لماذا هذا العنوان ولماذا الآن؟ الواقع أن الإعلام اليوم وبعد أن تحول إلى موضوع الساعة لم يعد حكرا على أحد بل إنه بات حديث العامة والخاصة وتحول إلى جدل مثير ما أن يهدأ حتى يعود بأكثر شدّة بين متحامل ومدافع، بين من يريد للإعلام أن يظل في قفص الاتهام على الدوام وبين غيور على مهنة ليست ككل المهن ولا يمكن لمن تستهويه ومن لم يعشق همومها ومشاكلها الاستمرار فيها. وإذا كانت الدول الراقية تعتبر الإعلام سلطة رابعة وعينا لا تنام تراقب كل السلطات حتى لا تتجاوز حدودها فإننا لا نزال نراها المهنة التي لا تعترف بالجميل لأصحابها... لا أحد اليوم ينكر أن الإعلام لا يحظى برضاء كل الأطراف فتلك غاية لا تدرك مهما كان مستوى هذا الإعلام، ولكن إعلامنا اليوم يعيش حالة ثورة لم تكتمل وهو حريص حتى الآن على أن يكون جزءا من الثورة ولأجل تحقيق أهدافها رغم كل النقائص التي لا يمكن إخفاؤها في أغلب الأحيان. فالإعلام والإعلاميون باتوا على ما يبدو الحل الأسهل والشماعة المتدنية التي تطالها كل الأيدي والقامات لتحميلها ما تعيشه البلاد من هموم ومشاكل أمنية وأزمات اقتصادية ومالية ومن تجاذبات سياسية وغلاء للأسعار وغياب للمستثمرين والسياح وربما من عودة للناموس مع حلول موسم الصيف، وإذا كان في ذلك الكثير من الحقيقة فإن فيه أيضا الكثير من الإجحاف والمجانبة للصواب وكما أن للإعلامي نصيبا من المسؤولية فإن للسياسي نصيبه أيضا وهو نصيب قد يتجاوز ما يتعين على الإعلامي تحمله لعدّة اعتبارات لعل أهمّها يرتبط بموقع وصلاحيات ودور كل منهما في تغيير المشهد الراهن أو التأثير فيه... وبكل بساطة أن الإعلامي لا يملك أكثر من استعراض الوقائع ونقل الحقائق حينا ورصد ما يطاله بصره وما يرصده من أخطاء أو تجاوزات وانحرافات في مجتمعه وهنا مربط المواقف ولم يتعودوا رغم مضي أكثر من عام على الثورة على أن يكون للإعلام موقع مختلف لم يعد ذلك الشيطان الأخرس ولكنه لا يحابي ولا يجامل.. قد يكون من السهل لغير أهل القطاع انتقاد المشهد الإعلامي بكل اختصاصاته، والحقيقة أن انتقاد المشهد الإعلامي من الداخل أشدّ مرارة بسبب ما خفي عن الأنظار من عراقيل وصعوبات لا يستهان بها كل ذلك إلى جانب أزمة الثقة الحاصلة بين أهل القطاع وهي مشاكل أن حوصرت فقد نكون قطعنا الكثير في طريق الإصلاح... والواقع أن الانطلاقة غير الموفقة للاستشارة الوطنية حول الإطار القانوني لقطاع الإعلام لا تعني بأي حال من الاحوال أن الإعلام في مشكلة مع الثورة وأن رجل الإعلام يحتاج للمصالحة مع الشعب ومع الثورة التي كان ولا يزال جزءا لا يتجزأ منها، بل إن أكبر دليل على ذلك هو أن الإعلام يأبى اليوم أن يغيب عن المشهد وهو يكاد يكون الحدث الأبرز والموضوع الأساسي لمختلف الحوارات والمنتديات واللقاءات الرسمية وغير الرسمية بما يعني أن موقع الإعلام اليوم في هذه المرحلة الحساسة لا يمكن أن يعود إلى الوراء أو إلى ما كان عليه قبل تاريخ 14 جانفي الذي استعادت معه الساحة الإعلامية حريتها المصادرة، ولا أحد اليوم أيا كان موقعه بإمكانه أن يغير هذا الواقع. على مدى سنوات كان أغلب الإعلاميين -وكنا بينهم- يترصدون نتائج التقرير السنوي لمنظمة «مراسلون بلا حدود» لسبب واحد وهو الاطلاع على موقع الإعلام في بلادنا بين بقية الأمم، كنا ندرك إنه واقع أسود وأن إعلامنا أبعد ما يكون عن التصنيف الذي يمكن أن يدفع للإحساس بالتفاؤل والرضا ولكن التقرير كان فيه من المعلومات ما لم يكن يتوفر للإعلاميين الذين كانوا يشعرون بالتمزق بين مطرقة سلطة جائرة ومتسلطة وبين سندان أصحاب المؤسسات الإعلامية أو تجار الإعلام المتنفذين، فالهيمنة كانت مزدوجة وكما كانت السلطة تفرض وصايتها المطلقة على وسائل الإعلام بمختلف ألوانها وتوجهاتها وقد وجدت لها في الكثير من المرتزقة الذين قبلوا المهمة ليس من دون مقابل وشوهوا الإعلام والإعلاميين فإن هم من أصحاب المؤسسات الإعلامية كان الكسب ولا شيء غير الكسب المادي وهو ما لم يكن يتحقق بدون إرضاء السلطة وقبول وصايتها والعمل تحت رايتها من أجل الحصول على الإعلانات التي كانت الوسيلة الأفضل لتكميم الافواه، وإذا رضيت السلطة أطلقت الحنفية وإذا غضبت جففت المنابع ومنعتها. ومن هنا فقد تحولت الإعلانات إلى وسيلة ابتزاز لا مجال لأصحاب المؤسسات الإعلامية إذا ما تعودوا على عائداتها الاستغناء أو التنازل عنها احتراما لحرية الرأي والتعبير أو تلبية لتطلعات دافعي الضرائب وانتظاراتهم. الحديث عن الإعلام لن يتوقف عند هذا الحد وسيستمر وتستمر معه الانتقادات والاتهامات للإعلام والإعلاميين وسيكون من غير الممكن أن نتجه لإصلاح ما يجب إصلاحه في المشهد الإعلامي دون التوقف عند تلك الانتقادات ما تقبلنا منها وما لم نتقبل ومراجعة ما يجب مراجعته بكل ما يعنيه ذلك من تشريك واستئناس بكل الآراء والتجارب.. لذلك فإن رسالتنا لكل الذين يسعون سرا أو علنا للهيمنة على الإعلام لا تؤثموا الأحلام ولا تجرموا الخيال ولا تقفوا دون حرية الرأي والتعبير واستثمروا في هذا المناخ الجديد الذي جلبته الثورة لبلادنا وتذكروا أنه كلما كان الإعلام راقيا صادقا سيدا في مواقفه وأهدافه كلما كان في خدمة الثورة...