عند بادئ الرأي قد يبدو معرفا (Les deux notions) الشّعر والثّورة لفظين برئيين ومن هنا يمكن أن يبدوا أجوفين من جهة التّهمام التّساؤلي. ولكن عندما نتخطّى بادئ الرأي هذا وننظر إلى هذه المثناة (la dyade) عن كثب وعلى مكث تتحوّل في أعيننا الوهاد الى تضاريس والوضوح إلى ضبابيّة واليُسر إلى عُسر والبداهة إلى إعضال واستشكال. وهكذا يخرج المَعْرَفَانِ من وضع التّجويف إلى وضعيّة الامتلاء، فإذا كلّ كلمة حُبلى وإذا رُواء المعنى وماؤه ينصبّان في قرار مكين حَسْبُنَا في هذه التّوطئة الإيماء الى أنّ من أوجه الاستشكال أن نتساءل عن حضور الذّات والتّاريخ داخل الفضاء الذي هو القصر المشيدُ لهذه الثّنائية. بلغة أخرى، ألا يحق لنا أن نتساءل عن حضور الذّاتي والتّاريخي في الشّعر. وعن حضور هذين العنصرين في دائرة الثّورة. كما يُمكن أن نتساءل عن تمحّض الشّعر والثّورة لكل من الذّات والتّاريخ أم إنّ الذّات والتّاريخ يحضران سواءٌ في كل مَعْرَفٍ قائم برأسه. وعلى فرض التّسليم بهذا الوجه لأنّه ربما الأكثر وجاهة أفلا يحقّ لنا ان نتساءل: هل أنّ الشعر والثّورة التي يُفترض أنّ كلّ زوج منهما يستوعب الذاتي والموضوعيّ بعُجَرهِمَا وبُجَرِهِمَا أم انّ سيولة المعنى تفترض بله تفرض أن يطغى الذاتيّ والموضوعيّ في كلّ زوج من الزّوجين الاثنين حتّى يتدفّق شيء منه الى الزّوج الثّاني. حسبنا في هذه التّوطئة الوقوف على هاوية الرّعب هذه. ولتَجِدُنّ في صلب هذا الحديث تقليبًا لأوجه أخرى من الاعضالات والاستشكالات والتّوتّرات تربُو على ما تكفّل به هذا المدخل. مدى أوّل: وضع الاختلاف إذا نحن قلنا أوجُهنا في سماء المعاني من جهة هويّتها وأصولها وفصولها لم نجد عُسْرًا في الحكم على أنّ معْرَفَيْ (les deux notions) الشّعر والثّورة ينتميان إلى مدارين مُختلفين بحيث لا سبيل إلى التقائهما عند كلمة سواء. فإذا انت يمَّمت وجهك نحو مَعْرَفِ الشّعر وجدته يتميّز بعنصر الفَرادة والذّاتيّة في حين يكون معرف الثّورة إذا أنت يمّّمت و جهك شطره متسربلا بسربال الجماعة. هذا من ناحية. ثمّ أنت إذا أرجعت البصر كرّتين في اتجاه هذين المصطلحين بدا لك الشّعر موصولاً بالإلهام والنّبوغ والعبقريّة. فَرَئِيُّ الشّعر يبدو متعاليًا عن (الزّمان والمكان. ولعلّه من أجل ذلك سوّغت العرب لنفسها أن تصل الشعر بما لا تبصر لا بما تبصر، سواء على هذا الذي لا يبصرُ كان من الجنّ أو الجنّ حسب التّقسيم الجاحظيّ المبسوط في كتاب «الحيوان». في حين تكون الثّورة بعيدة عن هذه المدارات التي سُدَاها «la trame» التلغيز والتّرميز. فنجد مُؤرّخين مثل جول ميشلي(1798 1874) واوغسطين تيارّي (1795 1856). يبدآن ويعيدان في تحليل كيمياء الثّورة الفرنسيّة بما هي حدث إلاّ يكُ هو والحادث الطّبيعي. متماهيين من جميع الوجوه فهما على أيّة حال صنوان يُسقيان من ماء واحد وإن فُرِّقَ بينهما في الأكل. مدى ثان: وضع الائتلاف لو تعلّقت همّتنا بوضع يسفر في قضيّة الشّعر والثّورة لكنّا جديرين بسوق أوجه عديدة من مدى الاختلاف ولكنْ باعتبار أنّ هذا الحديث الذي أسوقه عبارة عن مُحاضرة فحسبنا الإيماءة السّّريعة العجلى درءًا للملال والكلال. هذا، وإذا تعلّق الشأن بوضع الإئتلاف فيمكن لنا القول إنّ مدى الاختلاف بمثابة الشّجرة، وما كان للشّجرة