«يجب ان لا ننسى أن هذه المجتمعات الصغيرة كانت موجودة بالتمايز الطائفي (العشائري والجهوي بالنسبة إلى حالتنا) وبالرق وأنها اخضعت الانسان إلى الظروف الطبيعية بدلا من رفع شأنه ليكون سيد الظروف وانها حولت الدولة الاجتماعية المتطورة ذاتيا قدرا طبيعيّا غير قابل للتغيير»... ماركس انجلز حول الاستعمار انه امام حالات التمديد للاستبداد وللدكاتوريات العربية بعنوان «الثورات الديمقراطية» هذه المرة في افتضاح وعلانية واستهزاء بالجميع والتي فشلت معها كل وسائل كبحها او منعها تجدنا مجْبرين على المناقشة العلنية والصادمة لذلك الكمّ السديمي الهائل المتفاخر بالديمقراطيين العرب النموذجيين الى أبعد حد وبالثورات العربية الخارقة! ان الثورات الراهنة تفسر وجودها على أنها تنتمي إلى جوهر المتغيرات العولمية المطلوبة هذه الايام وغير المعترض عليها من قبل الزعماء الامريكيون قد رحب بها الجيل الصاعد المتعطش للخروج من تحت سلطة وسطوة الجمود والعقم المخيمة على الحاضر العربي عموما. ان الانظمة الجديدة عليها ان تحرص من تكون وسيطة بين التسلط العولمي ومصالح شعوبها الحقيقية فالتطبيع والصهينة ومساندة التسوية في مختلف تقلباتها يحتاج رفضها إلى القطع النهائي مع اقتصادات الهدر والفوضى واللامسؤولية الاقتصاد الريعي ذو السمات الطفيلية. ثمة تفسير او وهم آخر آخذ في الرواج بين العامة يقول منطوقه أن «بن علي» تعرض إلى لعنة ربانية وان الامر في مجمله يتلخص في معجزة نزعت الملك منه واعطته إلى «المرزوقي» وإلى «النهضة» في نظر الانسان العلماني ليست المعجزة سوى حدث احتمال حدوثه ضئيل جدًا بعض العلمانيين المسلمين يضيفون إنّ احتمال حدوثه يتوقف على شرط حظور «النبي» وهو شرط انعدم تماما مع انتقال آخر الانبياء الى الرفيق الاعلى. إنّه احتمال ضئيل جدًا إلى درجة أنّه يجب تجاهله في كل ما يتعلق بغاية عملية مثل غايات كسقوط نظام فاسد وبوليسي وعميل كنظام «بن علي» او من مثل غاية القضاء على البطالة والتهميش. المواطن العلماني اذا لم يتجاهل التفسيرات الساذجة تلك ولم يضع قراراته على تقديراته احتمالية فواضح انه سيخطئ أكثر الاهداف التي وضعها لنفسه ليس الامر كذلك عند «النهضة» فهي تعلم وتقرر أن جوهر الوجود هو معجزة وفي داخل هذه المعجزة الكبيرة تحدث معجزات نادرة فالولايات المتحدةالامريكية بفضل المعجزة اصبحت حليفا استراتيجيا لشعوبنا التواقة إلى الديمقراطية والتقدم والحداثة: داخل هذه المعجزة ثمة معجزات صغيرة أخرى لا تقل عنها اهمية وغرائبية الاستثمار الاجنبي سيسهر وبكل حنان واحسان على تلبية حاجات التنمية. دولة النظام الساقط لم تمسها الرذيلة وطهارتها من طهر الثورة بل هي اشد نقاوة وقداسة من كل الحداثين العلمانين المشككين. ظهر اللّه المعجزة كي يعترف التونسيون بوجوده وبعظمته ولكن طلب من التونسيين مع مرور الزمن ان يؤمنوا به بلا براهين اي ان يؤمنوا بالثورة دون ان يلمسوا اي نتيجة ملموسة ومباشرة. ليس المتدينون فقط يعترفون بالمعجزات بل العلمانيون الأقحاح والمخلصون حينما وقفوا يخطبون في «هيئة الانتقال الديمقراطي وهيئة الاشراف على الانتخابات» والمجلس التأسيسي ويطالبون بالديمقراطية والتقدم والعلمانية والانعتاق الاجتماعي والشغل والكرامة من حكومة تقودها «النهضة» وتدعمها «امريكا» ويتخذ رئيسها من السيد حامد القروي مستشارا له وهذا من حقه فليس في القانون ولا في الفصل 15 ما يمنعه من مثل تلك العلاقات الحميمية ويطالبونها بسياسة تنموية متوازية بين الجهات وبجامعات تشتغل بالبحث العلمي وبالحكومة الرشيدة والتنمية المستدامة؟! قادة الحكم الجديد دعائيون يؤججون السذاجة وينشرون الخديعة والوهم. تزعم الحوارات السياسية الراهنة وكما اشرنا سابقا في المقدمات الاولى إلى انه وجدت في تونس دولة خاصة دولة تقنية بحتة ذات وظائف خدماتية اجتماعية بحتة وان هذه الدولة كم تكن بالمرة شريكا فاعلا مع دولة الفساد والدكتاتورية وانها مستعدة للتعامل بكل ايجابية مع الثورة والحكومات الديمقراطية الجديدة. انها دولة ثانية ما فوق دولة، او دولة في الدولة تضيف نفسها عمليا الي الثورة والى الدولة الاولى الدولة الابتدائية ومن وراء ظهرها ربطت هذه الدولة نفسها بالثورة وبالديمقراطيين دولة لا تاريخ استبدادي لها ولا تاريخ طبقي استعماري