إحدى وجوه الأشكالية البنوية التاريخية في حياة مجتمعنا والتي عبر عنها مفهوم «شبه إقطاع شبه مستعمر» أن مبادرة الاصلاح جاءت من خلال التيوقراط وبالتالي عبر منظور تيوقراطي تقليدي وقفت وراءه طبقات تقليدية رجعية وحركة استعمارية فاشلة ومهزومة، وهو نفس المنظور الذي حكم مجتمعات بدائية قديمة عجزت عن تحديث أدواتها ومفاهيمها الدينية والسياسية والاجتماعية فعانت عدة استحالات هيكلية قبل ان تنقرض نهائيا. التأسلم السياسي الذي بات يستهدف الاعتدال الديني والوسطية السياسية بات يقر أن التحديث الذي دعت اليه حركة الاصلاح التونسي والذي كانت تكيل له تهم المروق عن الدين وتتهمه في عقيدته وصلاحه الديني وترميه بالتغريب بما في ذلك ذاك الذي قاده الرئيس الأسبق «الحبيب بورقيبة» نفسه ليس اكثر من أطروحة فقهية زيتونية أجتهادية حاولت البحث عن قيم تحررية في الدين وعند الأكليروس «مجلة الأحوال الشخصية» أكليل فخر البورقيبية ومجدها، التحديث تزعم النهضة ويزعم بعض مفكريها الجدد من مثل «الصحبي عتيق» انها أطروحة فقهية وان خلفيتها الدينية الاصلاحية يمكن ان تكون مصدرا رئيسيا من المصادر النظرية للحركة «السلفية» ولحركة التحديث التي تبشر بها «النهضة»؟! لقد كان الزعيم «بورقيبة» لا يعتقد بالديمقراطية والتداول السلمي على الحكم لقد كان هو نفسه يثير المشاعر الدينية لأوسع السكان كوسيلة فعالة لمقاومة أعدائه السياسيين ويجازف بالدفع بهم الى الموقف الرجعي والى النزاعات الطائفية وما الى ذلك من مظاهر الانحطاط السياسي الذي ستعتمده واعتمدته المصالح المتدينة لأبتزاز الشعب وقهره. أفليس من الانحطاط السياسي انه كان يسمى نفسه بالمجاهد الأكبر ويخوض الحرب المقدسة ضد «الفتنة اليوسفية» أفليس من الانحطاط السياسي تلك البطريكية الأبوية التي كان يتعامل بها مع «الديمقراطيين الشباب» والذين كان يرميهم بالمائعين وبالملاحدة ويلاحقهم بالسباب الاخلاقوي المتخلف؟! هذا الاستطراد لا يبحث عن اثارة واستفزاز «البورقيبة السياسية» ولا يبعث على الحكم القاطع والاجمالي بعدمية التحديث البورقيبي، فالموقف المنصف لا يجب ان ينكر على البورقيبة بعض النجاحات على الاقل في مجالات الاجتماع وهي نجاحات لا تستمد خلفيتها ورافعاتها من الدين بل وعلى النقيض تماما حتى انها كانت تثير فزع المتدينيين وتصدم بعلمانيتها تطرفهم فالرجل كان يؤسس لسياسة أنجابية يجهلها الفكر التقليدي ويراها ضربا من الكفر، وعلى الرغم من ذلك او بفضله ايضا ونتيجة له اكتشفنا بعد عقود قليلة ان ذلك التحديث كان هشا ايضا ولم يوفق في بناء مجتمع عقلاني حداثي كما كنا نريد ونطمح بل وكما بشرت بذلك البورقيبة نفسها، هل ثمة حقيقة وفعلا دين لا عقلي انعزالي خانع وآخر ثوري أو مصلح تقدمي يمكن ان يكون له دورا ولو حتى ضئيل في النضال ضد الاستبداد والتخلف؟! هل وقف هذا الدين الثاني أو هؤلاء المتدينون المصلحون فعلا وحقا مع النضال لفائدة الحركة الدستوية والنظام الجمهوري وقيم العقلانية السياسية أما ان الدين اقترن مرة والى الابد بأنظمة الحكم الاستبدادي المطلق ومجتمعاته الشمولية المتخلفة، التاريخ بما في ذلك تاريخ «الحركة الوطنية» كعميلة تاريخية وفي محصلته النهائية الراهنة لم يقدم لنا بما يفيد العكس الا مع بعض الاستثناءات الهامشية والنادرة والنادرة جدا والتي كان دور التدين السياسي فيها دور «الجلاد» قاطع