لا شك في أن جلّ المراقبين والمتابعين لفعاليات المؤتمر التاسع لحركة النهضة، كانوا يتوقعون نهاية وجع المخاض بوضع جديد، يولد تحت جذع «سمرة» غطت ظلال أغصانها شعار «مستقبلنا بأيدينا» وأجلت الحسم في مسائل جوهرية تأتي في مقدمتها رئاسة الحركة وضخ دماء جديدة في شرايين جسد مزقت أوصاله خلافات الخوارج ضد الدواخل والسجون ضد المهجر والشباب ضد الشيوخ والنقد الذاتي للفترة الممتدة ما بين سنة 1978 و2011 ضد غضّ الطرف عن الأخطاء والمنزلقات التي أدخلت اعدادا كبيرة الى السجون مثلما كادت تدخل البلاد في حمّام دم. وبين التقريرين المالي والأدبي والتعديلات المدخلة على النظام الداخلي وخاصة تلك المتعلقة بشروط الترشح الى مواقع قيادية (الرئاسة، مجلس الشوري، المكتب التنفيذي) وذلك فضلا عن الخلافات الجهوية ضد النزوع الجارف الى المسؤولية صلب حركة باتت تحكم البلاد منذ 23 أكتوبر2011. كل هذه القضايا الخلافية الحارقة تمّ تسفيرها قصديّا الى محطة المؤتمر الاستثنائي الذي سيعقد في أمواج متلاطمة من بحر سنة 2014 وعلى ضوء ما سيفرزه محكّ الانتخابات الرئاسية (نظام رئاسي معدّل) والانتخابات التشريعية القادمة. وهكذا يمكن القول إن أوجاع مخاض الحركة كان ناجما عن مخاض خاطئ fausse grosse في الشهر السابع سرعان ما تمت السيطرة عليها بمهدئات المؤتمر الاستثنائي وبالدعوة الى مزيد احتضان الشباب والمرأة ورعايتهما وكذلك الشأن بالنسبة الى ما تعج به الادارة التونسية من كفاءات وخبرات وما تتوفر عليه الساحة الوطنية من طاقات فكرية وسياسية. عين على البيادر وأخرى على المجاري لئن لم تستأثر جلّ اللوائح بجدل واسع وبخلافات عميقة عدا التقرير الأدبي الذي دعا المؤتمر الى إعادة صياغته من قبل مجلس الشوري الجديد فإن الصراع قد اصطدم وطال أكثر من الوقت القانوني المخصص له وفرض وقتا بديلا اقترن بكامل يوم الاثنين ليكون أقصاه في اللائحة الداخلية ولتكون الحرارة قد وصلت درجة الأربعين في النظام الداخلي. هاتان الوثيقتان هما المحددتان للتفاعلات الداخلية ولصراعات الأجيال والتيارات والأجنحة من أجل مواقع قيادية داخل الحركة ومن ثمة داخل نظام الحكم مستقبلا. إن الفارق الضئيل بين الرافضين لانتخاب رئيس الحركة من داخل قاعة المؤتمر (430 مؤتمرا) وبين المتمسكين بانتخابه من قِبَلِ (550 نائبا) يعكس بصورة من الصور الناصعة والجلية الرغبة الجامحة والواسعة أيضا في تغيير « الشيخ راشد الغنوشي » شخصيا وتغيير قيادة الحركة عموما. وما يؤكد موجة التغيير التي تقودها الجهات الداخلية وفئة الشباب وسجناء الداخل ضدّ الخوارج والدعويين عموما، ترشح نحو 12 شخصية لمنصب رئاسة الحركة (أحمد الأبيض، الصادق شورو، الهادي بريك، جمال العوى ، الحبيب اللوز، عبد الحميد الجلاصي، عبد الرؤوف الماجري، عبد الفتاح مورو، عبد الكريم الهاروني ومحمد شمام ومحمد العكروت ) وذلك رغم صرامة شروط الترشح و«قسوتها» فوق الأربعين عاما، من عشر سنوات أو أكثر في منصب قيادي). هذا العدد الوفير من المترشحين قد جعل كتلة الأصوات تتوزع وتتشتت مقابل انحسار الخيار حول الشيخ راشد الغنوشي . لكن عملية انتخاب الرئيس أو الأمين العام من داخل قاعة المؤتمر وإن كانت تعزز من سلطتيه المادية والرمزية داخل المكتب التنفيذي إلا أنها ستجعل الحركة أمام وضع محرج عندما ستبدي موقفها من طبيعة النظام السياسي خلال مناقشة مشروع الدستور القادم، حيث يصبح من المنطقي ان تتبنى حركة النهضة النظام الرئاسي المعدل بدلا من النظام البرلماني الذي كانت تنادي به، ذلك أنه ليس من السهل فك الرموز المفارقة بين تبني النظام الرئاسي