قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جرائم ضدّ الإنسانية وسرقات الطرابلسية وتواصل الانتهاكات بعد ثورة الكرامة
جربة في خطر
نشر في الشعب يوم 11 - 02 - 2012

لإدراك حجم الأخطار التي تتهدّد جزيرة جربة، علينا النبش في تاريخها الضارب في أعماق الحضارات الانسانيّة المتعاقبة كالاغريقيّة والفينيقيّة والقرطاجية والنوميدية والرومانية والبيزنطية، وخاصّة ما تركته للإنسانية قاطبة من ثقافات ومعمار وتراث وما شكلّته من بُنًى ذهنية وسلوكية في المخيال الجمعي لأعداد كبيرة من الغزاة والمضطهدين والمغامرين والتجار والدول والأمصار المتعاقبة على أكبر جزيرة في تونس وأثراها جغرافيا وتاريخيا وثقافيا...
? قارية ومتوسطية
إنّ هذه الجزيرة القارية المتوسطية الواقعة في خليج قابس بين خطي العرض 33 درجة و30 دقيقة و33 درجة و60 دقيقة شمالا وخطي الطول 10 درجات و40 دقيقة و11 درجة شرقا، لا يفصلها عن القارة سوى 5 ،2 ثمّ في مستوى أجيم في الجنوب الغربي، حيث أصبحت مرتبطة بالقارة منذ العصور القديمة عبر الطريق الرومانية التي تمتد داخل البحر بنحو سبعة كيلومترات!
وجربة التي تمسح 514 كلم2 تمثّل أكبر جزر الضفة الجنوبية للبحر المتوسط والرّابط بين القارات الثلاث للعالم القديم (افريقيا أوروبا آسيا)، وهذا ما جعل روابطها القارية متينة خلال فترات طويلة يصل مداها إلى حقبة الحضارة القبْصيّة ما بين (7000 5000 ق.م).
? أجيم والطريق الرومانية
ولئن انفردت هذه الجزيرة عن بقيّة الجزر الأخرى بقربها من الصحراء الكبرى ممّا أهّلها لتكون همزة وصل بارزة بين الأساطيل التجارية المتوسطية والقوافل التجارية الصحراوية على امتداد آلاف السنين، فإنّ سواحلها المرمريّة الممتدّة بطولها على نحو 125 كلم تتميّز بدورها جنوبا بثلاث ألسنة أو رؤوس من الغرب والشرق وهي رأس أجيم ،تاربلة وبين الوديان.مثلما تُصنَّف سواحلها الشرقية وشمال شرقية إلى رملية وحجرية خاصة على مستوى غربي حومة السوق وفي جنوبي الجزيرة ووَحْلِيّة في الأماكن المحميّة بواسطة رؤوسها.
ويصل جربة بعرض البحر قنالان: قنال أجيم غربا وقنال الطريق الرومانية شرقا.
ولئن يستبعد الأستاذ فؤاد الرّايس في كتابه «أيّام جربة وأهاليها» تحديد تاريخ دقيق لبداية استقرار الانسان على أرض الجزيرة، لكن بعض الوثائق التاريخية تؤكد الجذور «اللوبية البربريّة» حيث كان الشاعر الاغريقي «هوميروس» أوّل من كتب عن هذه اليابسة التي تطوّقها المياه من كلّ جنباتها، متحدّثا عن لسان أوليس الذي دفعته عاصفة قوية إلى سواحل الجزيرة (في ق الثاني ق. م) واصفا أهلها «بالمسالمين والكرماء».
ويبدو أنّ هاته الميزة قد تحوّلت من ذلك التشكل للبنى الذهنية والنفسية والسلوكية الى «كروموزومات» داخل اللوحة الجينية للجرابة الأمس واليوم...
ولئن تأبى الكتابة الصحافيّة الغوص في تمفصلات دقيقة وثنايا معقدة في الحضارات المتعاقبة على هذه الجزيرة، فإن سلمها الزمني المنطلق من مرحلة ما قبل العصر القرطاجي مرورًا بالعصر القرطاجي، فالعصر النوميدي، فالعصر الروماني، فالمرحلة المتفرعة بجزئيها الوندالي والبيزنطي وصولاً الى العهد الاسلامي وما تولد بعد ذلك من مخاض وصراع محتدم بين العثمانيين والاسبان، فإنّ المواقع الأثرية القديمة المكتشفة والمهدّدة اليوم بالسرقات والاعتداءات والنهب، تقيم الدليل على وزر ما يجري راهنا من جرائم ضدّ التراث الانساني ومخياله الجمعي، من هنا ارتفع صدى صيحات الفزع والذعر التي أطلقتها جمعية صيانة جزيرة جربة وجمعية جربة الذاكرة ومن ورائهما جمهرة النخب والباحثين والمثقفين والصحافيين والمؤرخين والنشطاء الحقوقيين والنقابيين «» حيث لم يعد الحاضر ينبئ بمستقبل واعد للجزيرة، بل أصبحت مجريات الجرائم المقترفة تهدّد ما تركته العصور البونية والقرطاجية والنوميدية والرومانية والوندالية والبيزنطية من آثار واسهامات للانسانية وجربة اليوم مهدّدة في سواحلها وموانيها مثلما هي مهدّدة في رمالها وتربتها وأراضيها وأحواشها وفي مخزونها التراثي والحضاري الانساني والجغرافي...
