«لا أستطيع أن اتصور نهضة عصرية لأمة شرقية ما لم تقم على المبادئ الاوروبية للحرية والمساواة والدستور مع النظرة العلمية الموضوعية للمكان «سلامة موسى» ماهي النهضة؟ب ص 108 » مع تيقننا من حسن النوايا وان النية الطيبة التي نحافظ على أن تقدمها على الموقف الايديولوجي السياسي من حكومة «النهضة» وحلفائها لابد ان تترك مؤِثرات ايجابيّة في دفع الاحداث باتجاه يعود بالنفع على اخراج السياسة الوطنية من مأزقها القاتل ولكن المهم هنا ان تكون هذه النوايا الطيبة تعمل في نفوس كل قادة القرار السياسي على الاسس المنطقية والاعتراف بالاخطاء والتبني المخلص لشعارات الثورة ومطالبها في المسائل الجوهرية قادة «النهضة» باتوا يعدون الجرائم اخطاء ويرون ان الاخطاء ضرورة من ضرورات الحكم والمسؤولية، تنوير البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مغامرة وعناء وعمل اخرق اهوج .لقد كانت جميع المقدمات الموضوعية لنجاح الانتفاضة / الثورة متوفرة لدينا وقد كان عند المنعطف الحاسم ضروريا انتقال كل السلطة فورا إلى الديمقراطية الثورية. ان الشك الآن في قدرة الشعب على تحمل الحصار الاقتصادي الذي تمارسه البورجوازية الكولونيالية وتمارسه الاحتكارات الدولية قد بلغ أشده عدم تحطيم الدولة القديمة يعني التذبذب بخزي وعار والتنكر بالفعل لجميع مبادئ الثورة والتبرؤ من الجهات والطبقات المفقرة تماما. ففي اكثر من مناسبة وتدخل اشار قادة «النهضة» إلى أخطائهم إبان الجلسات العامة للمجلس التأسيسي ونقاش قانون السلطات العمومية المؤقت اي حين معالجة مسألة «الدولة» بطم طميمها على انها تدرب على الحكم ومجرد «تلمذة» وتجريب وانها ضرورية ولا يحتاجون اطلاقا إلى قبول النقد في شأنها في المسألة الاهم والاكثر جوهرية مسألة المضمون الطبقي للثورة والدولة يحافظ الجميع على اللامبالاة وعدم طرح المسألة أصلا!؟ في هذا المستوى من المعالجة استوى اليسار واليمين «حكومة الغنوشي وحكومة الباجي قائد السبسي» عملتا قدر جهدهما قبل ذلك لجعل الناس تفقد الثقة بمسيرة الثورة والانتقال الديمقراطي الثوري. اغلبية السكان باتوا بالتدريج وبالترويض الممنهج بواسطة الانفلاتات الامنية الممنهجة يقبلون التقدير القائل بان الدكتاتورية هي ايضا ضرورية، ارث حكومات الاستبداد والقمع الطبقي اصبح ينظر إليه على انه لم يكن فاسدًا بنسبة مائة بالمائة بل انه لم يكن فاسدًا باية نسبة تقديرية مهما كان حجمها. فالشكر والامتنان وشهادات الامتياز اصبحت تقدم بمناسبة ودونها إلى الدولة من ابسط شرطي مرور إلى كبار موظفيها السامين من مدراء عامين إلى وزراء سابقين وكبار القادة الامنيين والعسكريين؟ وبالمناسبة نفسها ظهرت تنظيرات تزعم اصالة «للدولة التونسية» تمتد إلى العهود البعيدة وتزعم لها المدنية والحداثة ولربما الحكومة الرشيدة ايضا ومنذ عهود «حمودة باشا» وكبار لصوص العالم القديم! بل ان البلاد عرفت ادارة منظمة منذ اواخر العهد البيزنطي وعهود الاغالبة والفاطميين!؟ فهي البلاد الام للكفاءة الادارية والسياسية ولا مجال للاستنقاص من قيمة التنظيم الاداري الذي اثبت جدارته ومهارته ورسومه ابان فترات الانتفاضات والفوضى فكيف لا والامراء كانوا ينتخبون في الغالب من القواد العسكرين أو من ابناء العائلات ذات المجد العكسري والاصول الارستقراطية؟