ترك «بوبر» النمسا مع ظهور النازية، واثناء الحرب العالمية الثانية التحق بوظيفة محاضر في كلية كانتربري، الكنيسة المسيحية بنيوزيلاند وهي البلدة التي شهدت تطورا في أفكاره، وكتب اثناء الهدنة في نصف الكرة الغربي كتابه المعروف «المجتمع المفتوح وأعداؤه» الذي عرض فيه وبطريقة منهجية، وجهات نظره السياسية التي سبق أن أشرنا الى بعضو منها. وبعد الحرب اتخذ بوبر من انجلترا موطنه حيث شغل منصب استاذ كرسي في المنطق والمنهج العلمي. بمدرسة لندن للاقتصاد، ثم تلقى وساما ورٌفِع الى رتبة النبلاء عام 1965 وكان لبوبر كتابات رئيسية منها: (1935) Logik der Forschung، والذي ترجم الى الانجليزية عام 1959، بعنوان منطق الكشف العلمي، وكتابه المعروف «المجتمع المفتوح وأعداؤه» (1945)، وكتاب «عقم المذهب التاريخي» (1957) الذي ترجمة الى العربية د. عبد الحميد صبره عام 1959، وكتاب «تخمين وتفنيدات: نمو المعرفة العلمية» (1963) وكتاب «المعرفة الموضوعية» (1972) وكتاب «العالم المفتوح» The open univers (1982)، وكتاب الواقعية وهدف العلم (1983)، كتب مؤلفه الاول اثناء سنواته المبكرة في فيينا، ولا يزال له تأثير واسع النطاق، ورغم حياة «بوبر» في فيينا في ايامه المبكرة، واهتمامه الفائق بالمسائل ما وراء العلمية، الا انه لم يكن مشاركا أبدا وبصورة مباشرة في اجتماعات دائرة فينا، ومع ذلك كان على اتصال ببعض اعضاء الدائرة الذين كان يجد تفاعلا بينه وبين آرائهم، كان اعضاء الدائرة كما سبق القول مهتمين بتأسيس محكم يمكن ان يساعدهم كما كانوا يأملون في التمييز الحاسم بين القضايا ذات المعنى والاخرى الخالية من المعنى، وذلك بغرض استبعاد الميتافيزيقا من البحث الفلسفي. وأطلقوا على هذا المعيار اسم «معيار المحقق». وكان بوبر، الشاب اليافع، مهتما بمسائل مشابهة لذلك الى حد ما، رغم انها لم تكن على اية حال مماثلة لها، فقد كان مهتما بوضع حد فاصل بين العلم والعلم الزائف peude science ويبدو أن هذا قد أدى الى اضطراب ما في ذلك العصر، لأن الوضعيين المناطقة اعتقدوا ان بوبر كان مهتما بمشكلة المعنى، في حين انه لم يكن مهتما بذلك ولكن سرعان ما كٌشِفت لهم حقيقة اعتقادهم الخاطئ. وكان العام 1919 هو العام الذي حضر فيه بوبر محاضرة لأينشتين في فيينا، وكان منبهرا بالمدخل الجديد في الفيزياء. وفي العام نفسه اعلنت البيانات الرصدية التي اجراها ادينجتون عالم الملك الانڤليزي، والتي بدا انها تدعم تنبؤات أينشتين المتعلقة بالانحراف الجاذبي للضوء. ولقد عقد بوبر مقارنة بين التنبؤات الجريئة والمحكمة التي أتت بها الفيزياء الحديثة، وبين الموقف الحاصل عليه من العلوم الثلاثة الشهيرة: النظرية الماركسية للتاريخ، والتحليل النفسي لفرويد، وعلم النفس الفردي لأدلر، فوجد ان هذه العلوم الاخيرة تحقق بوضوح في اجراء تنبؤات مصاغة بإحكام، ويمكن اخضاعها إلى اختبار تجريبي مباشر او غير مباشر فتنبؤاتها صادقة في كل الاحوال، في اي حادث وعكسه! ولذلك، فقد توصل بوبر في فيينا بين العامين 1919 1920 الى النتائج التالية. 1 من السهل ان تحصل على اثباتات او تحققات لكل نظرية تقريبا لو أننا بحثنا عنها. 2 قد يكون للاثباتات قيمة فقط اذا كانت نتيجة التنبؤات جريئة. 3 كل نظرية علمية حقة انما هي منع او حظر: فهي تمنع اشياء من ان تحدث، والنظرية التي تمنع اكثر تعد أفضل. 4 اما النظرية التي لا يمكن تفنيدها لا تعتبر نظرية علمية فعدم قابلية التفنيد ليس ميزة او قوة لنظرية ما، وانما هي على العكس من ذلك تماما. 5 كل اختبار أصلي لنظرية ما، انما هو محاولة لتكذيبها، او لتفسدها. 6 لا ينبغي ان نضع بيّنة الاثبات في الاعتبار الا عندما تكون نتيجة لاختبار أصلي للنظرية، وهذا يعني انها يمكن ان تقدم بوصفها ذات أهمية، بيد أنها محاولة غير ناجحة لتكذيب النظرية. 