الإهداء: الى روح صديقي الاشتراكي المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون الذي توفي منذ يومين وهو المناصر للقضايا العربية والفلسطينية خاصة رغم المعتقد اليهودي الأصلي له المتخلي عنه برهانا منا على انسانيتنا. تناولت بالبحث في هذا المقال السريع «الوضعية» المنطقية المعاصرة او كما تسمى ايضا «الوضعية التحليلية» عند د. زكي نجيب محمود ومحاولة تطبيقها على التراث العربي الاسلاميقصد الخروج من ازمة التخلف الحضاري والثقافي في الوطن العربي باقتراحه لإبداع «فلسفة عربية» تربط بين «السماء والارض». في حين ان «الوضعية التحليلية» لا تعترف بالعلو او التجاوز فهي ليست الا تبريرا للواقع القائم في الوطن العربي اذ هي فلسفة تلفيقية بعيدة كل البعد عن إحداث اي تغيير في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لأن همها الوحيد تحليل عبارات اللغة وخاصة اللغة العلمية مدعية في ذلك انها فلسفة «علمية». وتكون مزودجا» على حد تعبير ماركوز، اوله عزل الفكر عن الواقع وهو وثيق الصلة به وملتحم معه، وثانية الغموض والإبهام اللذان سقطت فيهما عكس الوضوح الذي تطمح اليه باعتبارها عدوة الفكر العلمي واذ ادعت انتسابها الى العلم. اذ مهمة الفلسفة النقد والتأسيس حتى في الحالات التي تبدو فيها منطوية على نفسها كما هو التيارات المثالية حيث كانت نوعا من تحرير الانسان من الداخل على المستوى الفكري الخالص قصد تعبيره نحو الأفضل وهذا يعد هروبا من الواقع فالفلسفة هي جزء من الواقع الذي انبثقت منه مهما كان تجريدها. «فالوضعية المنطقية المعاصرة» فلسفة متقوقعة في الخاص والجزئي والفردي وتنكر العام او الكلي فهي قمة الاتجاه الايديولوجي المستسلم للصورة دون المضمون تاركة الحياة تسير بصورة تلقائية كامتداد للماضي فكيف لها، إذن، ان تغيّر الواقع عامة والواقع العربي خاصةوان ادعت العقل والعقلانية والتحديث وبناء «فلسفة عربية». لقد نشأت الوضعية المنطقية كما وضحنا في ثنايا الكتاب في جامعة فيينا (بالنمسا) على اثر تولي مورتس منصب استاذية الفلسفة فيها وقد كان في الأصل عالما طبيعيا وليس فيلسوفا حصل على الدكتوراه في موضوع «انعكاس الضوء على وسط غير متجانس» التفّ حوله جماعة علم واصدروا 1930 مجلة فلسفية ثم امتد تأثيرهم خاصة الى انقلترا حيث درس الدكتور زكي نجيب محمود وامريكا. وفي الحقيقة ان اساس الوضعية المنهج التجريبي الذي نادى به لوك وهيوم ومؤداه ان الادراك الحسّي هو السبيل الوحيد للمعرفة العلمية فما لا تدركه الحواس هو ببساطة غير موجود ومن هنا جاء اهتمام «مدرسة ينا» بالبحث في دلالة اللغة وتركيبها «بحيث يكون المعنى الوحيد في تحديد معنى كلمة معينة هو الشيء الذي جاءت الكلمة لتسميته». من خلال هذه الفلسفة التي تؤمن بالثبات وتنكر التغيّر اراد الدكتور زكي نجيب محمود «تجديد الفكر العربي» فخانته فلسفته فادمجها مع البرغماتية وسقط في تناقضات لا حدّ لها ذكرتها في كتاب عنه مع فهم اجرائي لمفهوم العقل والعقلانية وتقسيم الحضارة الانسانية عنده الى شرق فنان «بطبيعته» والخير كل الخير في ضمّ بعض من هذا وبعض من ذاك للنهضة العربية المرتقبة التي تقوم على الاصالة و»المعاصرة» ولم يعرف ان التراث له سياق اجتماعي تاريخي بل يجب ان نستبدل ذلك بمشاركة الانسانية في الابداع وصنع الحضارة. فعند زكي نجيب محمود لا سبيل لفهم قضية اخبارية الا بردها الى الوقائع المادية الخارجية فاذا لم نجد لها في هذه الوقائع ما يقابلها حذفناها من جملة الكلام المفهوم لأنها مادامت إخبارية فلا بدّ لكي نفهمها من ردّها الى الواقعة المادية التي جاءت «القضية» (بلغة المنطق) او «الجملة» باللغة المتعارف عليها لغويا (كتابه: «نحو فلسفة علمية») ما عدا الالفاظ البنائية «اذا» «ليس» «اذ».. و»... الخ التي تشير الى مضمون الخبرة الحسية المتعارف عليها ولما كان وضع الامور في عالم الواقع هو وحده مجال البحث العلمي اطلق على النظرية العلمية اسم الوضعية فإن الوضع الذي يشغل الباحث عبارة عن عبارات اللغة او لفظة من ألفاظها كانت «الوضعية» «المنطقية» فاشتق من ذلك «الوضعية المنطقية» كاسم لهذه الفلسفة التي يحلو للدكتور زكي نجيب محمود رحمه الله ان يسميها ب «الوضعية التجريبية» ان التحقيق التجريبي هو مدار دلالة الكلام على معنى. يعتبر «لود فيغ فتجنشتين» (1889 1951) من فلاسفتها نشر في 1922 كتابه «رسالة منطقية» وعنده تكون جميع الاقوال الميتافيزيقية اشباه قضايا لأن اقوالها لا هي بالتجريبية ولا هي بتحصيل الحاصل ولكن اذا كانت اللغة ناقلة الفكر وانها تهدف الى تقرير الواقع وهو ما تحققه عن تصوير هذه الوقائع فلابدّ لها ان تكون شبيهة من حيث البنية بما جاءت لتصوّره هذه المقولة القبلية الميتافيزقية اذ لا يمكن اثباتها بالتجربة الحسية وهي مع ذلك اساس فلسفته كلها، اذ في هذا حرج واضح، وان صحت فلسفته فهي ليست فلسفة صحيحة فاعتزل فلسفة الوضعية المنطقية وسكت فكان فيلسوفا شجاعا لأنها هراء لا معنى له. وأخيرا نسأل الوضعيين المنطقيين هل يمكن دراسة ظاهرة اجتماعية في المخبر مادامت لا تؤمن الا بالمخابر من اجل التحقق التجريبي.