هذا سؤال مباشر نريد له جوابا مباشرا.. جوابا شافيا بعيدًا عن المواربة والمراوغة وازدواجية الخطاب.. جوابًا ينهي حرب البسوس والغزوات العنترية ويريح قطاعًا من أهمّ القطاعات التي مازلنا نعوّل عليها لتأمين الانتقال الديمقراطي رغم محاولات اعاقته عن أداء مهامه. لقد عانى قطاع الاعلام طويلا من التدجين والتوظيف وعانى من ورائه الاعلاميون إلاّ من رحم ربّك من الشرفاء والمناضلين من امتهان التطبيل والتلحيس للسلطة وللحزب الحاكم فتحوّلوا إلى «مزيّناتيين» ومنتجي مساحيق وأبواق دعاية وسقط عدد منهم في مستنقع «صحافة» المجاري التي يحقّ ان ننعتها بصحافة العار... والعائدة اليوم في جبة جديدة... ثمّ فاجأت الثورة الجميع بمن فيهم الذين شرعوا في المشاورات لوضع ترتيبات بوساطات خارجية مع السلطة القائمة على أساس المصالحة وكان الإعلاميون ممن ظهرت عليهم آثار المفاجأة فمنهم من واصل مهامّه النضالية، كما بدأها، ضمن المسار الثوري ومنهم من دخل جحره وإن وقتيا لعلّه يُنسي الناس شنائعه، ومنهم من برع في «تبديل الفيستة» فتحوّل بقدرة قادر الى مناضل، ومنهم عن قدّم نقده الذّاتي واعتذاراته الى الشعب وشرع في بناء شخصية اعلامية جديدة... لقد أصبحت حرية الاعلام بعد 14 جانفي أمرًا واقعا، ولعلّه التغيير الفعلي الوحيد، لكنّ المشهد العام يكاد لم يتغيّر في بعض عناصره، اذ ظلّت محاولات السلطة قائمة، منذ حكومة السبسي للسيطرة على الإعلام او توجيهه، وقد تكثّفت هذه المحاولات وتكشّفت مع حكومة الجبالي التي وضعت منذ الايام الأولى، نصْب عينيها مهمّة الهيمنة على الساحة الاعلامية، العمومية والخاصة.. فاستغلت ملفّات الفساد والانحراف لتجعلها ورقة ضغط بها تعيد الاعلاميين الى بيت الطاعة وهو ما حصل للبعض ممن برعوا وتفنّنوا في «قلبان الفيستة» بلا خجل وتحوّل المطلب القطاعي والشعبي في الكشف عن قائمة الاعلاميين الذين تورّطوا مع السلطة السابقة ماليّا وأمنيا إلى لعبة ابتزاز رخيصة تصنع العذرية للبعض وتشيْطن البعض الآخر... فجُوزيت الفئة الأولى بتطهير ملفاتهم من الشوائب وتمكينهم من المناصب فنالوا البركات جميعا وهو ما يحدث اليوم في بعض المؤسسات الاعلامية العمومية والخاصة... وعُوقبت... الثانية بمواصلة حملات التشويه والترويع والارهاب الفكري كما استمرّت «صحافة» المجاري «شغّالة» تهتك الأعراض وتشيع البلبلة وتنشر الاشاعات والمغالطات، فتشوّه المشهد الاعلامي الجديد بمال فاسد يضخّ من قوى الضغط القديمة الجديدة للتأثير على الوضع العام فاختلط الحابل بالنابل ولم يعد أحد قادرًا على التمييز بين إعلام حرّ موضوعي نزيه يريد ان ينقل للجميع بمن فيهم الحاكم هموم الشعب ومشاغله وتطلعاته وأحلامه وآماله وآلامه وغضبه ورضاه واحتجاجه وسخطه يتوق إلى فتح طريق مستقل في واقع ولادة عسيرة... وبين إعلامي موجّه مدجّن ملوّث بالمال السياسي يريد ان ينقل للشعب أسلوب تفكير السلطة ومخطّطاتها ويريد ان يسطّر للشعب حدوده والعُلب التي يجب ان يتحرّك فيها... خلط متعمّد بين مهمّتين لا شيء يجمع بينها... ولعلّ الفصل بينهما والحسم في أيهما نريد لإعلام ما بعد 14 جانفي ان يكون هو الاجابة الصريحة لسؤال البداية: إنّ «تطهير» الإعلام مهمّة عاجلة لكنّنا لا نريدها ان تقع «تحت الطاولة» في إطار التسويات والترتيبات والمقايضات والابتزاز مثلما حصل لملفّ نحو 80 ونيف من القضاة خرجوا بلا محاسبة وصدر تجاهم قرار «عفا الله عمّا سلف»ولم يسألوا لماذا فعلوا ما فعلوا؟ ومن أين لهم ما كسبوا؟ وما مصير ضحاياهم من الذين سُلّطت عليهم المظالم؟ في الإعلام، كما في القضاء كما في غيرهما من القطاعات الحسّاسة، لابدّ من وضوح الموقف ومن جرأة القرار ومن شفافية الاجراءات... فلا مجال لتعيينات الولاءات والمقايضات ولا مجال لوزارة تراقب الإعلام ولا سبيل الى أن ننتج سيء الذكر عبد الوهاب عبد الله جديد... إنّ الحرص على الابقاء على الفراغ القانوني الناظم لهذا القطاع يبيّت نيّة الهيمنة والاحتكار ويخطّط لسلطة الظلّ التي تتخفّى لتحريك المشهد الاعلامي والسيطرة عليه وقد وجب انهاء هذا الفرغ ولن ينجح ذلك دون تشريك أهل المهنة وهياكلهم المُمثِّلة...