قد لا يصعب على المطلع على الوضع العربي بشكل دقيق أن يتعاطى مع الثورات العربية بمنطق واحد، رغم توقها الجماعي إلى الانعتاق من سجن الظلم وكبت الحريات و إجماعها على إسقاط أنظمة الفساد المهترئة التي حولت الأوطان إلى مقاطعات عائلية' عملت على استنزاف الثروات و أمعنت في نهب الجهد الرمزي والمادي للمواطن العربي إضافة إلى ما مارسته هذه الأنظمة الكليانية من تدمير ممنهج لمنظومة التعليم والثقافة ومحاربة كل عمق ابداعى يؤسس لوعي حقيقي يعطي للوطن توهجه وفعله الحضاري على أساس حرية التعبير واستقلال المجتمع المدني و ضمان حراكه الحقوقي والنقابي والجمعياتي. لكن لا بد من التنبه إلى أن ما نراه من سعي محموم وراء استجداء الاستثمارات وذاك اللهاث المتسارع لممارسة استقطاب عاطفي لرؤوس أموال خليجية دون استناد إلى أرضية عمل واضحة واستراتيجية اقتصادية ممنهجة تكون ضامنة لعدم الوقوع في فخ الاستثمار اللامشروط والانخراط مرة أخرى في الارتهان إلى الآخر مما يشرع للتدخل الأجنبي من جديد بمغازلة خبيثة من امبريالية «البتر ودولار»، الامتداد الحقيقي للغرب الاستعماري. إن ما حدث في تونس هي ثورة حقيقية بشرت بطرح مشروع برنامج وطني يقطع مع التفاوت الطبقي ويضمن الحريات ويحقق المكاسب الديمقراطية الدافعة للتقدم والمؤسسة لحركة تنويرية ترتفع بالوعي الجماعي غير أن الخوف الحقيقي من أن تضرب هذه الامبريالية الجديدة الحركة الشعبية التواقة إلى الإصلاح وكل قوى الثورية المنادية بالتغيير الجذري لصالح الشعب من خلال السيطرة على محاولات التغيير والتحكم مرة أخرى في الأنظمة للمحافظة على مصالحها مما يؤذن بإرباك لمسار الثورة ودفعها للتراجع على تحقيق أهدافها المشروعة مقابل إعادة إنتاج سياسات الماضي بأشكال وأنماط جديدة تعمق الارتهان للاستعمار الجديد .... وتقف حائلا أمام تحقيق هذا المشروع. لنقل إن الفيصل الحقيقي بين ضمان مواصلة رفع النسق الثوري إلى أعلى وبين مخاوف وَئْدِهِ وانطفاء توهجه هو ذاك الصراع الدائر بين قوى موالية للولايات المتحدةالأمريكية ودول البتر ودولار وبين قوى ممانعة لهذه الامبريالية والتي ترى نجاح الثورة في تحقيق مشروع اقتصادي اجتماعي يخدم مصلحة الشعب ويقطع الطريق أمام مخططات الهيمنة التي تحاك بين الغرب و قوى البرجوازية الرجعية لتحكم القبضة من جديد على الدول العربية وتحول ربيعها الثوري إلى خريف منهزم. لذا وجب على الثورات العربية التي هبت في وجه الدكتاتوريات الجاثمة على قلوب الشعوب والتي استنزفت ثروات الأوطان لمصالحها الخاصة أن تحذر حتى لا يتربص بها الأعداء و يلتفوا على أهدافها الوطنية من خلال السعي إلى شراء بعض الذمم بالبتر ودولار ، و لعل ذاك الحديث المحموم حول مصدر المال السياسي إبان الانتخابات دليل على أن هناك أطرافا خارجية لعبت دورا حاسما في تشكيل الوضع السياسي اليوم مما سهل عليها عمليات الاستقطاب لاحقا ويمهد لهيمنة مرتقبة لعب فيها المال السياسي دوره أثناء الانتخابات ليواصل البتر ودولار ذاك الدور في المراحل القادمة وما تشهده الثورة الليبية اليوم من عدم وضوح للرؤيا إضافة إلى دعوات التقسيم، ما يذكرنا بالسيناريو الأمريكي في العراق التي أشعلت فتيل التطاحن بين أبناء الشعب الواحد وأذكت الصراعات المذهبية حتى تحكم السيطرة على النفط وليبيا اليوم بثرواتها الهائلة من النفط والغاز لهي مطمع جديد لكل الغرب الاستعماري. إن ما يجب التنبيه إليه أن الثورات العربية وإن فاجأت العالم الغربي باندلاعها إلا أنه من السذاجة بمكان ، أن نغفل سعيها الحثيث الى احكام السيطرة عليها و محاولة التدخل في تشكيل أنظمتها الناشئة و سياستها الجديدة لتحافظ على مصالحها الحيوية و لتكون الراعية الدائمة لمشاريع الهيمنة في العالم و الماسكة بخيوط موازين القوى العالمية سياسيا و اقتصاديا لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و إنشائها لذاك النظام العالمي الجديد المتغول في الرأسمالية الجشعة و هذا لن يتواصل مساره إلا بضرب قوى التحرر وجعلها تتراجع على نهجها الثوري من خلال تغذية النعرات و دعم مشاريع التقسيم (ما يحدث في العراق – تقسيم السودان – محاولة تقسيم ليبيا و اليمن – صراع الطوائف في لبنان .....) . و على هذا الأساس نعتبر أن المسار الثوري بشكل عام محفوف بالأطماع الامبريالية من جهة ومنزلقات الرجعية المتواطئة مع البورجوازية الرأسمالية من جهة أخرى. وعلى قوى التحرر أن تواصل ضرب جذورها في أوساط الكادحين من عموم الشعب وتواصل الكفاح لتحقيق التنمية العادلة بين الجهات إذ لا معنى للثورة إن اختزلت مسارتها في الصراعات السياسوية و أغفلت ذاك الغليان الاجتماعي و الاحتقان الحاصل نتيجة الغلاء الفاحش وارتفاع نسب البطالة يوازيه خوف تعمل بعض قوى الردة من إشاعته وتغذيته من خلال ترسانة العنف والترهيب من اجل تأسيس الدكتاتورية الثانية.