الأحزاب السياسية تنسى أحيانا وهي تلقي بمحاضراتها ومواعظها على الشعب المطالب بحقوقه الاجتماعية اي الديمقراطية ان الدولة هي ابنة المجتمع تولد من رحمه وكما يكون تكون وليس العكس غير صحيح فحتى عندما تكون الابنة الشرعية فإن قادتها لا يحق لهم الادعاء بانهم اصبحوا في منزلة الاب الراعي وأن الشعب مجرد رعايا وان المجتمع ابن قاصر يحتاج إلى التوجيه والضبط. بالنسبة للاعلام بدأت الدولة تحاول ان تفعل ذلك واخذت توبخ هذا وتعدل من سلوك ذاك واذا لزم الامر فليس ثمة من مانع ان تتعرض ميليشيات نضال شعبي لتؤدب الآخر. الأخطر ان ذلك تم ويتم لا مع الاعلام فحسب بل وبالنسبة للمجتمع ايضا ولا يحدث بآليات الحكم البروقراطي والهيمنة القديمة فحسب بل وبأدوات مجتمعية حزبية وميليشاوية جديدة ومعدة ايديولبوجيا بالمعنى البسيط للكلمة اي الخداع للقيام بذلك الدور تونس ما بعد الثورة اوالانتفاضة تتجه نحو الديمقراطية طرح الصورة بهذه الصيغة عمل اعتباطي واجمالي بعض الشيء فالدولة الديمقراطية ايضا محكوم عليها ان تنشط وسط حقل من توازنات الحلول عادة ما لم نحسب حسابا كافيا لمادية الرابطة بين الدولة وبين الجماهير الشعبية إذا ما قلصناها الى ثنائية القمع الايديولوجيا. الفاشية كانت تبرر وجودها وضرورتها بان الجماهير نفسها هي التي أرادت القمع أو أنها خدعت بالايديولوجية الفاشية. انهم راهنا يحاولون ان يقنعونا بأن القمع هو النشاط الوحيد الايجابي للدولة بما في ذلك الدولة الديمقراطية ولكننا ندرك من خلال تفحص تاريخ التجربة الديمقراطية ان نشاط الدولة الديمقراطية يتجاوز كثيرا القمع اوالايديولوجيا على ضوء ما سبق. دعنا نطرح السؤال التالي: في واقع ثورة من هو الذي يحق له ان يقرر مدى سرعة او بطء التحول الديمقراطي في مجتمعنا؟ أهم الأقلية المحظوظة التي تنعم بخيرات البلاد بحق او دون حق ام هم الاكثرية المحرومة من تلك الخيرات والتي لا مدخرات لها حتى يمكننا ان ندعوها إلى الصبر والتجلد وتحمل بطء وتعثراته؟ إذ منطقيا لا تحتاج إلى ان تستعجل الامور بالنسبة إلى إحداث التغيرات المجتمعية الكبرى من توفرت لهم ولعائلاتهم كل متطلبات الحياة من غذاء وسكن ولباس وعمل وكل الخدمات الضرورية الصحية والتعليمية والترفيهية لكن ماذا عن العاطل عن العمل المحروم من الزواج او من ينام في حجرة واحدة مع أبنائه المراهقين وبناته المراهقات او من لم يستطع ان يوفر لابنه المعوق كرسيّا متحركًا وللآخر الصغير مكانًا في المدرسة او المستشفى؟ هذا ناهيك عن المعهد والمبيت والجامعة؟! هل المطلوب من هؤلاء أن ينتظروا السنوات الطوال حتى تتكرم عليهم الحكومة بتفعيل هذا البند أو ذاك وهذه الاتفاقية من بنود واتفاقيات الاستحقاقات الديمقراطية التي تمثل الضمان الأكيد والمستمر لهؤلاء المحرومين للخروج من جحيم العيش الذي يواجهونه؟هناك من يقترح انتظار المواعيد الانتخابية القادمة؟! او انه لم يحن الوقت للمحاسبة والتقييم فالوقت الراهن مخصص بمجمله للابتهاج بالثورة؟! وابتهاج المسؤولين بكراسي المسؤولية؟ نحن اذن امام المعادلة الشهيرة لجناحيْ الديمقراطية الحرية والمساواة وتاريخ الانسانية يؤكد انه للوصول الى نوع معقول من المساواة في الحقوق وفرص الحياة والمشاركة في خيرات المجتمع لابد من توفر نسبة معقولة من الحرية: الحرية الفردية والعامة. حرية تسمح للناس بالوقفات الاحتجاجية والاعتصامات وحتى الاضرابات عن العمل والاضرابات السياسية السلمية بل والعصيان المدني إذا لزم الأمر واذا كانت الحكومة ورجال القرار السياسي حريصين فعلا على الانتقال السلمي المنظم الى المجتمع الديمقراطي فليتوجهوا الى الجماعات المحظوظة ويطالبوها بالتنازل عن البعض من امتيازاتها ومكتسباتها الهائلة حتى تساهم في توفير الاستقرار المعيشي لعموم الوطن وبعدها فقط يمكن النصح ولفت الانتباه الى عدم المبالغة في اختصار المراحل وعدم الافراط في التنبه إلى السلبيات في مسيرة الديمقراطية. إنّ ديمقراطية ممولة من فائض فساد الدكتاتورية نفسها ومن فائض فساد الكولونيالية نفسها لا يمكن لها ان تكون سوى الديمقراطية نفسها التي قدمها