التأسيسي، على اعتبار انه ازدراه في بداية تحليله ولام القائلين به لأنهم جميعا متهمون بالاصلاحية والتنازل عن المبادئ الثورية ليؤكد بعد ذلك انه ليس ضد الاصلاحات في المطلق، وانه سينخب الاطراف الوطنية والديمقراطية المترشحة لذلك المجلس، فمنطق التحليل عنده يفضي الى المقاطعة مادام القبول بالمجلس التأسيسي يكرّس انحرافا عن المبادئ الثورية وسقوطا في مخطط الامبريالية..!
من جهة اخرى نجد ان استخفاف صاحب المقال بمطلب الجمهورية الديمقراطية باعتباره من وجهة نظره مطلبا اصلاحيا ليبراليا، يعكس قلة وعي بما يحيط بهذا المطلب من تحديات ترفعه مرحليا الى مستوى المطلب الثوري، بوجود قوى سياسية ذات مرجعية دينية تدافع عن اقامة نظام اسلامي في تونس، على شاكلة الامارة والخلافة وتقيم لذلك الندوات، مما يمثل خطرا حقيقيا محدقا بالنظام الجمهوري والديمقراطية.
وصفوة القول، شتان ما بين الثوري، والمبشّر بالثورة، فالأول ينخرط في صلب الصراع ويحلل الواقع طبقا للقاعدة اللينينية »التحليل الملموس للواقع الملموس وتبعا لذلك يقيم الاوضاع، ويضبط المهام، ويرتبها ويتخذ القرارات في شأنها«.
أما المبشّر فهو الذي ينأى بنفسه عن الواقع، وان تعامل معه فباستعلاء وباحتكام الى قوانين ثابتة مسقطة يعتبرها هو ثورية، ولذلك هو لا يرى نفسه معنيا بالخوض في تفاصيل المطالب الجماهيرية الجزئية المباشرة، لانها تصب في نظره في خانة الاصلاحية، بينما المطروح عنده هو انجاز المهمة الثورية الاصلية، الكفيلة بحل جميع المشاكل حلا جذريا، فاذا رفعت الجماهير التونسية كما في واقع الحال، مطلب النظام الجمهوري والانتخابات الحرة، وحق العمل والحصول على دخل قار، أجابها تحت طائلة الخوف من السقوط في الاصلاحية ومخالفة المبادئ المجردة بأنه عليها ان تنتظر الثورة!
بقيت ملاحظة أخيرة: اذا كان السيد عبد الله بن سعد قد أمضى على المقال بصفته استاذا جامعيا باحثا فانه يترتب عن تلك الصفة لوازم محددة، من أهمها التحلي بالموضوعية وصفة التحري، وعدم التعميم والتنزه عن اطلاق احكام قطعية بشأن مسائل غير محققة من ذلك مثلا اعتباره التحالف الحاكم في تونس بيرقراطي، كمبرادوري، اقطاعي«، والسؤال الموجه اليه بصفته استاذا جامعيا باحثا: هل وصل الى علمه ذلك بانجاز دراسة ميدانية علمية جادة أثبت فيها المختصون وجود الاقطاع في تونس تؤيد ما ذهب اليه؟ واذا لم يكن هذا قد حصل، فان الامر يؤسس للتساهل في اطلاق احكام من تبعاتها التغليط، فالعالم يزل بزلته العالم وهذا أمر لا يَجْمُلُ باستاذ جامعي باحث!
وهكذا فالثوري يعتبر ألاّ سلطة للنص على الواقع، أما منتحل صفة الثورية فلا يرى حرجا في جعل النص اصلا والواقع فرعا وتابعا له ويخشى في هذا الحال ان تنتفي الحدود بين السلفي الحقيقي و »الثوري جدا«!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.