وحتى في أهمّ مقوّمات حياة أهلها وهو الماء صيحات الفزع لا تتعدّى البحار. صيحة الفزع التي أطلقتها الجمعيتان يومي السبت والأحد الماضيين، توزّع صداها بين هول الاعتداءات ودهشة الأهل والسكان ممّا يجري خاصة بعد ثورة 14 جانفي 2011!
القائمون على أمرها والفاعلون الاجتماعيون والثقافيون نظّموا زيارات ميدانية لرجال الاعلام داعين الأهالي إلى الوقوف سويعات أمام أمكنة الجرائم، حيث يرفع الرمل من منطقة «برج جليج» ومن منطقة «سيدي جمور» و«الشيخ يحي» و«كوز الرمل» ومنطقة «صدغيان» وهنشير «بورقو» الأثري، وترافق هذه العمليات قلع النخيل وإلقاء الفضلات واقتلاع الآثار وتهريبها.
وتحوّلت منطقة «القشتيل» الى محطّة تطهير وإلى موقع لرمي الفضلات البلدية ومنطقة «آغير» إلى محطّة الطائرات الخفيفة داخل الملك العمومي البحري، مثلما تمّت اقامة المعدّات البحرية من خلال اقامة نزل لأحد المالكين الذي لم يقبل لا بقرار الهدم ولا بتصدّي السكان، حيث واجهتهم عصاباته بالهروات والسيوف والسكاكين!
وتشهد منطقة السوق القبلي حركة نهب نشيطة مقترنة بطمس المعالم التاريخية ورفع الحجارة.
ولم تسلم بيوت العبادة من قسوة المعتدين وسطوة الناهبين، حيث توسّعت أشغال بناء مسجد أمام المعلم القديم (جامع تلاكين) وتمّت كذلك إزالة المعلم التاريخي القديم (جامع سيدي البحري) وكذلك تحويل صبغة الأراضي الفلاحية إلى الحي السكني بتاجديت.. واعدام ميناء ميناكس الذي كان يمثّل ثاني أكبر المواني الرومانية بعد ميناء قرطاج، كلّ ذلك يؤكده حرص الأخ حوسين الخروبي الذي لا تكل حركته ولا يملّ من التكرار والاعادة وتوفير كلّ المراجع لرجال الاعلام وتبينه الوثائق والقرائن التي يوفّرها السيد.
? ناصر بوعبيد (رئيس جمعية صيانة الجزيرة)
سطوة الطرابلسية وسكوت الممانعة
وعن مبرّرات صمت أهالي جربة أمام جملة هذه الانتهاكات وحجم التجاوزات، يقول السيد فتحي بن يونس، انّ النظام البائد قد أغلق كلّ الأبواب أمام دور الجمعيات المحلية ونداءاتهم المتكرّرة، لكنّ سطوة الطرابلسية كانت الأقوى وأياديهم الملوثة وصلت إلى أراضي جربة وإلى آثارها. ويضيف نحن اليوم التجأنا إلى القضاء ونتطلّع إلى معاضدة الاعلام للجهود التي تبذلها الجمعيات المحلية.
وفي نفس السياق يبيّن السيد با للّشهب الشهباني انّ ليلى الطرابلسي قد وقفت حاجزًا سميكا أمام اثارة ملف رأس الرمل لأنّها مورّطة من شعر رأسها إلى أخمص قديمها.
ويذهب السيد مكي التانازفتي إلى توجيه اتهامات إلى بعض الجهات المتواطئة في عديد المؤسسات الرسمية حتى لا يأخذ القانون مجراه وحتى لا تقول العدالة كلمتها.
فالرخص تسند من العاصمة دون استشارة المؤسسات المحلية والوثائق تسرّب بشكل منهجي وتدلس بطريقة لافتة.
ويطالب السيد طارق الملاّح بتكوين لجان متابعة للقضايا المرفوعة أو المنشورة قضائيا والحرص على مزيد تنظيم أيّام تحسيسيّة حول الانتهاكات التي تتعرّض لها المواقع الأثرية والحقول الفلاحية والسواحل البحرية وغيرها.
