لئن كانت الأخطار التي تتهدد الشعوب والأمم كثيرة ومتنوعة، إلا إنه يمكن إيجازها في ثلاثة أخطار لعلها الأكبر: 1- الخطر الخارجي. 2- خطر الأنقسام والإحتراب الداخلي. 3- خطر الإستبداد السياسي. وليس الترتيب تفاضليا بالطبع، لأن الخطر الأكبر من هذه المخاطر المشار إليها هو خطر الإستبداد ونظام الحكم القهري الذي، كما يمكن أن يكون مدنيا فرديا أو عائليا أو قبليا أو عشائريا أو حزبيا أو طائفيا، يمكن أن يكون عسكريا أو مخابراتيا بوليسيا. وهو الأخطر لأن الخطرين الآخرين يمكن أن يكونا نتيجة له ومن تداعياته وبسبب خياراته المختلفة الفاسدة. ولنا في ما حصل قديما في الكثير من مناحي الأرض خير دليل، ولنا في ما حصل وما هو حاصل في أفغانستان والعراق والصومال واليمن وباكستان خير مثال على ذلك.
- أهم مخاطر الإستبداد: ليس للإستبداد في الحقيقة مخاطر باعتباره من أهم المخاطر على الإطلاق. وهو مصدر كل المفاسد والأضرار والخسائر، ولكن الذي أردت الإشارة إليه هو المقتل الأكبر الذي يمكن أن يصيب به شعبا من الشعوب أو أمة من الأمم، والذي لا يمكن أن تكون الخسارة فيه تضاهيها خسارة، وهي الخسارة التي يمكن أن تمتد آثارها السلبية المدمرة في الزمن. وهي التي يمكن أن تكون لها التداعيات الأكبر أكثر من أي خسارة أخرى من تلك التي يصيب بها الإستبداد الأوطان والشعوب والأمم. ذلك أن أشد ما يصيب الإستبداد العنصر البشري عموما والرصيد البشري الأهم الذي يمثله الشباب خاصة. فليس أخطر على الشعوب من تدمير الخلف الذي يمثله شباب كل شعب. ولا تدمر الشعوب إلا بتدمير أجيال الشباب فيها. وإذا كان المحتل الأجنبي دائم الإستهداف في التدمير للعنصر البشري عموما بوسائل وأدوات مختلفة، فإن أشد ما يكون حريصا على تدميره هو الأطفال والشباب. وقد رأينا ومازلنا نرى كيف أن الكيان الصهيوني والإحتلال الأمريكي الغربي يمعن في الإستهداف المباشر لأطفال وشباب أفغانستان والعراق وفلسطين ووزيرستان... بالقتل والتيتيم والتشريد والإعاقة والتجهيل والتهميش والتجويع. وإذا كان الإحتلال يفعل ذلك لأغراض وأهداف سياسية واقتصادية وثقافية ودينية وعنصرية من أجل الهيمنة والنهب والمجد والسيطرة والأرض والإستيطان، فإن للإستبداد أساليبه وطرائقه ووسائله المختلفة التي يضمن بها السيطرة، وله غاياته وأهدافه التي عادة ما يلتقي فيها، خاصة في هذه المرحلة من التاريخ التي انتهت فيها السيطرة والتفوق الحضاري للغرب الصليبي اليهودي الإستعماري الصهيوني، مع الأجنبي الذي يقيم قوته، ليس على إبداعه في العلوم والمعارف وتفوقه فيها فقط، ولكن الأكثر من ذلك أن أكثر ما انتهى به إلى هذه القوة وذلك التفوق، هو أنه بنى حضارته هذه وقوته وتفوقه ذاك على جماجم الشعوب. فإذا كان لا قيام لشعب في أي بلد ولا استمرار له في الوجود إلا بخلفه من الشباب، فإن تدمير الشباب هو تدمير للشعب وللبلاد حاضرا ومستقبلا.