7 عندما يكتشف بعض النظريات المختبرة لصورة أصلية، ولا تزال النظرية العلمية بعيدة عن التطبيقات التجريبية للنتائج المشتقة منها ويتفق بوبر مع القول بأن الحقيقة تتطلب تطابق القضايا او النظريات مع الواقع، لكنه يذهب الى ان هذا التطابق متعذر مبدئيا، ولذا فان ما يجوّزه العلم ليس حقائق بل فقط آراء العلماء، وقناعاتهم، وهو يرى ان الحقيقة، يقينية النظرية العلمية مثال أعلى كاذب، وأنها مجرد فكر تنظيمية توجه فكر العالم، صحيح ان بوبر يسلّم بأنه على مستوى المعرفة العادية يمكن للناس ان يتفوهوا بحقائق فعلية، ولكنه يؤكد ان مثل هذا النوع من الحقائق لا يمت بصلة الى مضمون العلم. فالعلم يتعامل مع نظريات، والنظريات كما يقول معرّضة دوما للتكذيب، ومعرضة بالتالي للنقد والدحض دوما، وأحسن النظريات هي النظرية التي دحضت، ذلك لأنها أخلت المكان لنظرية جديدة، بحيث يمكن للعلم، ان يسير الى الامام بلا نهاية، وان تتطور بالتالي المعرفة العلمية، وعلى هذا النحو ينتج ان المعرفة العلمية كلها تتميز عن المعرفة العادية بأنها ذات طابع افتراضي. وعلى اية حال فقد أدرك بوبر ببصيرة نافذة ومثمرة في تلك المرحلة انه حتى اذا لم يكن من المستطاع التحقق من الفروض العلمية، فمن الممكن مع ذلك بيان انها كاذبة (وأنها تختلف عن الفروض الميتافيزيقية)، ولأن هذا الرأي قد كان له تأثير قوي، ولانه بالنسبة الى الكثيرين مازال يحمل المنهج الحديث، يتعين علينا ان نفحص أسسه المنطقية. في المنهج الفرضي الاستنباطي hypothético deductive يكفي ان نتخذ كنقطة بداية تنطلق بها كمنهج الاستناد الى فرض بوصفه «أي عبارة تستخدم كمقدمة» فالتضمنات المنطقية لها قد تختبر بالمقارنة مع وقائع ايّدتها الملاحظة ورغم ان المنهج في الاصطلاحات العلمية الحديثة يتصف بأنه فرضي استنباطي الا انه ينبغي النظر الى عملية اختبار مؤيدوها يدعمونها بإدخال فرض اضافي Auxiliary assumption مثلا، او بتفسيرها بطريقة تجنبها التفنيد، فمثل هذا الاجراء يكون ممكنا دائما لكنه ينقذ النظرية من التفنيد فقط، ولا ينقذها من انخفاض مكانتها العلمية. ويقول بوبر في هذا باختصار: إن المعيار الذي يجعل النظرية تتصف بأنها علمية هو قابليتها للتكذيب او التفنيد او الاختبار، وليس قابليتها للاثبات ويخبرنا بوبر في العام 1923 انه قد اصبح مهتما بمشكلة الاستقراء، منطلقا في ذلك كغيره ممن سبقه من كتابات هيوم فأعلى قبوله لدحض هيوم للاستدلالات الاستقرائية، بيد انه لم يكن راضيا عن التفسير «السيكولوجي» الذي قدمه هيوم لتعليل ميلنا المزعوم إلى إجراء وقبول الاستدلالات الاستقرائية، وأكد بوبر على ان فلسفة العلم في عصره (الايام الاخيرة في اتجاه «مل»مثلا، أو كتابات الحركة الوضعية المنطقية) كانت مستندة الى صحة الاستدلالات الاستقرائية ولذلك فقد انتهى بوبر الى ان فلسفة العمل قد وصلت بسبب التراث التجريبي الى طريق مسدودة، وان الوسيلة الوحيدة لوضع الامور في نصابها هي ان نقلب النسق الكلي رأسا على عقب وذلك بأن نجعل العلماء يتجهون الى اختبار نظرياتهم والبحث عن الأمثلة التي تكذبها، أكثر من البحث عن الامثلة التي تحققها او تدعمها او ما الى ذلك، ويقول في ذلك: «لا أعتقد أن النظريات العلمية ليست سوى مجموعة من الملاحظات، وانها هي اختراعات، تخمينات تواجه محك الاختبار بجرأة يتم استبعادها اذا تعارضت مع الملاحظات. ويميز بوبر بين أربعة أبعاد في أية نظرية علمية: الأول من ناحيتها المنطقية، وذلك بمقارنة منطقية للنتائج فيما بينها لتثبت من التكوين الداخلي، والثاني البحث في الشكل المنطقي للنظرية العلمية فيما اذا كانت ذات طبيعة تجريبية او تحصيلية Tautological والثالث، مقارنتها بالنظريات الاخرى لمعرفة ما اذا كانت تقدم حقا نتائج تزيد من المعرفة العلمية، والرابع، اختبار الفروض العلمية هذه، بالمعنى الاوسع، باعتبارها استقرائية، ونعني بهذا