لم تكن الساحة السياسية مستعدة لتلك الرجّة التي هزّت الضمير الوطني، ولا كانت الاطراف المتصارعة تتخيل ان يصل حجم الخطر المحدق، الذي تحدثوا عنه طويلا على المستوى النظري، بقادر ان يتحول الى هذا الحجم من الرعب على الهواء مباشرة. صحيح ان الساحة كانت شبه مهيّأة لعملية امنية أو حتى ارهابية في أقصى الحالات قد توقع ضحايا لكنها قد تكون ايضا القشّة التي تقسم ظهر الجماعات المتطرفة، لكنها فوجئت بهذا الكمّ من التكفير والتحريض والاستعداد للقتال، بشكل كان الجميع يعتقد انه حكر على بلدان في أقاصي المعمورة، وانه لن يصل الى تونس الا متأخرا. وقد تكون القوى السياسية بُهتت وفوجئت بالكفن الذي يُرفع في وجه الحكومة والدولة والبلاد والشعب والثورة ايضا، لكن حركة النهضة بالخصوص، والتي وُجّه اليها التهديد مباشرة، ونالت الجزاء الاكبر من التكفير والثلب والنعت بالتبعية لامريكا وبعد استقلالية القرار، وبالطاغوت أيضا، لكنها استطاعت ان تتدارك الموقف بسرعة، وتستوعب الصدمة، وبل وتمر مباشرة الى توظيفها والاستفادة منها الى اقصى حدّ، بل قد تكون وجدتها طوق نجاة، فكّت من حول رقبتها كثيرا من المخانق الداخلية والخارجية والتي أوشكت ان تضعها في زاوية حادة، سواء تجاه امريكا وجريمة الاعتداء على سفارتها، او تجاه المعارضة واستحقاقات المرحلة القادمة. فقد استطاعت النهضة الحاكمة، والتي هي بالمفهوم الامريكي، لازالت قيد التّجريب، ان تقول للعالم الخارجي: أنظروا انا ايضا مُستهدفة ويقع تكفير حكومتي على الهواء مباشرة، وانا أيضا تصرفت بحزم مع هؤلاء الى درجة آلمتهم، وأنا أيضا لا ادخر جهدا في مكافحة الارهاب. وبغضّ النظر ان كانت نجحت في مساعي اقناع الغرب بجدوى تجدد الثقة ام لا فانها بالمقابل نجحت كثيرا في الالتفاف على أهم المطالب الداخلية، ونجحت في جلب الانظار وصُنع الحدث خلال اسبوع عيد الاضحى الدامي، حيث يمكن ملاحظة الاهداف التي سجلتها في مرمى المعارضة بالشكل التالي: 1)تراجعت نهائيا مسالة انتهاء الشرعية وكادت تختفي نهائيا من وسائل الاعلام 2)بهت الحديث عن المبادرات ووجدت مبادرة الاتحاد نفسها في الصف الثاني من اهتمامات المتابعين وطغت بالمقابل صورة الامام «الذي انتخبه المصلون» يلوّح بكفنه، على كل ما عداها من اهتمامات، الى ان اصبح حديث العام والخاص ونجم وسائل الاعلام في تونس والعالم. 3)غاب الحديث بشكل شبه كامل عن الوفاق وتعديل الحكومة وحيادية وزارات السيادة وغيرها من المسائل السياسية التي كانت المعارضة تطرحها بشكل كبير وملحّ على الحكومة قبل ايام من عيد الاضحى، واصبحت تقريبا من الماضي الان، واستقرت حكومة الترويكا لوحدها في سدة الحكم، واحكمت قبضتها اكثر على وزارات السيادة. هذه الضربة الموفقة التي غنمتها النهضة من حليفها وغريمها في نفس الوقت التيار السلفي، أعادت عديد المسائل الهامة والقضايا الحارقة الى درجة متدنية في سُلّم اهتمامات الراي العام والاعلام، لكن بالمقابل كان لها تاثير على مختلف مكونات المشهد السياسي والاجتماعي والاعلامي في الساحة، والتي تحاول رغم مفاجأة الكفن، وانتقال المعركة السياسية من أروقة المجلس التاسيسي ومكاتب الحكومة والاحزاب الى فضائيات وعوالم من المصطلحات والقيم التي لم يألفها التونسيون ولم يتمرسوا بعد على أبجدياتها. ويمكن بالتالي من خلال القاء نظرة على حراك القوى السياسة والاجتماعية ان نستشفّ التأثير السلبي لدخول التنافس السياسي الى مجالات من العنف والتهديد والتحريض الصريح، على المشهد الوطني، وما يتركه من حالة انكماش وتوجّس وريبة، وعدم قدرة على تمييز الفعل السياسي من «التدافع» العُنفي، وسيادة منطق التناحر على حساب منطق التنافس. الاتحاد لازال هو المحور رغم كل ما احاط بالاتحاد من محاولات التفاف وما سُلّط عليه من ضغوطات الا انه استطاع ان