البطالة لا غنى عنها لاي مجتمع يرمي الى النمو والتقدم انهم بصدد التمهيد لترويج ذلك السخف الهزلي القائل بانه يمكن الابقاء على اقتصاد في تحسن مع وجود جيش من العاطلين عن العمل وان ذلك لا يمنع تمتع معظم المواطنين بمستوى معيشة عال (طبعا معظم المواطنين الذين يعرفهم الاعلام الرسمي ويبرزهم الرأي العام السياسي اما باقي الوجوه فالإقصاء والابعاد الاجتماعي كفيل بهم) المفهوم الاقتصادي او منوال التنمية المؤيد لهذه السياسة يشترط وجود نقابة ضعيفة نسبيا (تفتيت النقابة والوحدة العمالية بآلية التعددية النقابية أداة من الادوات!) وسوق عمل مرن هذا الى جانب وجود تأهيل مهني واسع ومتعدد يتيح وجود طلب متزايد لقوة العمل وتنافس حيواني قاعدته الاساس تنازع ما قبل مدني عصاباتي وعشائري وجهوي للحصول على الأكل والشرب والحاجات الاساسية اي تماما كما في عوالم الحيوانات المفترسة! المديونية ليست عيبا وليست استنقاصا من السيادة الوطنية. استمالة الاستعمار الاجنبي المباشر اي كانت شروطه انجاز اقتصادي وتفوق ديبلوماسي يحسب لفائدة الفاعلين السياسيين، الاتفاقات والتعهدات والاقليمية والدولية التي ابرمتها حكومات العمالة والفساد وفقا لاهدافها وشروطها يجب ان يحافظ عليها الثوريون ويصونونها فهي مكاسب وطنية عليا لا يجب التفريط فيها! القطاع البنكي لا يحتاج إلى اية مراقبة حكومية كل ما يحتاج اليه «مصلّى في كل بنك» وان يكتب بالبنط العريض على كل ملف معاملات مقولة: «ويرزقكم اللّّه من حيث لا تعلمون» الحماية القمرقية التي اصبحت لا تغطي الا 5 في المائة من مجموع السلع والبضائع والمعاملات يجب الانتهاء منها تماما وحالا وفورا هذا مع العلم انه كلما خفضت الدولة من الاداء الديواني الا وعوضته باداء على الاستهلاك فالمشروع الثوري يتواصل مع ما باشره الثوريون منذ سنة 1980 اي منذ ان بدأ طبيق الاصلاح الهيكلي الفلاحي المتجسم في الحد من دعم الدولة لاسعار البذور ومياه الري وما سمي حينها بتشجيع الاستثمار والمبادرة الفردية في الميدان الفلاحي والتفويت والخصخصة فرض كفاية وفرض عين في نفس اللحظة ومع كل مسؤول حكومي كل حسب جهده وما يقع بين يديه فالعملية التي شملت كل القطاعات بلا استثناء: التجارة والفلاحة والسياحة ونقل البضائع وكذلك السوق الحرة في المطارات يجب ان تتواصل ولا تترك شيء بين الارض والسماء الا وتشمله بعنايتها وسحرها. رئيس الجمهورية المنتخب يفوت في القصور الرئاسية والحكومة تفوت فيما تبقى من المؤسسات العمومية افلاسا وتأميما و«النهضة» تفوت في المنشآت الدينية للسلفين والتحريريين والشيعة وما الى ذلك من عناوين التّهارج بالدين والدولة الجباية ومنذ الستينات لم يقع الاهتمام بارساء نظام جبائي عصري وذلك لان الضرائب والأداءات الداخلية بما فيها من ضريبة مباشرة على الدخل وعلى ارباح الشركات واداء على القيمة المضافة لم تكن اهم مصدر لتمويل ميزانية الدولة وهذا نظرا إلى أهمية ما كانت تدرّهُ الحقول البترولية من موارد على الميزانية العامة وما كانت توفره المعالم الديوانية انها وكما هي عادتها دائما ما تفترس المداخيل الضعيفة للاجراء والحرفين وصغار التجار وتتحول بقدرة قادر الى حافز استثماري اذا ما تعلق الامر بالمليارات وكبار المستثمرين المحليين والدوليين؟ نسبة الرقابة المعمّقة التي كانت في حدود 3% والتي اصبحت «صفرا» هي تعبير لا فقط عن عجز الادارة وتركها لهامش كبير من الحرية للمتهربين وانما عن تواطُؤها ايضا! الخبراء المحاسبون الاوفر معرفة دقيقة بالموازنات المقدمة وغير المقدمة لادارة الضرائب يطالبون باعداد تقييم شامل للحوافز الجبائية التي تم منحها للمؤسسات خلال النسوات الماضية وتحديد قيمتها والوقوف على مدى نجاعتها في تشجيع الاستثمار! فليس من المنطقي على الاقل مراجعة ما سمي «بالتكيّف الهيكلي» الذي سبق