- أهم مراحل تدمير الرصيد البشري للشعب في تونس العروبة والإسلام: فبمرور الشعب التونسي كجزء من باقي شعوب أمة العرب والمسلمين بثلاث مراحل رئيسية في تاريخه، والتي هي مرحلة الإنحطاط في الحقبة العثمانية، ومرحلة " الإستعمار " في حقبة الإحتلال الغربي لمعظم بلاد أمة العرب والمسلمين والغزو الفرنسي لبلادنا، ومرحلة استبداد الدولة العلمانية الحديثة المغشوشة، فقد كانت السمة البارزة المشتركة بين هذه المراحل الثلاث، هو تدمير العنصر البشري فيها بالجهل والأمية والتخلف والإنحطاط مرة، وبالقتل والإبادة والنهب والمسخ أخرى، وبالقهر والتغريب والتكفير ثالثة. والذي بات مؤكدا بعد المرور بكل هذه المراحل، أن المرحلة الأكثر خطورة على الشعب التونسي وعلى أبناء الشعب التونسي وعلى قدراته وطاقاته الشابة، هي مرحلة الإستبداد التي حرص المحتل الفرنسي حرصا شديدا على أن لا يترك البلاد ولا يغادرها عسكريا حتى يجد من يخلفه فيها، بما يتحقق له فيها من المصالح والأهداف والغايات، مما لم ولا يتحقق له باستمرار وجوده العسكري فيها. وإذا كان رهان كل شعب لا يكون إلا على شبابه، فإن رهان كل أجنبي ومحتل لا يكون إلا على قتل هذه الفئة من الشعب وتدميرها بكل ما هو قادر عليه وبكل ما يستطيع، وليس مشروع دوبياس في تونس بعد رحيل جحافل عساكر الفرنسيين منا بمجهول. وليس المشروع التغريبي الذي كان الهالك الحبيب بورقيبة ومن معه من المجرمين والمخدوعين والمفسدين والمغرورين وحتى بعض الصالحين أحيانا أمناء عليه إلا قتلا للمواهب وتعطيلا للطاقات وصرفا لاهتمامات شباب تونس العروبة والإسلام عن قضاياه الحقيقية المصيرية، وتوجيهه نحو الرذيلة والفساد، وصرفه بقوة الإعلام والبرنامج الثقافي التغريبي التكفيري، والإستبداد السياسي، والقمع البوليسي عن ثقافة الفضيلة والعفة، والإلتزام بقيم الحق والعدل والحرية والمساواة. وكان نتيجة كل هذا التراكم وهذا الإخضاع، هذه الأوضاع التي انتهى إليها شباب تونس في هذه المرحلة من تاريخ الإنحطاط و" الإستعمار " والإستبدد. هذا الجيل الذي كان نتيجة هذه الفترة الأخيرة من مرحلة الإستبداد التي، وإن كان الهالك الحبيب بورقيبة قد مهد لها وأعد لها، إلا أن جيل العلمانيين واللائكيين من اليسار الماركسي والقومي العربي العاق للوطن والأمة وللشعب، كان الأسوأ والأخطر والأكثر والأشد فسادا. وهو الذي كان انقلاب يوم 7 نوفمبر 1987 قد جاء به للسلطة عبر صيغة للتحالف المشبوه الذي لا مبرر له إلا الرجوع بالبلاد إلى بداية حقبة ما يسمى بالإستقلال في نهاية الخمسينيات والستينيات، بكل انتهازية وعبر العداء للديوقراطية ولعروبة تونس وإسلامها، وسط لغط إعلامي مغشوش، باتجاه المصالحة مع الهوية العربية الإسلامية لتونس، والتبشير بحلول زمن لا ظلم فيه بعد انتهاء مرحلة حكم الهالك الحبيب بورقيبة وبداية سلفه زين العابدين بن علي، والإعلان عن بلوغ الشعب التونسي مرحلة من النضج لم يعد من الممكن ولا من المناسب أن لا يكون في تونس نظاما غير ديمقراطي قد أصبح هذا الشعب أهلا له، وتهافت نحو المواقع الأكثر أهمية، والتي يكون لكل طرف الثأثير الأكبر على رسم سياسة البلاد من