الرؤوس والايدي والارجل، الراهن كذلك يرمي تلك الخراقة وذاك السخف القائل بوجود تيارين في الدين واحد متحرر أو تقدمي يقابله التيار المتحفظ والتكفير. ثم ان المناظرات المفتوحة والمناقشات العميقة والصريحة والمباشرة تكشف لنا عن وجود تدين محافظ رجعي يعادي مفاهيم التعاقد السياسي ويقول بتحالف المتدينيين الكفاحي لصالح الحكم الاستبدادي والهيمنة الاستعمارية بضع التقدمين المتعاطفين مع خطاب النهضة «الوسطى» الجديد يزعمون انهاقد تكون خسرت رهانها مع تطرفها ومليشيات التدين المسلح وانه علينا ان ندعم نواياها التحررية التحديثية انهم يجهلون انه حتى وان كان ذلك؛ بعضه صحيح فأنه لا يمكن ان يكون هناك خط «وسطي» في مجتمع انتقالي تتصارع فيه قوى الجذب الى الخلف مع قوى الديمقراطية والتقدم بلا هوادة خاصة وقد قامت «الثورة» أو «الحالة الجديدة» بأذكاء ذاك الصراع والحال ان ما بات يتميز به الموقف الطبقي للبرجوازية الصغيرة وتطالعاتها هو إرادة المستحيل أو البحث المستحيل اي البحث عن هذا الخط الوسطي وبالنسبة للنهضة فان البحث عنه قد يكون دفعها الى ملاطفة البورقيبية وتحديثها الكولونيالي وقد يدفعها الى ما هو أبعد من ذلك اي ملاطفة الهيمنة الاستعمارية ومخطاطاتها وتبعاتها بالخرائط الجيو أثنية، قد يكون لذلك السلاح المتطرف دينيا البعض من الذرائع المنطقية حين كان نظام الدكتاتورية والفساد يلاحق التدين بمختلف صوره، راهنا لم يعد لذلك السلاح من ضرورة واصبح من يمده بالاسباب لإذاء المجتمع المدني والحركة الديمقراطية مجرما مثله تماما، صلة الاسلام العقيدة بالبنى الاجتماعية تكاد تكون معدومة وصلة المسلمين المشددين بما صنعوه بالاسلام وبالبنى الاجتماعية لا يمكن الخلاص منها الا بالقطع النهائي معها باعتبارها تاريخا مظلما للاستبداد والقهر وحتى وان لم تكن كذلك فالاسلام عقيدة يسمح لأتباعه دون ان يغدروا مضمونه العقائدي ان يكونوا علمانيين وان تكون صلة العقيدة بالبنى الاجتماعية معدومة، فلاسفة التأسلم السياسي وقاداته يدركون ذلك حق الادراك ويعملون بكل جهد وأخلاص لعكسه تماما، اننا علمانيون لأننا نرفض ورفضنا الديمقراطية التي تسن القوانين التعسفية المناهضة للدين. العقيدة بقدر ما ندعو ايضا الى ديمقراطية متشددة حيال الاحتجاج المتهارج بالدين والذي لا يفعل اكثر من افساد البيئة التي يقضي فيها المتدين حاجته الدينية، انهم يعملون على افساد البيئة السياسية التي يمارس فيها الديمقراطيون «سلطة الشعب» ويحققون بواسطتها حقوق المواطنة، ثم انه وخلافا للأدعاءات التي بات يتبناها قسم مهم من اليسار الديمقراطي فان التأسلم السياسي أيا كان رهطه وخاصة ذاك الأرعن الذي لا يعتقد بالديمقراطية ويجاهر بمعاداته للنظام الجمهوري والتداول السلمي على الحكم ويرى ضرورة تطبيق ما يسميه «بالشريعة» والذي هو ليس اكثر ولا أقدس من موسوعة تشريعية تعسفية قديمة خلفتها لهم أنظمة حكم استبدادية بائدة وملوك فاسدون وقتلى والمعبر عن نفسه سياسيا راهنا بالسلفية الجهادية أو بحزب التحرير فانه ليس الا اذرع اخرى أخطبوطية من أذرعة «الأخوان المسلمين» وان الحركة الاسلامية الكلاسيكية ترعى جميع ذلك وتعتمده ولا ترى اية ضرورة للتعرض له ومعالجته بوصفه عدوا للديمقراطية ولحقوق الانسان والنظام السياسي المدني بجميع ومختلف رافعاته من حرية تفكير وحرية تعبير واعلام والتثاقف وما الى ذلك...