قديما قيل «انما المرء حديث بعده، وفي لقائنا معه هذا الاسبوع نقول «إن الحديث معه سفر وترحال بين مفاصل التجربة السياسية وثنايا النضال الاجتماعي بأبعاده الحقوقية والنقابية، فحركة الرجل لا تتوقف مهما اعترضها من عنف اللحظة ومن مخاتلة الرفيق.. تشق برد الصحاري وغبار الهول تحت ايقاعات البحر الطويل، منشدة في وحدتها ملاحم القدامى ومهتزة في عبورها بعزة القادمين أبدا من ذلك الزخم الحضاري المتأصل في جذور التاريخ والفاتح اشرعته على الاجمل والاعدل فيما يجب ان يكون.. افتك الاحترام ونثره بين الجموع أوراق زنبقة نبت بين مفاصل الجبل.. هو كذلك جبل لم تهزه ايام الجمر وليالي القرّ الاستاذ أحمد الصديق ننبش معه ذاكرة أتى عليها غبار النسيان ونحفر معه عميقا في نفس أدماها جرح غائر نودعه ليواصل مسيرته مع ما آمن به الرجل وظلّ وفيا له وهو على اعتاب نصف قرن لم يقدر على الايقاع بشاربيه والمس من دلالاتهما. ماذا تعني اليوم الطليعة العربية؟ الطليعة العربية، تعني ثلاث قيم رئيسية وهي النضال من أجل الحرية في معناها السياسي والاجتماعي ضمن بعدها الوطني، وثانيا التأصل في التربة المحلية الشعبية ضمن رؤية قومية اجتماعية، وثالثا التسلح بأدوات التحليل العلمي التي تستوعب الواقع نحو نحت مستقبل افضل يزول فيه الاستقلال ويقبر فيه القهر والاستبداد ونتخلص فيه من الهيمنة الاستعمارية. هل يمكن لفكر الطليعة أن يكون مؤثرًا صلب الحركة الطلابية مثلما كان خلال الثمانينات؟ واقع الحال اليوم، يحمل الجواب على السؤال وحضور شبيبة الطليعة العربية في الفعاليات الطلابية او في تحركات المعطلين عن العمل او حتى في الفضاء التلمذي دليل على الآفاق الواعدة لفكر الطليعة. ربما تظل محدودية الامكانيات المادية هي العائق الذي يحول دون تحوّل فكر الطليعة من ملهم لقبضة المناضلين المؤثرين والفاعلين إلى تيار جماهيري لان ظروف الثمانيات ليست ظروف اليوم وفكر الطليعة لا يجد أية صعوبة في إلهام الشباب في تبنيه واعتناقه والتبشير به متى وصل والوصول إلى أوسع شريحة من الشباب يتطلب وسائل وامكانيات تعوزنا الآن. النماذج البعثية تتداعى من عقد إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، فهل البعثيون في تونس أكثر إيمانا من بعثيي الشرق العربي؟ البعث عقيدة وفكر ومنهج في الحياة، قبل ان تكون نماذج حكم هذا أوّلا، وثانيا البعث تيار فكري عقائدي وسياسي ثري ومتنوّع، وخصوصيتنا في الطليعة العربية اننا منذ البداية آمنا بالعقيدة والفكر بثوابتها وأساسيتها وبحركيتها البناءة، المتحوّلة والمتطوّرة ولم نتعلق يوما بالقيم أو الرموز أو الاشخاص ذلك ربما ما جعلنا نفترق عن رفاق الأمس لأننا نعتقد اننا ابناء الحاضر والمستقبل فلم نتردد لحظة في تشريح اخطاء وتجاوزات الماضي بكل قسوة خاصة عندما يتعلق الأمر بما سميته بالنماذج وقد تمّ ذلك في وقت مبكّر. في ظلّ هيمنة النيوليبيرالية المتوحشّة، هل تعتقد أن الشعوب العربية لا تزال في حاجة إلى الفكر القومي؟ أكيد أن الشعب العربي في أشد الحاجة اليوم واكثر من اي وقت مضى إلى مقاربة قومية، ذلك ان الهيمنة النيوليبرالية المتوحشة هي مظهر من مظاهر التحدّي الاستعماري في بعده الاقتصادي لا يعالج ولا يرد عليه، إلا بمقاربة قومية، ولا أمل لأي قطر بمفرده في فرض احترام ارادته ومصلحته الوطنية وتحقيق الأدنى من مطالب الجماهير العربية في الحياة الكريمة. والمسألة لا تتعلق بصلاحية الفكر القومي، خاصة اذا تناولناه في مفرداته وصياغاته الكلاسيكية المشحونة بالعاطفة رغم اهميتها والمكبلة بنوع من السلفية التاريخية واعتقد ان المهتمين بالمسألة القومية وبالمقاربة القومية قد بدؤوا بالانكباب على المراجعات الضرورية التي لا تمس الثوابت ولكن تحفر في كلّ الامكانيات التي يتيحها الواقع ويعد بها المستقبل حتى تكون استجابة عملية تغادر الحلم دون ان تلغيه لتمسك بالواقع دون ان تخضع إليه كي تطوّره وتنحت من خلاله المستقبل الذي لا نراه إلا بأنف قومي يحترم الخصوصيات الوطنية. لئن خرج القوميون والوحدويون من الانتخابات الخاصة بالمجلس الوطني التأسيسي بيد فارغة والاخرى لا شيء فيها، فإن مكانهم ظلّ شاغرًا داخل المجلس وداخل الساحة الوطنية ما رأيك؟ لقد كوفئ القوميون والوحدويون ونالوا جزاء تفرقهم وتشتتهم أوّلا، وأيضا جراء خطابهم الذي ظلّ اسير محطات تاريخية واستحقاقات غير محلية علاوة على عدم تمكنهم من الوصول الى الشريحة الواسعة للناخبين لاسباب ذاتية تتعلق ببُناهم التنظيمية وطرق نشاطهم وموضوعية تحكّم فيها اساسا حال الاستقطاب الحاد الذي قسّم المجتمع الى متأسلمين وحداثويين. في ظلّ موجة التحالفات وفي ظلّ واقع الاندماج بين الكيانات السياسية، أين تجد الطليعة نفسها ضمن إعادة التشكل الحزبي والتنظيمي الجديد؟ دونما تعقيد الاشياء، الموقع الطبيعي للطليعة العربية هو ضمن القوى الديمقراطية التي تؤمن بمدنية الدولة وأولوية الوطني والاجتماعي. وتعتقد ان اللحظة السياسية الرّاهنة تقتضي تكتّلا جبهويّا لا يطمس الخصوصيات والاختلافات الصغيرة او الكبيرة، لكن يوحد اوسع شريحة ممكنة من الفعاليات السياسية المؤمنة ببناء الدولة المدنية الديمقراطية والتي لا تساوم في المسألة الوطنية وتضمن الحدّ الادني على الأقل من الحقوق الاجتماعية لشعبنا. للأستاذ أحمد الصديق حضور لافت داخل قطاع المحاماة، فكيف يقرأ خلفيات الصراع داخل العمادة والذي استمر أشهرًا؟ ما كان لقطاع المحاماة ان يفلت من حالة التجاذب او الانفلات الذي عرفه المجتمع بطم طميمه وبكل مستوياته، فالخلفيات السياسية والمصالح الشخصية والارتباك كلّها عوامل ساهمت في الحالة التي عشناها ولكن أؤكد أن قطاع المحاماة كان مسلحا بما يكفي من الحصانة في وعي منتسبيه حتى يعالج الازمة ويخرج منها وهو ما حصل يوم 05 ماي 2012 عندما دعا المحامون إلى حسم الخلاف، وكانت النتيجة ان ثلاثة ارباع من ساهم في التصويت وعددهم معبّر جدًّا (2034 محاميا) تبنوا موقف اغلبية اعضاء مجلس الهيئة وقرارها المؤرخ في 5 جانفي 2012. بعد التباعد الذي رسمت مسافاته الخلافات الفكرية أحيانا والمهنية أحيانا أخرى، بات تقاربك مع العميد شوقي الطبيب لافتا فهل كانت مساندتك للشرعية وحدها وراء هذا الالتقاء؟ لقد كان وقوفي مع اغلبية اعضاء المجلس في اختيار الاستاذ شوقي الطبيب لسد الشغور في منصب العمادة نابعا من قراءة موضوعية تقودها مصلحة المهنة وضرورة ملء الفراغ والانحياز الى النفس الشبابي داخل المحاماة والابتعاد عن التجاذبات الحزبية وضمان استقلالية المهنة وخيارات النجاعة. وانا سعيد بأن المحامين عندما تمت دعوتهم للبت في الموضوع، انتهوا في اختيارهم الى ما انتهيت اليه، واعتقد ان ما قادني قادهم في اختيارهم. كيف للمتابعين السياسيين تصنيف نضالك وفي أي اطار يمكن أن يضعوه، فهل أنت من النخبة أم من الجمهور؟ لو قبلنا بهذا التصنيف (نخبة جمهور) لكان جوابي بأنني من الاثنين معا لكن لي في المسألة رأي مختلف ذلك ان التصنيف التقليدي (نخبة جمهور) ليس سليما حتى لدى ممن يدعي او يرى ان النخبة بوصفها صنفًا اجتماعيّا فاعلاً يقتضي الانتماءُ اليها اختلافا بيّنًا مع شروط الانتماء مع الجمهور غير مصيب واقول في هذا الصدد إنّني من الجمهور وصلب الجمهور ولا أجد معنى لما اصنعه ولما اقوله ان لم يكن متعاطيا وبشكل دائم ويومي مع الجمهور لا أحب اطلاقا ان اكون ضمن تلك النخبة المعزولة التي تستنكف من الجمهور او تعتبره قاصرًا على فهم الاشياء. من لا يعرف مهنتك يعتقد لأوّل وهلة أنك مسؤول نقابي بالاتحاد العام التونسي للشغل، فكيف تدقق علاقتك بهذه المنظمة؟ لا أدري كيف أنأى بإجابتي عن العاطفة ليس هربا منها ولا طمسًا لها، ولكن لان العقل والواقع جزآن كبيران منها فأقول بانني ابن الاتحاد العام التونسي للشغل معنويا، فمن عاش وهو في بداية طريقه احداث 26 جانفي 1978 ومن تفتح وعيه على صور الرموز المعلقة في البيت لحشاد والحامي ومن عايش القصص الصغيرة ومعاناة وآلام عمّال الشحن والرصيف (الوالد كان موظفا بميناء تونس)، أنا أسير لصُور عديدة شكلت وعيي منذ ان كنت تلميذًا في ديبوزفيل لا يزال صدى هتافات سكك الحديد في مستودع فرحات حشاد ابان اضرابات السبعينات عندما اكتشف لأوّل مرة رائحة الغاز المسيل للدموع والمناسبات كثيرة بيروت 1982 عندما كانت بطحاء محمد علي ملجأ للمحتجين على هول فضيحة الانظمة العربية، ثم بوصفي محاميا كنت على خطى من ارتبطت اسماؤهم من المحامين بمحاكمات النقابيين الشهيرة وهم اعلام في مهنتنا ومنهم العميد منصور الشفي، ولعلمك في لقاءات المحامين وفي لحظات صفوهم وسمَرهم عندما يستحضرون أمجادهم لا يغيب الحديث عن بطولات النقابيين والمحاكمات المعروفة وعمّا فعله المحامون انتصارًا للحرية وللحق النقابي. ودون مبالغة، اعتقد ان التونسيين جميعا حتى الجاحدون منهم مدينون للاتحاد العام التونسي للشغل قيادة وقواعد لدوره القيادي والمتميز في الثورة التي اطاحت بالحكم السابق فلن ننسى أبدًا صبيحة يوم 12 جانفي 2011 عندما خفقت قلوبنا، داخل الهيئة الوطنية للمحامين ونحن نستطلع اخبار الاضراب العام في صفاقس ولن ننسى أيضا اننا نزلنا معا الى الشاعر يوم 14 جانفي جنبا إلى جنب مع النقابيين. واعتقد ان قدر كلّ نفس نضالي داخل المحاماة مرتبط بشكل وثيق بتاريخ المنظمة الشغيلة وحاضرها ومستقبلها. لئن بدتْ علاقتك مميزة أيضا بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان فكيف توزع طاقاتك النضالية بين ماهو سياسي وماهو قطاعي وماهو نقابي وحقوقي؟ لا يمكنني أن أكون الا كذلك، فحينما كانت هناك حاجة إلى المساهمة النضالية فإن قدر كل من نذر نفسه للعطاء ان يكون موجودًا اجتماعيا حيثما تطلّب الأمر ذلك مع أنّني وبحكم مسؤوليتي صلب الهيمنة الوطنية للمحامين في جوان 2010 أكرّس معظم وقتي لتلك المسؤولية حتى أفي الثقة التي منحني اياها زملائي المحامين وحضوري في الفعاليات الأخرى لا يُمسُّ ولا أجعله يتداخل إطلاقا مع صفتي المهنية في مجلس الهيئة.