الواقع انّ ما أرويه الآن ليس حكاية ولا هو ذكريات... تخيّلوا زوجا ترقد على مائدة جثّة امرأته التي انتحرت منذ بضع ساعات بإلقاء نفسها من النافذة. انّه يعاني انفعالاً شديدًا ولم يستطع ان يثوب إلى رشده. وان يسترد صوابه. فهو ينتقل من غرفة إلى غرفة محاولا ان يتصوّر ما حدث. وان يتخيّل ما حدث. وان يركز أفكاره في نقطة... ثمّ هذا الرجل سوداوي المزاج في أعماق نفسه. لا ينفك يجتر أفكارا ثابتة ولا يفتأ يناجي نفسه في السر. ويكلمها بغير انقطاع. انّه اذن يتحدّث الى نفسه. فيقصّ عليها القصه ويحكى لها الحكاية. ويحاول ان يفسّر الأمر بنفسه جاهدا. ورغم ما يلوح في قصّته من اتصال ظاهري وتسلسل طبيعي فإنّه يرتكب مخالفات منطقيّة ويقع في تناقضات عاطفيّة وانّه يبرئ نفسه ويدينها في آن واحد. كما أنّّه ينزلق إلى تأويلات خاطئة، ومع ذلك يضاف شيء من غلطة في الفكر والقلب. تمازجها مع هذا عاطفة عميقة. وقد استطاع شيئا فشيئا ان يفسّر الأمر لنفسه. وتوصل الى تركيز أفكار على نقطة. اذ ساقته سلسلة من الذكريات الى الحقيق سوقا لا سبيل الى مقاومته. فبثت هذه الحقيقة حماسة بما اشتملت عليه البداية من فوضى وبلبلة. لقد انكشفت الحقيقة واضحة جليّة لهذا الشقيّ البائس. انكشفت له هو على الأقل. ذلك هو الموضوع. والقصّة تتابع عدّة ساعات وتتخلّلها انقطاعات ووقفات وتعتورها صدمات. فالرجل تارة يتحدّث إلى نفسه وتارة يُخاطب شخصا لا يُرى هو بمثابة قاض. لو استطاع مختزل ان يسمع ويسجّل كلّ ما يقوله لجاءت ال أشد وُعورة وخشونة ممّا أرويه الآن ولكن الحياة النفسيّة تبقى فيها على حالها فيما يغلب على ظنّي. انّ هذا الافتراض الذي افترضته على المختزل هو ما جعلني أصف هذه القصّة بأنّها خيالية. على أنّ هذا الأسلوب لا يظهر في الظن هنا لأوّل مرّة تمامًا، لقد استعمله فيكتور هوجو مثلا في ر ائعته اليوم الأخير من أيّام رجل محكوم عليه بالموت. ولكن لن يعتمد المختزل فقد أجاز لنفسه أيضا لا أشدّ ايغالا في البعد عن الواقع. والتأبي عن الاحتمال وذلك حين افترض انّ رجلا محكوما عليه بالموت يمكن ان يسجّل ما يرى لا في آخر يوم من حياته فحسب بل في آخر ساعة. بل في آخر دقيقة. لو يسمح فيكتور هوجو لنفسه بهذه البدعة الغريبة كما أُتيح لهذا الأثر من آثاره أن يوجد، وهو أقرب آثاره إلى الواقع وأدناها من احتمال الحدوث.