ويبيّن السيد يونس اللافي ان عمليات سوق الرمل بخصمها الكبير والشرس خاصة في بعض الأماكن مثل الشيخ يحي قد جعلت المياه تتقدّم بنحو 500 متر على حساب اليابسة. كما أنّ تعرّي الطبقات الأرضية قد ساهم في ارتفاع نسبة الملوحة في المياه، حيث وصلت الآن الى 11٪!!
ومن جانبه نادى السيد وليد العمراني بضرورة تشبيك العمل الجمعياتي وتحديد أرضية عمل ونضال موحدة تقوم على تغذية الشعور بالمواطنة والتصدّي للمتجاوزين مع العمل على نشر ثقافة بيئية لدى الأطفال، كما دعا العمراني إلى ضرورة مدّ جسور التعاون مع نقابات الأمن لضمان التدخل عند حالات السرقات والاعتداءات ووضع حدّ للتدخلات وحماية المجرمين.
وأوضح السيد ادريس يامون انّ الوسط البيئي بجزيرة جربة قد بدأ يتدهور منذ السبعينات، ودعا إلى ضرورة أنّ تتحمّل المؤسسات كامل مسؤولياتها سواء في عمليات اسناد الرخص أو في عمليات ردع المتجاوزين. لأنّ من يزرع الريح في نظره لابدّ أن يحصد العاصفة.
واعتبر السيد كريم معمر كنوز وآثار جربة هي ملك عمومي ومخيال جماعي لكافة التونسيات والتونسيين، وهو ما يقتضي من الجميع تحويل التجاوزات من طابعها المحلّي إلى ابعادها الوطنية.
? تجريم البائع والمشتري
ودعا السيد ابراهيم الطرابلسي إلى ضرورة تجريم المشتري بنفس درجة البائع للمسروق، ونبّه إلى الاخلالات التي تتمّ أثناء عمليات الترسيم حيث تبدو غير منسجمة مع الطابع المعماري والتاريخي للعالم الأثرية. كما دعا إلى المحافظة على الأحواش والمخازن البالغ زهاء المائة واصدار قرارات أو قوانين في الغرض من أجل استغلالها كورشات لضروب مختلفة من الفن كالرسم والموسيقى...
وخلص إلى اعتبار أنّ الحلول تكمن في وجود الارادة السياسية، منبّها إلى خطورة المعِدّات على الشريط الساحلي وتأثيرها على الأعشاب البحرية التي تمثّل رئتيْ المتوسط داعيا الى ضرورة التدخل السريع لاعادة ترميم «برج الغول» المتداعي للسقوط، خاصّة أنّه يمثّل مركز التوازن والجذب للجزيرة بكاملها ووقع أشغال الطريق بسيدي ياني وعمليات ردم السبخة.
ودعا السيد الحبيب بن محرز الى صياغة مخطّط استعجالي لحماية الجزيرة من كلّ تدخل معماري أو بنية تحتية لا تنسجم من خصوصيات الجزيرة المتميّزة بنسقها الحسّاس وبتراثها الحضاري والتاريخي والبيئي الذي صار يستغيث.
? بورغو وميناكس فجوات التاريخ
وتعرّض السيد صادق بن مهني بدقة إلى حماية التجاوزات وكثرة الاعتداءات بدءًا بظهرة عدلون التي نالت منها عمليات مدّ الطرقات وهنشير بورغو الموجود قبل الرومان وصولا إلى ميناكس وما يحتويه من مصالح ومبانٍ تحت الأرض مبرزًا انّ جربة قد أشبعت دراسات ولكنّها ظلّت في حاجة ماسة إلى اجراءات عملية وصارمة لوقف العنف المسلّط عليها.
ومن جانبها بيّنت السيدة بسمة بن ثائر أنّ جهود الجمعيات المدنية مثل جمعية المواطنة الفاعلة كلّها تنصب من أجل تفعيل دور الجماعات الضاغطة باتجاه خلق حالة عامة لدى سكان الجزيرة تنهض على أسس الشعور بالمسؤولية التاريخية في هذه اللحظة الرّاهنة حيث يتمّ الاعتداء على الحضارة البشرية من خلال بناء نزل وعمارات معدّة للكراء.
? «تَشْبَحْ» الروائح في «قلالة»
وبعيدًا عن العنف الرمزي والسطوة المادية، أخذنا الأستاذ حوسين الطّبجي من ذواتنا المتشظية كلوحة فسفسائية سقطت من على جدار التاريخ لتقع حباتها متناثرة بين الأرجل أحيانا وبعيدًا عن الأعين أحيانا أخرى ليرمينا بين تفاصيل الحياة الجربية وثناياها المفعمة بالانسانية وبالمعايير والقيم الانسانية في أشكالها الجمالية التي عانقت المتعة المتجردة والهاربة أبدًا من موتها المفاجئ، حيث متحف «قلالة» الساكن بأرواح الماضي وبروائح السابقين في أعلى نقطة بالجزيرة المرتفعة عن البحر بنحو 52 مترا وقبالة خليج بوغرارة الجميل، حيث لا مدى يوقف البصر ولا حواجز تصد الفكر عن استحضار الماضي بجوانبه الحيّة من تقاليد الفن وضروبه واللباس وأشكاله والزخرف وألوانه والغناء وسحر وصاله.