أيّا ما كان بُسوقها وارتفاعها في أجواز الفضاء. ما كان لهذه الشجرة ان تخفي عنا الغابة. فإذا نحن رصدنا حركة الشعر في أيّة أمّة من الأمم أكانت تليدة مثل اليونان والرّومان أم كانت وليدة مثل بلاد الفرنجة أو كانت تجمع بين القدامة والحداثة. مثل العرب فإنّ هذه الحركة يتحقّق مسارها ضمن ثورات تجدّد حياة الشّعر وتضُخُّ في شرايينه ماء الحياة الدّافق. هذا من جانب، ومن جانب آخر فالثّورات الكبرى سواء منها ما جدّ بين ظهرانِينا أو ما حصل تحت سماوات أُخر(Sous d'autre cieux) هي في عمقها تخلّق شعري بأتمّ معنى الكلمة. إنّ الثّائر ليحمل بين جَنْبيْه طاقة جياشة لتعرف نارها المقدّسة أيّ همود أو خمود أو رقود. كما أنّ الشّاعر يكون ممتلئا بذات النّار المقدّسة التي تجعله قادرًا على تحطيم كلّ الأوثان اللّغوية والأسلوبيّة والمذهبيّة وبالتالي كسر كلّ القيود والحدود والسّدود. من وضعيّة التّبديل إلى آفاق المآلات نحن لا ننكر أن تناول اشكاليّة الشّعر والثّورة من النّاحية النظرية وتفكيك ما يقوم بينهما من وشائج فعل فكريّ لا مِرَاء ولا مشادّة في غنائه التّجريدي ولكنّنا نزعم انّ الصّورة لا تكتمل ولا تتكامل بل ولا حتّى أن تشارف على الإكتمال إلاّ إذا خضْنا في مبحث المآلات. والحقيقة أنّ مبحَثَ المآلاتِ هذا ليْسَ تماميّة وانتهاء بل هو تشوُّف وتطلّع واستشراف. الشّعر من جهة مبحث المآلات لا يمكن له أن يبقى حبيس الذّات ولا حبيس تجربة التخليق. إنّه يأبى أن يبقى رهين المحبسين الذّات وتجربة الابداع على ما في هذين المدارين من ثراء وغنىٍ. بل انّ الشعر نزّاع بطبعه الى معانقة آفاق الآخرين وتغيير حياتهم الشعوريّة والتّعبيريّة والواقعيّة. خذ لذلك مثلا العرب. فهذه الأمّة من النّاس سواء عليك أنظرْتَ إليها في جاهليّتها أو في إسلامها وجدتها أمّة شاعرة لا بمعنى أنّ الشّعر يجري على ألسنتها وتطرب له مشاعرها وعواطفها فقط، بل لك أن تعتبر أنّ الشّعر قد طبع كما لم يطبع أمّة أخرى من قبل ولا من بعْدُ حياتها العامّة والخاصّة. أمّا الثّورة من جهة مبحث المآلات فليست حدثا برّانيّا لا يعدو أن يلمس لمْسًا رفيقا مسوح الأمّة وسرابيلها بل هو حادث شعريّ انسانيّ قيميّ شعوريّ يأتي على بُنيانها وحتى بنيتها من القواعد ويقْلبُ حياتها البرّانيّة والجوّانيّة رأسًا على عقب. إنّ انسان الثّورة لابدّ أن يكون مُختلفًا جوهريّا مع ذاك الكائن الهلاميّ الذي يسبق الثّورة وقد نحسبه انسانًا وماهو بانسان. انّ انسان الثّورة وما بعدها هو كائن الشعر بامتياز، فبفضل الثّورة والشّعر لابدّ أن نخرج من تكلّسنا وتيبُّسنا وتحجُّرنا وانحطاطنا العاطفي والعقلي والقيمي والسّلوكيّ. إنّ الثورة والشّعر يهدفان، في مآلاتها القصوى إلى نحت كِيانٍ انسانيّ بل قد تهدف الثّورة إلى الشّعر في مآلاتها القُصوى إلى نحت الانسان الأرقى، لا في الدّلالة النّيتشويّة الحرفيّة بل بمعنى القطع مع كلّ أشكال الانحطاط الفكريّ والقيمي والحضاري الذي استمرأناهُ واستعذبْناه وأُشْرِبتْ قلوبنا كَدَرَهُ وطينهُ حسب عبارة عمرو بن كلثوم التّّغلبي طيلة عقود وعقود إلاّ تَكُنْ قرونا متطاولة. تلكم هي المآلات في آفاقها السّامقة بالنسبة الى الشّعر الصّافي(la poésie pure)، وكذلك بالنّسبة إلى الثّورة الحقيقيّة والحقيقة بهذا الإسم.