بين المئات من المناضلين الذين جمعتهم لحظات الفرز الثوري الحقيقي أيّام الجمر وجدناه، وفي ذات المكان المهيب حيث ينتصب مجسّم عربة الشهيد محمد البوعزيزي التقيناه، وعلى الرغم من السنتين المليئتين بالإحداث والتحولات التي غيّرت وجه تونس وطال تأثيرها المنطقة والعالم فإن الكلمات ظلّت كما هي على لسانه وعلى لسان مناضلي سيدي بوزيد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والشغل والتنمية. كانوا على الهامش من الاحتفالية الرسميّة ولكنهم كانوا في القلب من الذكرى يحيونها بكل اعتزاز وثبات، يتذكرون تفاصيل ذلك اليوم 17 ديسمبر وتتدفق حرارة الذكرى في قلوبهم وكأننّا بجسد البوعزيزي الطاهر لا يزال مشتعلا وروحه الطاهرة لا تزال تخيّم على المكان وتستصرخ أرواح الأهالي أن يثاروا من قتلته وقتلة العشرات من شهداء الثورة. هناك وفي هذا السيل المتدفق من الدلالات التاريخيّة التقينا الأستاذ خالد عواينيّة لنجري معه الحديث التالي عن الذي تغيّر في سيدي بوزيد بعد سنتين على انطلاق شرارة ثورة الحرية والكرامة؟ ماذا بقي في ذاكرة خالد عواينية من يوم 17 ديسمبر 2010 ؟ - ما بقي في الذاكرة، صورة تلك الشبيبة الرابضة أمام مقر الولاية بعد إحراق الشهيد محمد البوعزيزي لجسده الطاهر. لن أنسى حركاتهم وهم يتنقلون بين عربة الخضار وباب الولاية، يتجمعون مجموعات صغيرة ثم يتفرقون. كانت هناك حالة قلق، كان هناك شيء ما يدور في الخواطر وفي الأذهان، شيء ما ينتظر أن يفصح عنه. يومها بدأ المناضلون في التجمهر أمام مقر الولاية، كانوا من المواطنين والنقابيين والسياسيين، كنا نتبادل النظرات ولم يكن هناك كلمات. بعدها وصلت سيّارة «ايسيزي»، نزلت منها مجموعة من النسوة وشرعنّ في البكاء والعويل، اتّجه الجميع إليهنّ أمام باب الولاية الذي كان موصدا -عشية جمعة إدارات لا تعمل - أصوات البكاء والعويل دفعنا لرفع شعار «بالروح بالدم نفديك يا محمد» كانت أصواتنا متهدجة وخافتة في البداية ثم بدأ حناجرنا شيئا فشيئا ترتفع بصوت عال أخذ في الارتفاع. تحررت الحناجر على مشهد خالة البوعزيزي وهي ترفع قبضة يدها في الهواء تصرخ بكلمات لم أعد أتذكرها، وهو ما دفعنا لعدم مغادرة المكان، فلم يعد من الممكن التراجع، كان هناك مناضلون من مختلف ألوان الطيف من مختلف الأعمار لن أذكرهم فهم معروفون بعضهم البعض، تواجدهم كان الحافز للشباب الثائر.. كيف لي أن أنسى تلك اللحظة الفارقة وتلك الصورة الموغلة في الرمزيّة، عندما صعد احد الشباب على عربة الشهيد البوعزيزي ثم أخذ يرمي الولاية بما تبقّى فيها من غلال. خلافا للسنة الفارطة لاحظنا هذه السنة أنكم ومجموعة من المناضلين تتخذون مسافة من الاحتفالية الرسميّة وتدعون إلى المقاطعة؟ - هي لست مقاطعة سلبيّة بالغياب بل مقاطعة نشيطة للاحتفالات الرسميّة التي أقصي منها الجميع واقتصرت على الجهات الرسميّة في محاولة لتدجين الحدث الثوري وتحويله إلى احتفالية باهتة، لقد أراد المناضلون من خلال المقاطعة أن يوجهوا رسالة للجميع، مفادها أننا لا نزال كما كنّا يوم 17 ديسمبر 2010 صامدون لم تدنسنا السياسة وبأنّ نفس المناخ الذي ثرنا عليه لايزال قائما، وبأن الرغبة لا تزال تخالجهم في كسر القيود ومواصلة المسيرة الثوريّة. ملحمة 2010 نجحت لأنها أنجزت من خارج الأطر الحزبية والتنظيمية، لذلك كان لابد من محاولة إحياء هذا النهج الجماهيري الشعبي. ولكن ما تم من اصطفافات قبل 23 أكتوبر والاستعداد والتسخين للانتخابات الجديدة هو الذي حال دون ذلك، إنها الحسابات السياسيّة. ومتى تكون الحسابات الضيقة والبحث عن الربح دون خسارة يموت الألق وتنتكس الشعلة الثورية ولو إلى حين. لو تذكر لنا السبب الرئيسي للمقاطعة هل هو عدم تشريككم في التنظيم أو هو احتجاج على الوضع التنموي في الولاية ؟ - سبب المقاطعة يتجاوز الجانب البروتوكولي الشكلي بل يتعلق بالمطالب الجوهريّة التي من أجلها تفجرت ثورة الحرية والكرامة، فقد جاءت المقاطعة النشيطة احتجاجا على الوضع التنموي المزري الذي تعيشه الولاية التي زادت وضعيتها تدهورا، لأن ما رفع من شعارات، كالتشغيل والتوزيع العادل للثروة والحياة الكريمة لم ينجز منها شيء لاعتماد الحكومات التي جاءت بعد الثورة ومنها هذه الحكومة الشرعيّة المؤقتة نفس المنوال التنموي القديم الذي أدّى إلى الثورة. وهو ما جعل نفس المناخ الذي استدعى رفعها سابقا لا يزال قائما بل ازداد سوء وكبرت الهوة بين المشهد السياسي الرسمي وبين ما نعيشه في الواقع. ما تعليقك على ما وقع أثناء حضور رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التأسيسي؟ - أولا يجب التنبيه إلى خطورة ما يروّج حول الجهة التي تقف وراء ما حدث وتوزيع الاتهامات يمينا ويسارا، وكمتابع لما حصل أؤكد أنّه لم يكن سوى ردة فعل شعبيّة عفويّة على كلمات قالها رئيس المجلس الوطني التأسيسي الذي استهل خطابه بالقول في مثل هذا اليوم دون ذكر تاريخ 17 ديسمبر في حين أكّد في كلامه على ثورة 14 جانفي المجيدة، وهي عبارة استفزت الحاضرين كثيرا لأنهم يؤمنون إيمانا قاطعا وقويا أن الثورة انطلقت من المكان الذي يقف فيه حضرته، وأن يوم 14 جانفي لم يكن سوى تتويجا وثمرة من ثمرات ما بدؤوه. لذك أؤكد أن تلك الصرخة المدوية «ديقاج» التي أطلقت في وجه الوفد الرسمي كانت مباشرة وتلقائية من الجميع شيوخا وأطفالا ونساء وشبابا، ثم ألقيت بعض الحجارة والطماطم . على كل حال ما يمكن الخلوص اليه من الواقعة أن ما حدث مع الرئيسين كان بمثابة الرسالة لهما بوصفهما مسئولين في السلطة وبقطع النظر عن مكانتهما الرمزيّة. وما على السلطة المؤقتة إلا أن تفهم هذه الرسالة وتحاول فك شفرتها الاحتجاجيّة وتتعلم الإنصات لصوت الغاضبين وعدم الاكتفاء بالشجب والإدانة والبحث عن جهة أو حزب لتحميله المسؤولية. ما جرى كان ردّ فعل شعبي عفوي من بعض شباب سيدي بوزيد لا يخضع لأية أجندات سياسيّة أو حزبيّة ولا يستهدف هيبة الدولة ولا سمعتها كما يروّج البعض فأهالي سيدي بوزيد خير من يعرف معنى الوطنيّة ويحافظ على سمعة الدولة وهم من وهبوا دماء أبنائهم بالأمس واليوم من اجل كرامة الوطن وعزته فلا يزايدا علينا مزايد في الوطنيّة. هل تؤشر حالة الاحتقان في سيدي بوزيد عن إمكانية العودة للاحتجاجات ؟ - ما أقوله باختصار أنّهم إذا كانوا قد ضحكوا على آبائنا وأجدادنا بالأمس وسرقوا منّهم ثمار الاستقلال الذي من أجله ضحّوا بدمائهم وأرواحهم فإنّ المناضلون لن يسكتوا اليوم إلاّ متى تحصلوا على حقهم في الحرية والكرامة والتنمية العادلة والقضاء على الفوارق بين الجهات، ولان توقفت الاحتجاجات في الجهة -وقد توقفت طويلا جدا- بعد مطالبة رئيس الجمهورية الأهالي في الذكرى الأولى بتمكينه من فرصة 6 أشهر وقد مكنّ منها ويزيد هو والحكومة. فإنّ المناضلين اليوم يقفون وقفة ثانية لكن لتقييم أدائهم والتحضير لجولة ثانية من الاحتجاجات لنيل حق الجهة في التنمية والتشغيل ومحاسبة قتلة الشهداء ومحاسبة رموز الفساد بعيدا عن حسابات الربح والخسارة السياسية والتجاذبات الحزبيّة وحمّى الانتخابات القادمة.