متحف قلالة يحاكي خصوصيات أهل الجزيرة من الزواج فالختان فالعمل بالحياكة أو المعاصر أو ضروب التجارة إلى اشكال الفنون الشعبية والطربية على حدّ سواء فتشكل الفضاء المرفولوجي للحوش الجربي وفق منظومة تربوية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية.
متحف قلالة بتحفه وألوانه وأشكاله وتصاميمه يتحوّل إلى مؤانسة الماضي والتراث من خلال الأحاسيس المتدفقة من مشاعر الأستاذ الطبجي ومن خلال قوته الدّافعة الى استنطاق الواقع الماثل أمامك كبوصلة تنظر الى ما وراء الرّاهن الحزين وآلام جراحات الجرابة المتولدة من هول العنف والشراسة والتغوّل الذي يعتمده البعض من أجل طمس هوية الجزيرة واقتلاع قلبها النابض.
? الغريبة وحارة اليهود
وغير بعيد عنها مررنا الى «الغريبة» عسانا ننقل ما يجري داخلها من أحداث ووقائع تعكس درجة التعايش الحضاري والديني والجنسي المدعوم من محوّلات حضارية شهدتها الجزيرة بطرقاتها النسقية لحضارات مرّت غير سريعة وتركت أثرًا تعلّق الانسانية عليه آمالا واسعة في صيانته والحفاظ عليه وتدويله معرفيا.
وفي حارة اليهود تدبّ الحياة ساكنة هادئة بتفاعل اجتماعي مذهل بين الاختلاف من ناحية والاندماج من ناحية أخرى، حيث يصعب منع اللهاب في آثاره شهوة التهام بريكة على الطريقة اليهودية أو بعضا من كفتة والفول «المدمس»، غير أنّ كرم الأهل هناك يجعل المرافق ملتزما بأخلاقيات مكارم الأهل وينحصر مترجما لابعاده ودلالاته مع كلّ ما قدّمه الأستاذ والزميل منصف المؤذن من مساعدة ودعْم وتيسير لمهام زملائه الوافدين هناك، حيث تنتزع منك الضغوطات والقوالب والرواسب وينتفض منك غبار الطريق وروائح البحار الدّامعة من وجع النزل والمباني العصرية وعمليات وقف شريان الحياة برًّا وبحرًا.
تحديات واعتداءات تجعل جزيرة جربة واقفة الآن أمام منعرج حاسم من تاريخها المعاصر.
نُزُل تصل الى 107 ونحو 40 ألف سرير وطاقة ايواء تفوق المليون سائح وتناهز 10 مليون ليلة مقضاة، بعض النزل تصادر حق الطبيعة في الحياة والاستمرار في توفير شروط أساسية لعدم فناء الأهل وتنصب بسطوة البارعين في الدوس على القوانين المانعة للبناء قرب الشاطئ واحترام ارتداد المياه الى ما بعد 200 متر.
زيارة قد تكرّر عشرات المرّات بل المئات، لكنّها تظلّ غير كافية لوصف ما تحقّق بالجزيرة خلال تاريخها الطويل وتظلّ تدفعك دائما إلى التحيّز مادام الجرابة وجزيرتهم يأخذونك من ذاتك ليسكنوها بعاطفة الوجدان فتكون قادرة على تعطيل الفكر في مظهريه المخاتل والماكر أحيانا.
? الثابت ينفي المتحوّل
لكن الثابت يبقى مقرونا بالقرائن والوثائق أنّ سكان الجزيرة كانوا متألقين في مقاومة مختلف أشكال الهيمنة الخارجية والاحتلال ومسجلين عديد الملاحم البطولية ومتحلين بقدرة فائقة في التكيّف مع الأوضاع السياسية الطارئة قادرين بتفوقهم الدراسي والمعرفي وحسن تدبيرهم التجاري والاقتصادي واليومي على استنباط أشكال المقاومة والممانعة الملائمة والتي تمكنهم من قدرات فائقة على حماية هويتهم وتثبت درجة انفتاحهم بما لا يولّد صراعا مدمّرًا بينهما.
انّ السكان والجزيرة يظلاّن توأم الروح لا حياة لواحد دون الآخر بتماهيهما يتأكد اثبات الذّات بالتألق والابداع.. فالجزيرة بتلك الخصائص لا تخاف من الاعتداء وستظلّ بعيدة عن كلّ «خطر». حتى وان ارتفعت الأصوات منذرة بالخطر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.