داخل الحركة والمطالبة بنظام برلماني داخل الوطن. ومهما يكن من أمر، فإنه يصبح من الضروري ان تنتبه حركة النهضة الى مخاطر عملية انتخاب رئيسها من داخل القاعة، فهذه العملية قد انتهجها بن علي خلال مؤتمرات التجمع الدستوري المنحل واعتمدتها بعض الأحزاب والمنظمات الوطنية التي اندثرت واندثر معها زعماؤها. حرب الخوارج ضد الدواخل لا شك في أن المؤتمر الوطني التاسع لحركة النهضة قد لم شمل الشتات بالداخل والمهجرين بالمسجونين لكن علينا أن نعي ان الداخل دواخل فيه المساجين والسريون والمحاصرون فضلا عن قطاع واسع من النساء والطلاب الناشطين تحت يافطة (الاستقلالية) الاتحاد العام التونسي للطلبة (المنحل) كما ان الشتات أو الخارج يشكل بدوره خوارج، فيهم من عاش في أوروبا ومن عاش في أمريكا ومن عاش في دول الخليج العربي. هذه الفسيفساء الجغرافية قد يعكس تباينات فكرية واختلافات في وجهات النظر حول راهن الحركة ومستقبلها وحول أحقية فريق على الآخر داخل القيادة وعلاقة السياسي بالدعوي في مناهج النهضة، فضلا عن كونه قد طرح بحدة مبدأ المحاسبة على سياسة النهضة بين الولاء لبن علي (على حدّ القولة المأثورة للشيخ راشد الغنوشي ثقتي في الله أولا وثقتي في بن علي ثانيا وقبوله برخصة جريدة الفجر على حساب الرخصة القانونية للاتجاه الاسلامي وبين التصعيد ضد نظام حكمه وخاصة استعمال العنف الذي روّع النظام والرأي العام على حدّ سواء وأودى بآلاف الكوادر والمناضلين الى غياهب السجون وظلمات أنفاقه. كما فرضت هذه الفسيفساء مبدأ المحاسبة لأعضاء الحكومة وطرح إمكانية تغيير بعض الوزراء من خارج الائتلاف الثلاثي مثلما أعادت النزعة الجهوية داخل الجانب التنظيمي والهيكلي. فمناضلو قفصة وسيدي بوزيد والقصرين رؤوا أنهم كانوا من الفاعلين من مواقع متقدمة في ثورة 14 جانفي ولكنهم في المقابل ظلوا في مناطق الظلّ داخل هياكل النهضة وفي مواقع قرار مؤسسات الدولة. ومن جانب آخر شكلت شريحة الشباب بالخصوص والنخب عموما ديناميكية لافتة خلال كامل فعاليات المؤتمر التاسع، حيث سمح لهم المؤتمر العلني الأول ببسط نفوذهم الصدد والفكري ضدّ الكلاسيكيين أو المتشددين (المشايخ) هذه الشريحة هي التي نراها ستمسك بدواليب الحركة ومفاصلها خلال المؤتمر الاستثنائي القادم وهي التي ستفصل بصورة قطعية بين بعدين متلازمين للحركة أي بين البعد السياسي والبعد الدعوي (العقائدي).كما أنها ستكون في صورة عدم إدراجها ضمن القائمات الانتخابية القادمة وعدم تمكينها من بعض الحقائب الوزارية والمسؤوليات المرموقة بمثابة القنبلة الموقوتة خلال المؤتمر الاستثنائي القادم. اعتماد رؤية الهلال في تطبيق سياسة البلاد إذا كان المؤتمر التاسع لحركة النهضة، قد أوقف النزيف وضمّد الجراح والكدمات، فإنه قد حافظ على طابع الحركة وطرق تسييرها ونمط أفكارها، بدعوى أن المرحلة الراهنة التي تمرّ بها البلاد تفرض على النهضة عدم القفز في اتجاه المجهول من خلال إدخال إصلاحات ومعالجات هيكلية وتنظيمية فكرية وسياسية، ايديولوجية وعقائدية وقاعدية، انفرادية ووفاقية على جسدها وروحها ونشاطها وبناها الذهنية والنفسية. لكن السؤال الذي لم تعالجه فعاليات هذا المؤتمر هو هل الذي لا يقرأ الواقع والوعي ولا يتفاعل مع حركة التاريخ والمجتمع يمكن أن تنتظره الحياة؟ هذا السؤال الوجودي في حياة النهضة ستجيب عنه نتائج الانتخابات القادمة، فإما أن تعزز النهضة من نفوذها داخل البلاد والعباد أو أنها ستتراجع في هذه المنطقة وفي تلكم المناطق ?وفي أيّ حال من الحالتين ستعيد النهضة تشكلها فكرا وممارسة طبقا لموازين قواها الانشطارية.