مرت أيام ولم يظهر قرود لشعب مدينة الباأوباب الفاضل. وقد استبطأه أبو مهل. فأرسل في طلبه. فجاءه مُثّاقل الخطوات مكسور الخطرات وقد كساه الخجل مما ألحقه بالشيخ أبي مهل من ضرر لمّا حرض عليه شباب المدينة. فهون أبو مهل الأمر عليه قائلا لا عليك. لقد خلصتني يا ابني من حمل قد أثقل كاهلي زمنا. فنحن الشيوخ لا يليق بنا الحكم ولا الحكم يليق بنا. فالواحد منا لا يصلح إلا أن يكون حكما لا حاكما .فقال قرود: ولكن كيف قبلته في البدء؟ فرد أبو مهل قائلا: لقد ألزمني مجلس المدينة به، ولكني اشترطت أن لا أحكم إلا في الصباح. فقال قرود: ولكن من يحكم في المساء؟ فرد قائلا: المدينة تحكم نفسها بنفسها. والخلق هنا لا يظلمون بعضهم بعضا أبدا. فقال قرود: أعتذر لك بشدة. فأنا قد خرجت صغيرا من مدينة الباأوباب الفاضلة. فلا أدري عن عدلها شيئا وقد خلتها مثل بلد العجائب. فقال أبو مهل: وهل هم ليسوا بالعدل الذي نحن عليه؟ فقال قرود: لا، إنهم يظلمون رغم قول ابن خلدون بأن العدل أساس العمران. وما يظلمون؟ يعتدون على بعضهم بعضا ويسرقون كذلك. وما يسرقون؟ يأخذون مال بعضهم بعضا في غفلة من بعضهم بعضا. ملاعين. مال زعطوط تسرقه مكا (1) لم أفهم قولك أيها الشيخ الجليل. يا ابني نحن لا نسرق بعضنا بعضا. ولكن القرد منا يجعل ماله في أعلى شجرة الباأوباب فتأتي البومة فتسرقه. فذهب ذلك مثلا بيننا. وماذا أيضا يا ابني؟ ويكذبون. وما يكذبون؟ لا يقولون الحقيقة ويغشون ويدسون ويكيدون ويتآمرون ويصلون ويبنون ويهدمون. ملاعين. أيبنون ويهدمون؟ نعم. ولمَ؟ ليمعنوا في السرقة أكثر. أجميعهم يسرقون؟ لا. بل النظام منهم هو من يسرق. النظام! ومن يسرق؟ يسرق الشعب. أوعندهم شعب. عندهم. لكنهم يحاربونه محاربة الأعداء ويصطادونه صيد الحمام والعصافير بسلاح لا يصنعونه. أوسكت الشعب عليهم؟ لا. لم يسكت. بل ثار. والتين والزيتون والباأوباب للحق معهم وللحق معك عندما ثرت علي. ملاعين. ملا عين ورب الباأوباب. ولكنك لست رجلا ظالما أيها الشيخ. ولكنكم إذا سكتم صرت مع الوقت ظالما متجبرا. لا تدعوا بعد الآن أحدا يمكث في الكرسي وقتا أطول من حول واحد. ولا تسكتوا يا ابني. هم سكتوا خمسين سنة. ولكن أين علماؤهم؟ البعض انشغل في الوظائف. والبعض عاش معزولا مقهورا. والبعض ندد وسكت. والبعض أصابهم الكلب. فاشتغلوا بالسياسة. أما العقلاء فظلوا يتفرجون. ولا يبحثون ولا يكتبون ولا يقولون الشعر؟ لقد انتهى العلم لديهم من وقت ابن خلدون والشعر من وقت أبي القاسم الشابي غير أنهم يتعلمون ليحصلوا على الوظائف. وفيهم منتحلو صفات كثر. فهذا فيلسوف مفكر وما هو بفيلسوف ولا مفكر وهذا دكتور فيلسوف وليس هو غير أسيتيذ في الفلسفة. وفيهم جماعة شغلها الشاغل الوعظ. وجماعة تقول إن أصل الإنسان قرد وتقدم الأدلة. معاذ الله يا ابني. فرغم الشبه بيننا وبينهم نحن براء منهم. أيعقل أن يخرج السارق من الأمين والطاهر من الملطخ والسليم من الممسوخ؟ صدقت أيها الشيخ الجليل. تالله إنهم لمسخ قرود. ولما أن رنّقت الشمس للغروب اعتذر قرود من الشيخ أبي مهل حتى يذهب للتطهر في النهر مما لحقه من لطخات في بلد العجائب. فدعا له أبو مهل بالتوفيق قائلا: اذهب. اذهب يا ابني. وفقت اليوم وغدا وبعد غد. ولا تعد أبدا لبلد العجائب. ❊ ثقيف الولهان (1) هذا مثل شعبي مغربي. وزعطوط هو القرد ومكا هي البومة. وواضح التخريج الشعبي الطريف في استنباط العبارات الساخرة. والبومة هي وحدها من يسرق ما يخبئه القرد في أعالى الأشجار