خلالها. ولقد كان واضحا منذ البداية، وأكثر من أي وقت مضى، التركيز على توجيه الرأي العام عموما والشباب بصفة خاصة إلى ثقافة الرذيلة والإنحلال والفساد والإنحطاط الأخلاقي والإنحراف السلوكي، في إطار خطة تجفيف منابع التدين، بمصادرة الكتاب الإسلامي وغلق المساجد ومنع نشاطها، وتعيين في مواقع الأئمة أشخاصا يشترط أن لا يكونوا من المقبولين اجتماعيا ولا قدوات، وليس فيهم الحد الأدنى المطلوب شرعا من شروط الإمامة، بل المطلوب منهم أن يكونوا مخبرين، وأن لا يكون القبول بهم إلا على أساس الإنتماء الحزبي والولاء للسلطة والدعاء للرئيس، وتجريم كل من يكون على خلاف ذلك، وكل من لا يكون تدينه وفق مفهوم السلطة للتدين، وسط حملة أمنية متواصلة على الحركة الإسلامية وعلى الشباب المسلم المتدين وكل الملتزمين منه بقضايا الحق والعدل والحرية من كل ألوان الطيف السياسي الذي استعاد موقعه في ساحة المعارضة بعد أن هجرها الكثير منه بضع سنين.. ففي الوقت الذي كانت الحملات متواصلة فيه ضد الشباب المتدين وكل من له اهتمام بالشأن العام من أي موقع من مواقع المعارضة للنظام، ويزج بالآلاف في السجون حيث يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل والترهيب، والملاحقة الأمنية المستمرة وحرمانهم من مواصلة الدراسة، ومن الحق في الشغل ومن جل إن لم يكن كل الحقوق المدنية، وما يلحق أهلهم وذويهم جراء ذلك من أتعاب وخسائر وأضرار، كان المجال مفسوحا لكل مظاهر الفساد وكل علاقات الإنحلال والرذيلة والدعارة بالظهور، والقبول بها ومباركتها وتوفير الحماية لها. فقد تم تحويل اهتمام الشباب من القضايا الوطنية الهامة والإنشغال بالشأن العام إلى حصر اهتمامه في الجنس والمخدرات والخمر والعربدة والرقص والغناء الهابط والتنازع من أجل ذلك، بعد أن كان تنازعه وصراعاته قبل ذلك من أجل الثقافة والسياسة، والقضايا الوطنية والإقليمية والدولية الكبرى. لقد استحالت المعاهد الثانوية والجامعات وغيرها من مواقع والتقاء الإجتماع الشبابي إلى أوكار لممارسة الرذيلة، والإهتمام بكل ما له علاقة بالمتعة. وقد تم إرسال الفتيات والفتيان والرجال والنساء بعضهم على بعض يؤز بعضهم بعضا في الساحات العامة والخاصة، وسط ظروف اقتصادية سيئة وتزداد سوءا يوما بعد يوم، في مجاهرة واضحة وعلنية وصريحة بدون خوف ولا خجل ولا حياء من أحد، ولا مسؤولية في ما يمكن أن يترتب عن ذلك من مشاكل ومن مخاطر ومن مضار، لا يكون كل هؤلاء هم وحدهم الخاسرين فيها. هذه الخسارة التي يكون من الهين أن تطالهم وحدهم أو تنتهي حتى عند أوليائهم ومن لهم علاقة مباشرة بهم، ولكنها وبالتأكيد خسارة تتعداهم وتلحق المجتمع كله والبلاد كلها. فأي مستقبل لبلاد ولشعب يتم صرف أجيال شبابهما عن الإهتمام بالشأن العام وتجريمها على ذلك ومعاقبتها بأشد العقوبات، والزج بها عنوة وبسابقية تخطيط وبرمجة في متاهات الرذيلة والفساد الأخلاقي، والهروب من السياسي والثقافي والإقتصادي والإجتماعي والداخلي والخارجي، والقبول بالهامشية والإقصاء، والإنصراف عن كل ما له علاقة بحاضر بلادها وماضيها ومستقبلها، والخوف من بطش السياسي والطمع فيه؟ علي شرطاني