التفويت في المؤسسات العمومية وهو تفويت ذهب في اغلبه الى «آل بن علي» و«عصابات الفساد» وهو تأهيل وتكيف هيكلي دفعت موارده من خزينة الدولة ومن «المال العمومي». الخبراء اولئك يطالبون بمراجعة جباية الاشخاص الطبيعيين ولا سيما الاجراء الخاضعين إلى نسبة اداءات كبيرة لم تتم مراجعته منذ سنة 1990 وطالبوا في ذات الوقت والسياق الى ضرورة الترفيع في قيمة المبالغ التي يتم طرحها بالنسبة إلى رب الاسرة بعنوان الاطفال في الكفالة والتي تبقى متدنية ولم تتم مراجعتها منذ 1982؟ أمّا وزير الصناعة والتجارة فدوره ووظيفته ان يذكر الشعب بين الحين والاخر بفضيلة الصبر ويدعوه الى مقاومة الاحتكاريين والارتفاع الجنوني للاسعار ومظاهر التضخم بالمزيد من قبول الجوع والاستئناس به والتعالي على المطالب اي كانت حتى وان كانت حليبا للاطفال ودواء للمرضى وسكنا للمشردين وماء صالحًا للشراب ومواد اضاءة وتدفئة للمعوزين وقبرًا وكفنًا للموتى خلاصة البرنامج: «ان المطالب الحيوية للتونسيين يجب من هنا وصاعدا ان ترفع لمشيئة الله» وزير المالية التقدمي والنابغة باشر مهامه بالدعوة القدمية الجديدة القائلة بالرفع النهائي لصندوق التعويض وشطب تدخله فيما يخص المواد الاساسية واسعار المحروقات فمن الواجب التقليص من نفقات الدولة. اسلوب الاقناع والتبرير هو نفسه ان الاغنياد يستفيدون من نفقات ذاك الصندوق العجيب اما الفقراء فلهم الله ومن غير الله والشحاذة عند صناديق اهل البر والاحسان؟! ولان النقاش لم يكن بالمرة نقاشا في المسائل المخصوصة والواقعية فلم يفت النائب السلفي «الحبيب اللوز» الادلاء بدلوه وانه يدعو الى العودة الى انظمة «الاوقاف» و«الزكاة» و«الحسبة»؟! صحيح ان تغيير شكل حركة التناقضات الرأسمالية وتنامي عدم استقرار النظام الامبريالي في جميع حلقاته بما في ذلك الهامشية والظّرفية وتعاظم اللاانتظام في سير عملية اعادة الانتاج تستدعي منابع جديدة وقوى دافعة جديدة للصراع الطبقي، منابع جديدة كهذه وقوى دافعة كهذه فان الأمر لا يثير الضحك والاستغراب فقط وانما البكاء والسخط ايضا؟! تبقى «النهضة» حركة كغيرها من حركات التأسلم السياسي الاصولي ورغم كل ما يقال وما تقوله هي عن نفسها وما يقوله عنها المتقربون لها من التكنوقراط ورجال الاعمال، منتوجا خاما بدرجة أولى للثقافة الاقطاعية الرجعية في مجملها فهي تعكس من خلال علاقاتها بالتاريخ القديم الصانع لهذه الثقافة انماط حياتها، ونوعية تعاطيها الرمزي والمادي الديني والدنيوي مع مختلف مظاهر الحياة (العمل، السلطة، الدين، الاسرة... الخ) بحيث يصبح منتج هذه الحركة في الحكم او في المعارضة اولا وقبل كل شيء دعوة صريحة إلى أن تظل قوى الارتداد والشد الى الخلف الحاكم الفعلي لمجمل حركات المجتمع وهموم الناس ومشاغلهم. ان ماهو مؤكد ان الحركة السياسية تلك اغتنمت الفرص التي وهبتها لها الاتجاهات الرجعية المحلية والدولية لا لتحكم برنامجها الخاص وانما لتخدم برامج الاحتكارات الدولية وكبار لصوص العالم مع الفوز بمنابر التبجح القائل غوغائيا بالمحافظة على الانتماء والهوية والتمترس بالقيم والمبادئ انه مجرد ادعاء منافق للورع والتقوى في مجال التعبد وادّعاء بامتياز للنبل والفروسية والشهامة في مجال الاجتماع والانتهازية السياسية وفي مجالات نضال الحريات والدفاع عن حقوق الانسان وقيم الديمقراطية فمصيره السياسي احتكم منذ سنوات بعيدة اي منذ سنوات نشأته المعاصرة في سنوات السبعينات والثمانينات إلى دناءة صفقاته الخاسرة وهي صفقات كان ولا يزال يعقدها مع الانظمة الرجعية مع المستعمر.