لها وهذه الدولة حين تسقط الدولة الاولى لا تسقط بالضرورة معها ولا تتحمل اية مسؤولية فيما حدث ويحدث انها «الدولة الهيڤلية» التي تمثل الروح الموضوعية التي هي أعلى وأكبر من الفرد واكبر أعلى من المآسي والضحايا والقتل والفساد الذي ليس له وجود موضوعي ولا حقيقة سوى كونه عضوا في الدولة وان هذه الدولة لا تنهار بالتناقضات الداخلية فيها بل يتدعم كيانها حينما تستطيع الانتقال بهذه التناقضات الى وسيلة شد وتماسك ورتق للكيان الموضوعي (الدولة) ان موقفنا لا يزال يطالب بتسمية الاشياء كما هي فالاسماء هي التي تعرفنا بالاشياء فما تحقق راهنا بعنوان الديمقراطية لا يزال يتعمد ان لا يدرك انه لم يسقط دولة بعد ويتعمد ان لا يدرك ان المجتمع السياسي في عالم اليوم لم يعد في حاجة إلى دولة فوقة تمشي وفق ديمقراطية تمثيلية تمارس سلطتها وفق القانون بقدر ماهو محتاج إلى تجاوز هذه الدولة ذات القانون وذات الجهاز القمعي القائم على تنظيم واحتكار ادوات القمع الاقتصادي هذا هو المعنى الجوهري الوحيد للثورة راهنا إن افتقاد هذا المشروع الانتقالي الى النقد السياسي والثقافي من قبل المتابعين قد جعل الحديث ينحصر حول طموحات وآمال ذلك المشروع ومن ثمة التركيز على ضرورة السعي لانجاحه وتقديم التنازلات دون النظر إلى ماهو واقعي ومتحقق على الميدان ونتيجة لذلك تم التغاضي عن آليات التسلط والاستبداد والسياسة الاحادية الكولونيالية المبثوثة في ثنايا المشروع. لقد تم شطب الفواصل التي تستطيع ان تخرج هذا المشروع من حيز علاقات القوة والهيمنة والتملك والضغط الى حيز التداول والانفتاح وبناء الثقة لنرى الآن جلسات التفاوض السياسي وجلسات المجلس التأسيسي وفق اي معنى سياسي تسير والى اي غاية ترسو قافلتها. الحكومة التي خرجت تتفاوض مع الاعتصامات بوزارتها المختلفة اقتنعت ان التمثيلية النيابية او المجلسية ليست لها أي علاقة بالذين انتخبوها او لم مع رجالات الحكم السابقين في الجيش وفي الامن وفي الادارة العامة يفرض على باقي المواطنين ما يتلاءم مع الوضع الذي يريحها مجتمعة او متوافقة ويمنحها الولاء السياسي باسم الانتخاب ومنحهم من تحصيل الحق في ارتكاب الاخطاء بل وفي الجرائم باسم القانون وبعنوان الثورة فالمفاسد جميعها قد تم اقترافها من قِبل «بن علي» لا غير والوضعيات القائمة على بؤسها ستظل قائمة ما دمنا لسنا مسؤولين عنها. طبعا بعد قلع الدكتاتور هناك اسباب وجيهة لتصور ماهية جديدة وشكل جديد للدولة وهو تطور لا يخلو من فوائد كثيرة ولكنه لا ينصف بشكل واضح واقناع يشتد بدوره الى اي نوع او استحقاق للديمقراطية كلفظ وكنمظومة افكار فقد كانت الديمقراطية تزعم باستمرار تحقيق المساواة السياسية على اعتبار ان المساواة الاقتصادية أيّا كان حجم النمو ونسب الفائض مضمونة ومؤمنة سلفا في واقع التحولات الراهنة فإنه وقع اقحامها عنوة وذلك بهدف البحث عن اسلوب ناجع للسلطة وادارة جيدة للهيمنة الطبقية محليا واقليميا ودوليا مما ادى إلى اعادة انتاج الأوتوقراطية السلطوية نفسها واعادة انتاج اللامساواة الاقتصادية بالاعتماد على الفاعل الطبقي والدولة نفسها لقد بات واضحا لدى صانع القرار الدولي ان دعم النظم الدكتاتورية على شاكلتها العسكرية والاستخبارتية القديمة لم يفد في شيء ولم يدفع بمسارات «السلم الاجتماعي» و«السلام الدولي» إلى نهاياتها المتوقعة بل احدث فوضى عالمية كارثية واضطراب كبير في مجالات التوازنات السياسية والتوازن الاقتصادي الاهم الذي بات يلعب لصالح العمالقة الآسيويّين وعلى راسهم الصين والهند وبقية الاقطار مثل كوريا وتايوان وتايلندا وماليزيا وسنغافورة وأخيرًا امارة «دبي»التي أصبح نفوذها المالي ودورها في التبادلات الاقتصادية متعاظمًا يوما بعد يوم. نشير إلى هذا جميعه ونحن نحاول قدر الامكان ان نتجنب مخاطر التحاليل الاستراتيجية المبالغة في تصور الدولة ككائن عقلاني متحكم في اهدافه ووسائله ومؤثر في محيطه ومجالاته واحيزته والتركيز على الصراع واغفال جوانب التعاون والتكامل ودور القيم والثقافة في تصور العالم الخارجي وتحديد السلوك الاستراتيجي فالاستراتيجية تعني من بين ما تعنيه اتباع منهج علمي لتحليل المعطيات والعوامل وتحديد الاهداف القريبة والبعيدة ورسم المراحل وتبيان الوسائل اللازمة والكافية لبلوغ الاهداف.