انه عندما يختبر ويقبل فرض من الفروض (أعني ألا يكذبه فالبينة على قبوله لا تستنتج استقرائيا، كما هو الحال في الحجة الرياضية (التكرارية) مثل : س2 ص2 = (س + ص) (س ص) وانما تقدم البينة بالاحري اثباتا استقرائيا اكثر أو أقل قوة فحسب، وهكذا فان صحة المعرفة العلمية، بالمعنى المنطقي: تكون اقل من معرفة الاستنباطية وان عملية النمو المطردة للمعرفة العلمية تتم بطريقة المناقشة النقدية للنظرية (أو النظريات) العلمية واستبعاد الخاطئ، منها. ولأن بوبر كان متأثرا ضمن اشياء اخرى بالنظرية الداروينية للتطور، كما يتضح ذلك بصورة خاصة في كتابه «المعرفة الموضوعية» (1972)، ومقالته «عقلانية الثورات العلمية» (1975)، فقد اعتقد بوبر ان كل شخص مزود بتوقعات فطرية معينة، تبني صورة صادقة اكثر من العالم بواسطة المحاولة بواسطة التخمين والتفنيد، ويقول في ذلك: «لقد افترضت ان التقدم في العلم، او الكشف العلمي، انما يستند الى التهذيب والانتخاب الى قصر رجعي أو تقليدي او تاريخي، والى استخدام ثوري للمحاولة والخطأ عن طريق النقد، والذي يشتمل على فحوصات او اختبارات امبيريقية قاسية، والتي تعد محاولات للكشف عن الضعف الممكن للنظريات، محاولات تفنيدها. ولقد واجهنا بالفعل استخدامات مختلفة للمماثلة بين تطور الافكار وتطور الكائنات العضوية الحية عند فلاسفة العلم في القرن التاسع عشر أمثال بيرس وماخ، ولقد استمرت هذه المماثلة مستخدمة من قبل عديد الفلاسفة، ربما بصورة صارخة عند ستيفن تولمان وبوبر واحد من عديدين يجدون مماثلة بيولوجية مفيدة في الابستيمولوجية على اية حال يعتبر منهجٌ العلم عند بوبر منهجَ التجربة واستبعاد الخطأ: إنه منهج طرح فرضيات إجرائيّة، يجب إخضاعها للنقد الصارم بهدف الكشف عن أخطائنا وضلالاتنا. وفي أواخر الستينات طرح بوبر نظرية «العالم الثالث» «العالم الأول» عنده هو عالم الاشياء أو الموضوعات الفيزيائية و «العالم الثاني» هو ميدان التجربة الذاتية، ميدان الأحاسيس والأفكار اما «العالم الثالث» فهو عالم الاقوال والنظريات والمشكلات والاحكام النقدية ومضمونها بالمعنى المنطقي، ان العالم الثالث كما يقول بوبر هو من صنع الانسان، ولكنه يغدو فيما بعد مستقلا عنه، لأنه ينطوي على الكثير من الاشياء غير المتوقعة، من الاشياء التي لا تشكل نتائج نشاط الناس الهادف، ففي سلسلة الاعداء الطبيعية يكتشف الانسان الكثير من التي لم يكن يعرف بها، ولم يكن في مقدوره ان يتنبأ بها. وكافة صفات الاشياء الطبيعية وخصائصها يجب ان تكتشف على النحو الذي تكتشف عليه الظواهر الفيزيائية الجديدة، «العالم الثاني» يتفاعل مع «الأول» والثالث يتفاعل مباشرة مع «الثاني» (وعبره فقط). كان تأثير كارل بوبر على القرن العشرين قويا الى حد بعيد، وذلك بتشديده على الحاجة الى فحص نقدي للأفكار، كما كان له تأثير قوي على الجماعة العلمية، حيث ان دعوته العلماء ان يبحثوا عن تكذيب أفكارهم اكثر من التحقق منها لم يمض دون انتباه، وايضا الخط المقترح لوضع الحدود الفاصلة بين العلم الحق والعلم الزائف، قد كان له أثر مفيد، اضافة الى انه مهد السبيل للاهتمام الحالي سوسيولوجيا العلم و اعني بالابستيمولوجيا المستندة الى مبادئ سوسيولوجية. ومع ذلك لم يسلم تكذيب بوبر من سهام النقد، فالزعم بأن النظريات التي يمكن تكذيبها هي فقط التي تؤلف العلم الحق، هي ذاتها ليست بلا مشكلات اذ ان الكشف عن «نعامة» يكذب بالضرورة الدعوى البسيطة بأن «كل الطيور تطير» وذلك على مستوى المنطق، لكن عندما نمضي الى العلم الحق، فالموقف يكون اكثر تعقيدا بما لا يمكن ان يقاس، لان كل تقرير يجري فه ملتزم بالركون الى فروض مساعدة كثيرة، فلو أجريَ التنبٌّؤٌ على اساس نظرية علمية حقة برهن على كذبها، فلن نستطيع ان نتأكد أبدا حتى منطقيا، اذا كانت النظرية أو (الفرض المساعد) كاذبة أم لا. (يتبع)