الدكتاتور نفسه سنة 1987 فهي الديمقراطية التي لا تمس الشعب ولا تنظمه أنها تخافه تعزله وتستبعده وتفرض الاستبداد والفقر والتهميش عليه وتضيف إلى مآسيه تلك أن تمده بعقائد دينية أقرب الى الخرافة منها إلى التقوى والتعبد انها نوع من التمرد الديني المسيء للدين وللتمرد في الآن نفسه إن النضال لفائدة الديمقراطية هو نضال لفائدة دمقرطة المجتمع قبل الدولة هو نضال يتصدى بالضرورة الى المقاربات التي تحول كل نظام التصورات إلى تطورات دينية وكل شكل للوعي الى وعي ديني وكل ممارسة سياسية وقانونية الى ممارسة دينية فلا فائدة من نضال ضد الاستبداد والدكتاتورية دون نضال لفائدة الوعي الديمقراطي والوعي الذي يوجه جميع اسلحة النقد إلى تصفية العالم القديم للتصورات والمعارف والمجتمع بأسره. الوعي الديمقراطي ينفذ جذريا القول بسيادة الدين كمسلّمة؟! ان الوعي الديمقراطي يقارب المجتمعات الحديثة كوحدات كلية معقدة إلى أبعد حدّ ومن ثم فإن المسألة ليست مسألة ايجاد صورة مبسطة تتيح العودة إلى ماهو معروف قبلا بل العكس هي مسألة تكوين أفكار جديدة أكثر توافقا مع كل لون من المواضيع والبحث عن تمفصلاتها واعادة ربطها في اشكالية متماسكة فصحيح ان النضال الديمقراطي هو النضال الذي يرفض الوعي الذي يبرر ذاك الاعتقال ويراه غير ضروري تحت اي اسم او مبرر بما في ذلك بل وتحديدًا تلك المبررات الدينية للتعسف. ان النضال ضد ثقافة الدكتاتورية عمل عظيم كهذا تستدعي تجنيد المئات من الديمقراطيين والآلاف من المحاربين الشجعان المتشبعين بثقافة حقوق الانسان والديمقراطية وفكر التنوير وقبل ذلك أو شرطه الأدنى ان يستبعد بالضرورة الفاسدين والمجرمين والطائفيين والعنصريين والرجعيين عن المواقع القيادية الرفيعة لذلك النضال الجسور والجريء وحتما سيتكفل ذلك النضال الشريف والمبدئي بكنس هذه الحثالات من المشهد السياسي الوطني برمته. اليوم أيضا ان القصاصة النظرية المهمة الواردة في كتاب «العقد الاجتماعي» «جون جاك روسو» ضرورية بالنسبة إلينا «أما فيما يتعلق بالثورة فإن المساواة تعني ألا يبلغ اي مواطن من الثراء ما يجعله قادرًا على شراء مواطن آخر وألا يبلغ مواطن من الفقر ما يدفعه إلى بيع نفسه» إن الانتباه الى ضرورات الديمقراطية هذه تجعلنا نعتقد أن طلب التريث من المحرومين في طرح مطالبهم الملحة لا فقط هي قمة التنظير المترف الذي لا يمت للواقع بصلة وإنما هي أيضا إعدادهم للشراء حين يكون افتتاح موسم بيع وشراء الاصوات الانتخابية فللديمقراطية ايضا وجهها الآخر السلبي والعبودي المحافظة. إن وحدة النضال الديمقراطي تابع ونتيجة انها شرط ومؤشر لمستوى التطور السياسي ولمستوى التطور عموما فكلما كان مستوى النضال الطبقي أرفع تكون هذه الطبقات او الجماهير اكثر تطورا سياسيا واكثر تنوّرًا ووعيا وحزبيتها وتأهيلها النظري بشكل عام أرفع وأسمى وعلى العكس فإن كل «لا حزبية» تعني عدم وضوح الوعي السياسي الديمقراطي وعدم نضجه ان الجماهير غير الحزبية وغير السائرة خلف حزب ديمقراطي في جوهره تكون متفرقة وغير مؤهلة للنضال السياسي وهي تتحول الى لعبة في أيدي السياسي المزيفين ثمّ انه كان علينا دائما ان ننتبه إلى انه كلما كان التركيب الطبقي المتناحر للمجتمع اكثر تعقيدًا وتنوعًا كلما تطلب الكشف عن الجوهر الطبقي الحقيقي للفعل السياسي وللانتماء الحزبي لكل تيار فكري ولكل نظرية ولكل وسيلة من وسائل الاعلام الجماهيرية اهمية اكبر وضرورة أشد. ثمة في الظروف السياسية القائمة قبل المنعطف وأثناءه وبعده وفي اغلب الحالات اختلافات جوهرية بين ما هو في عقول ايديولوجيي التحالف الطبقي الحاكم وبين ما يعلنونه، بين العجين وبين الخبز الذي يبيعونه للجماهير والصعوبات التي يصطدمون بها لا تنقطع كما ان الدحض القاسي والمميت الذي توجّهه الحياة الى نظرياتهم تجبرهم دائما على تغطية عري مجادلاتها وفقرها بتمويهات لفظية وسحب لا تنقطع من اللغو واللغط والكذب الديماغوجي الديني او غيره فكلما احترم النزاع التناحري تزايد تصويره المشوّه من قبل الدعاية الاستعمارية والرجعيين واقترب بنسبة كبيرة من النفاق المتعمد.