مؤشران اثنان لطالما مثلا البوصلة التي تحدد من خلالها القوى التقدميّة العربيّة مدى شرعيّة أي نظام سياسي عربي، المؤشر الأول هو مشروع النظام الاقتصادي والاجتماعي المتبع من الدولة وارتباطه بقوى الشعب العامل المطالبة باقتصاد وطني غير تابع لدوائر الهيمنة العالميّة وبتوزيع عادل للثروة يمكّن الطبقات المسحوقة من تدارك حالة الاستغلال والغبن والفقر الذي تعيشه، أمّا المؤشر الثاني فيتمثّل في الموقف من القضيّة الفلسطينيّة قضيّة العرب الأولى. هذان المؤشران مثّلا في سنوات الخمسينيات والستينيات أهم المحددات السياسيّة التي طبعت الأنظمة العربيّة الثوريّة. اليوم وبعد ما سمي بالربيع العربي يبدو أنّ المؤشرين لم يعودا ملحين وحاضرين بذات القوّة في القرار السياسي للأنظمة الصاعدة التي وجدت نفسها على رأس السلطة في هذه البلدان، رغم محافظة الجماهير الشعبيّة على نفس البوصلة مضاف إليها مؤشر جديد يتمثّل في الدفاع عن الديمقراطيّة وحماية الحقوق والحريات. على خلاف ما هتفت به الجماهير الثائرة في تونس ومصر وليبيا واليمن من شعارات تنادي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية واستقلاليّة القرار الوطني وتحرير فلسطين فإن النظم الصاعدة إلى دفة الحكم والتي تنتسب في غالبيتها إلى الإسلام السياسي وتنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، قد خيبت الآمال، حين وجدت نفسها تستنسخ نفس المنوال الاقتصادي للأنظمة المتهاوية وتجترّ ذات علاقات التبعيّة السياسيّة للدول الكبرى وتقف على الحياد ممّا يحاك للقضيّة الفلسطينيّة إن لم تكن هي نفسها ضالعة وتكتفي بطرح نفسها بوصفها وسيطا إنسانيا أو عرّابا سياسيا بين الضحيّة والجلاّد. مع فائض من الشعارات التي تتحدث عن الأخوّة الإسلاميّة ووحدة المصير العربي المشترك ولا تتردّد في العزف على مشاعر الجماهير العربية بالتلويح بقرارات حاسمة مع العدو الصهيوني يدرك الجميع أنّها مجرد منسوب مرتفع من العواطف المنافقة سرعان ما سيرتد إلى مستوياته الدنيا مع أوّل تهديد رسمي من دول الرعاية للمشروع الصهيوني، أو تلويح بوقف المساعدات الاقتصادية والاستثمارات وتجميد القروض. يتصاعد الحراك الاجتماعي المطالب بالتنمية والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة في دول ما سمي بالربيع العربي وتقف الحكومات لامبالية وعاجزة عن الردّ عن هذه المطالب التي تكتفي بتجريمها والتعامل معها مرّة بالتسويف ومرات بالقبضة الأمنيّة لنفس الآلة التي كانت تستعملها النظم المتهاوية لإخضاعهم وإسكات أصواتهم. وتستمرّ وزارات الاقتصاد بإتباع نفس الوصفات التي سبق وأن قدمها صندوق النقد الدولي لأسلافهم بل لعلّهم هم نفسهم من تسلّم هذه الوصفات، بالتفويت في القطاع العام والتقشّف والزيادة في الضرائب ورفع الدعم عن المواد الأساسيّة ورفع الأسعار. ويأتي العدوان الأخير على غزّة لينتشل هذه الحكومات من عزلتها ويمكّنها من فرصة لاستعراض ثوريتّها الكذّابة والهاء الجماهير المنتفضة لتحقيق مطالبها الملحّة في الشغل والحرية والكرامة الوطنيّة. لكنّ زيف ادعاءاتها سرعان ما فضحته الدماء الطاهرة المتدفقة في غزّة، لتنكشف حقيقتها عارية وهي تجد نفسها اليوم تقوم بنفس الدور الذي كانت تؤديه تلك الحكومات العميلة وهي ترقب حرب التطهير العرقي الذي تقوم به آلة القتل الصهيونية ضدّ الفلسطينيين العزل إلا من إرادتهم وبعض الصواريخ محدودة التأثير التي حصلت عليها وللمفارقة عن طريق حزب اللّه وسوريا وإيران التي تعدّ من قبل هذه الأنظمة الإسلاميّة الصاعدة محور الشرّ الإقليمي الأوّل قبل حتّى دولة الكيان الصهيوني. زيارات استعراضيّة «سياحيّة» لغزّة لوفود من مصر وتونس وليبيا ولقاءات رسميّة في مصر للساسة المصريين مع قيادات الجيش الصهيوني ومكالمات هاتفيّة بين أوباما ومرسي لنزع فتيل التوتر والتصعيد -هكذا- وفرض الهدنة على الطرفين. نفس الدور الذي كان يقوم به الرئيس المصري حسني مبارك وذات المواقف التي كان يصدرها بن علي مع اختلاف وحيد في الموقف الليبي الذي امتلك حكمة القطيع ولم يعد يمارس لعنة القطيعة مع الكيان الصهيوني وصارت لغته أكثر واقعيّة وعقلانيّة وتسامحا. لقد كان رئيس المخابرات المصريّة - الذي توفي في ظروف غامضة- السيّد عمر سليمان ينوب كل العرب في الضغط على المقاومين الفلسطينيين لقبول الهدنة وإخراج الجيش الصهيوني من مأزقه العسكري، أما اليوم فقد كسبنا من الربيع العربي أن صار لنا في كل دوله العشرات من عمر سليمان يمارسون نفس الدور وبنفس العقليّة الإنتهازيّة .