يصمد خلال الفترة الاخيرة أمام موجة عاتية من التشكيك وصلت الى حدود تجدد محاولات الاعتداء على مقرّاته، والتهديدات المستمرة لمناضليه وقياداته، الا انه كان أكثر حكمة ودراسة بإدارة المعركة السياسية والنقابية، واستطاع بدربة أن يتحكم في خيوط التجاذب السياسي ويجعل من مبادرته هي القاعدة، وما يأتي غيرها هو المكمّل او المنقّح. وهذا الدور، وان جلب له مزيدا من الاعداء، فانه بالمقابل مكّنه من اختراق جدار الصمت، ووضع الامور في مساراتها، خاصة بالنسبة لمسائل كالشرعية الدستورية، والاستحقاقات الانتخابية، والوفاق الوطني، والهيئات التعديلية، وغيرها من الاكراهات التي كانت الحكومة تحاول تجنّب الوقوف أمامها، أو تقاسم النظر فيها مع الآخرين. اضافة الى ذلك واصل الاتحاد تمسكه بثوابت العمل النقابي، وكان له الدور الابرز في فكّ اشكالية دار الصباح، وما أبلاه السيد سامي الطاهري عضو المكتب التنفيذي المكلف بالاعلام، من تضامن مع صحفيي وعملة الدار، والذي أثمر حلحلة للاشكاليات العالقة هناك، انعكست مكاسب لقطاع الاعلام عموما. اضافة الى المكاسب التي لازال الاتحاد يحققها في مجالات العمل النقابي والتفاوض والضغوطات والتسويات التي زادت في شعبيته رغم محاولات التشويه المتواصلة والتي احتدت في الايام الاخيرة بشكل لم يسبق له مثيل. الا انه استطاع ان يثبت مرة اخرى انه اللاعب القادر على المسك بجميع الملفات، والمهيّء فعلا ليكون الشريك الضامن، ويكون البوصلة التي يمكنها ان توجّه سفينة الوطن نحو مرافئ النجاة. نداء تونس يتراجع لم تكن عملية تطاوين ومقتل الشهيد لطفي نقّض سهلة على حزب نداء تونس، فقد سدد القاصدون بها تحجيم الحزب، ضربة كبرى استطاعت ان تجعل حزب سي الباجي ينكمش على نفسه، ويعي ان حجم التحديات ليس سهلا، وان الخصم اعنف وأقوى مما كان يتوقّع، وان يدرك ان يلعب في ميدان كلّه ألغام يمكن ان تنفجر في وجهه في أية لحظة. هذه الضربة أربكت القائمين على حزب نداء تونس ولخبطت جهودهم وجعلتهم يركزون فقط على كيفية الخروج بأخف الاضرار من «غزوة تطاوين» ويجنبوا بقية مناضليهم مزيدا من العنف، خاصة وقد أصبحوا الهدف رقم واحد لكل القوى الجديدة والقديمة، سواء التي تدعي الشرعية الثورية، او تلك التي تدعي العصمة الدينية، او حتى القوى البارزة حديثا والتي تعتقد انها وحدها الكفيلة بحماية « الثورة» من غول اسمه نداء تونس. ولا يستطيع احد ان ينكر ان الضربات أثّرت بسرعة على مردود الحزب السياسي رغم المقابلات المتواصلة والمكثفة لرئيسه الباجي قائد السبسي مع السفراء والقناصل والمسؤولين الاجانب، الا ان اشعاعه الداخلي شهد بعض الانكماش، نتيجة الخوف والتوجّس من نتائج الانضمام الى حزب أصبح يصنّف رسميا «العدوّ رقم واحد للثورة والشعب» في ادبيات الحُكم وأنصاره، وفي تقارير الميليشيات والروابط واللجان وما لفّ لفّها من أسماء تذكّر بجمهوريات الموز زمن الانقلابات. الجبهة الشعبية تنتظر رغم مواصلة نشاطها العادي وتكوينها لمزيد اللجان والمقرات الجهوية الا ان نشاطها يشهد نوعا من الانكماش، ربما هو انتظار لما قد تسفر عنه معارك الاستقطاب الثنائي، او هو ربما نتيجة تفاجئ بما يجري، وبالنمط الجديد الذي أصبحت القوى الاخرى تدير به معاركها، لكن هذا لا ينفي ان الجبهة تريد وتسعى لان تحتل المكانة التي تليق باليسار والقوميين في المشهد السياسي، باعتباره ضمير هذا الشعب ووقود معاركه الكبرى. وقد تكون قيادات الجبهة، رأت ان الوقت لازال مبكرا لاستنزاف جهودها في معارك لن تصب حاليا الا في مصلحة القوى الحاكمة او الطرف الاخر للاستقطاب الثنائي، فاختارت ان تدّخر جهودها للمعارك الكبرى التي تسعى فيها، حسب ما صرح كل من السيد شكري بلعيد والسيد حمة الهمامي، ان تكون هي القوى الرئيسية التي تمر عبرها كل المشاريع المستقبلية للبلاد.